مهرجان مونبلييه لسينما البحر الأبيض المتوسط، كرّم في دورته الأخيرة ثلاثة من السينمائيين العرب: فاتن حمامة، هنري بركات ومارون بغدادي. تكريم يشكل مناسبة ذهبية للحديث عن جيلين من السينمائيين العرب: جيل أعطى وأسس، وجيل لا يزال يجتاز خطواته الأولى للخروج بالسينما العربية من مأزقها. ليس مهرجان "مونبلييه" لأفلام بلدان البحر الأبيض المتوسط، في الجنوب الفرنسي، حدثاً له أهمية مهرجان "كان" أو "البندقية"، أو حتى أهمية "مهرجان دوفيل للسينما الأميركية"، لكنه مع ذلك واحد من آخر الحصون التي لا تزال راغبة في الدفاع عن "السينما الأخرى"، السينما المختلفة، التي، لو سارت السينما الأميركية طويلاً على وتيرة انتصاراتها الحالية، ستضم قريباً حتى السينما الفرنسية والبريطانية! ضمن اطار مساره المختلف هذا، اعتاد مهرجان مونبلييه أن يكرّم، مرة في كل عام، بعض المخرجين الآتين من خارج السيطرة الأميركية، أو المركزية - الأوروبية. ولقد كان التكريم في هذا العام من نصيب ثلاثة سينمائيين عرب، ينتمون - بشكل أو بآخر - الى الجيلين، اللذين صنعا، على تفاوتهما، أجمل ما حققته السينما العربية حتى اليوم: هنري بركات وسيدة الشاشة العربية من ناحية ومارون بغدادي من ناحية ثانية. طبعاً لم يكن تكريم بركات وفاتن حمامة وبغدادي، المشاركة العربية الوحيدة في مهرجان مونبلييه، بل كانت هناك أفلام عربية عديدة معروضة، من "طوشيا" للجزائري رشيد بلحاج، الى "مرسيدس" للمصري يسري نصر الله، الى آخر أفلام المغربي محمد عبدالرحمن التازي، وغيره. ولكن مع ذلك فإن الحدث الأهم يبقى ذلك التكريم المثلث، لأنه من ناحية يعيد الاعتبار لمخرج قدير عرف طوال ما يقرب من أربعة عقود كيف يصنع سينما تنتمي الى ذلك التيار الذي يقف خلف التجديد السينمائي العربي هنري بركات، ويضع في واجهة الأحداث السينمائية فنانة لم تكف عن إدهاشنا منذ ما يقرب من نصف قرن فاتن حمامة، ومن ناحية ثانية كرّم - عبر مارون بغدادي - تلك السينما العربية الجديدة التي تصنع منذ نحو عشرين عاماً، وتناضل في الأوطان أو في المنافي وعبر شتى الأساليب واللغات والتوجهات لاحتلال مكان لها تحت الشمس. ولربما كانت المصادفة وحدها هي التي جمعت - في هذا التكريم الثلاثي - بين بركات وفاتن حمامة من جهة، ومارون بغدادي من جهة ثانية، لكن من فضائل هذه المصادفة انها ترسم الخيوط الصالحة التي تربط بين جيلين وعقليتين وديناميتين في الوقت نفسه. سيدة الشاشة العربية نبدأ بفاتن حمامة التي إذا كانت هنا تكرّم انطلاقاً من الدور التاريخي الذي لعبته في مسار السينما المصرية، فإن ما يمكن التوقف عنده هو كونها تشكل - في الوقت نفسه - رابطاً بين جيلين، فهذه الفنانة الكبيرة التي كان لحضورها دور كبير في القيمة التي تسبغ اليوم على نوع معين من الأفلام المصرية المنتمية الى الجيل الوسيط سينما صلاح أبو سيف، يوسف شاهين، كمال الشيخ، عز الدين ذو الفقار، وخاصة سينما هنري بركات لا تزال حتى اليوم في أوج عطائها، بل وتساهم بين الحين والآخر مساهمة أساسية في السينما التي ينتجها أبناء الجيل الجديد، من خيري بشارة يوم مر، يوم حلو، الى داود عبدالسيد آخر أفلامه "أرض الأحلام". إذن، من "لك يوم يا ظالم" الى فيلم خيري بشارة، ومن "صراع في الوادي" الى "أرض الأحلام" واكبت فاتن حمامة مسيرة أجيال عدة من السينمائيين، وكان اداؤها من معظم أفلام هذه الأجيال، ضمانة لمستوى مرتفع من الجودة، ولاقبال جماهيري اعطى الفيلم الجاد، مشروعيته، بل ونجاحه التجاري الذي ما كان مؤكداً لولاها على أي حال. منذ فيلمها الأول "يوم سعيد" من اخراج محمد كريم، الى آخر أفلامها عرض "أرض الأحلام" قبل اسابيع قليلة ساهمت فاتن حمامة في تلك العلاقة الحميمة والطيبة التي قامت بين الفيلم المصري وجمهوره، وساهمت بشكل أساسي في انتشار نوع من الأدوار الجادة التي غالباً ما أخرجت الأدوار النسائية في الفيلم المصري من نمطيتها السائدة. صحيح أن بعض أفلام فاتن حمامة عاد وأدخل تلك الأدوار في نمطية جديدة وجدها بعض المخرجين القليلي الموهبة جاهزة فأقبل عليها، لكن هذا لم يمنع تلك التي استحقت لقب "سيدة الشاشة العربية" عن جدارة، من أن تحلق عالياً في أدوار أخرى. وإذا كانت هذه الأدوار الأخرى هي التي زينت أفلاماً مثل "الحرام" و"دعاء الكروان" و"الباب المفتوح" و"الحب الكبير" و"الخيط الرفيع" فإنه لم يكن من قبيل المصادفة أن تحمل هذه الأفلام جميعها توقيع بركات. لقد مثلت فاتن حمامة في أفلام حملت تواقيع شيوخ السينما الجادة، ولكن أيضاً شبابها، كما جيل الوسط من حسين كمال، الى سعيد مرزوق في "أريد حلاً"، بيد أن هنري بركات كان دون شك المخرج الذي أعطاها أجمل أدوارها، ولسوف يظل مواصلاً عطاءه هذا حتى سنوات قريبة، حيث نراه يوقع الأفلام التي أعادتها الى مجدها بعد انقطاع مثل "لا عزاء للسيدات"، "أفواه وأرانب" و"ليلة القبض على فاطمة" وهي كلها أفلام أثارت نقاشات سياسية عديدة. ليس عبئاً على المنتجين في العام المقبل يحتفل هنري بركات بعامه الثمانين، دون أن يبدو عليه اليوم أنه بلغ هذه السن. وهو بدأ الاخراج في العام 1941، وقدم حتى اليوم أكثر من ستين فيلماً. وإذا كان معظم ما حققه بركات ينضوي ضمن إطار الميلودراما التقليدية، وأفلام الحب الأبدي المرسوم من حول شخصية مغنٍ فريد الأطرش، أو عبد الحليم حافظ بعواطفها المغالية وخيباتها الميلودرامية، فإن هذا المخرج عرف، وخاصة حين حقق نحو دزينة من الأفلام الجيدة، كيف يجعل من نفسه واحداً من أفضل الفنانين المصريين الذين تعاملوا مع قضية المرأة. حدث هذا في أفلامه الميلودرامية مثل "غلطة أب" و"حكم الزمن" و"قلبي على ولدي"، ولكن أيضاً وخاصة في أفلامه الأكثر جدية مثل "حسن ونعيمة" عن سيناريو لعبدالرحمن الخميسي، وهو الفيلم الذي أطلق سعاد حسني و"في بيتنا رجل" و"دعاء الكروان" ثم "الباب المفتوح" وتلك السلسلة التي ستحلق فيها فاتن حمامة، مروراً ب "الحرام" الذي يعد جوهرة حقيقية في تاريخ السينما المصرية. في الأفلام الأكثر جدية التي حققها هنري بركات، قد تطالعنا المواضيع بميلودرامية صارخة وهل "دعاء الكروان" و"الحرام" سوى فيلمين ميلودراميين في نهاية الأمر؟، ولكن بركات عرف كيف يستوعب الأسلوب الميلودرامي، ويصرخ من خلاله مدافعاً عن البسطاء المقهورين في المجتمع، وفي مقدمتهم المرأة، التي يظلمها المجتمع بإبقائها دائماً في موقع الدونية. في أفلامه هذه، والتي انطبعت بحرفية هائلة، غالباً ما استخدم بركات فاتن حمامة استخداماً أعطى مواضيعه مشروعيتها، وأعطى فاتن حمامة نفسها كما صرحت ل "الوسط" في حوار نشرناه معها قبل فترة قدرة على التألق، في أدوار عادت وصارت نمطية بعد ذلك. خاض هنري بركات في شتى الأنواع السينمائية، بل وكان واحداً من المساهمين الأساسيين في مرحلة "الفيلم المصري الذي انتج في لبنان سنوات الستين" يشهد على هذا فيلمه "سفر برلك" من كتابة الأخوين رحباني وتمثيل فيروز، بين أفلام أخرى. حقق الفيلم الغنائي، والميلودرامي والاجتماعي والوطني والسيكولوجي. لكنه عرف دائماً كيف يكون متوازناً مع نفسه، بحيث لئن كانت نجاحاته الكبرى نجاحات أساسية للسينما المصرية، فإن اخفاقاته لم تهبط أبداً عن مستوى الوسط. وهذا ما جعل له مكانة تكاد في بعض الأحيان توازي مكانة كبار سينمائيي جيل الستينات، انما دون أن يجعله هذا مخرجاً ملعوناً، يشكّل عبئاً على منتجيه. فأفلامه عرفت دائماً كيف تنجح وتجتذب الجمهور، وتوصل رسالتها رسالة العدالة الاجتماعية وضرورة حصول المرأة على حقوقها، والتقدم بشكل عام، بل ولقد حققت أفلام عديدة له أرقاماً قياسية في عدد الحضور. من هنا فإن تكريم هنري بركات في مهرجان مونبلييه يمكن أن ينظر اليه على أنه تكريم لأكثر من تيار ولأكثر من جيل في السينما المصرية، لأن هنري بركات يكاد يختصر وحده مسيرة ومسار هذه السينما، في صعودها وهبوطها، في نجاحاتها واخفاقاتها، وخاصة في تبجيلها لنجومها ورسم تلك العلاقة المدهشة التي قامت بين هؤلاء النجوم وجماهيرهم. وفي هذا المجال ربما يصح اعتبار هنري بركات واحداً من أفضل المخرجين المصريين الذين تعاملوا مع الممثل واعتبروه محور الصورة السينمائية في مقابل يوسف شاهين الذي ركز على ألعاب الكاميرا، وصلاح أبو سيف الذي جعل الأولوية للموضوع.... التباسات مارون بغدادي بالكاد يوازي سن مارون بغدادي نصف سن هنري بركات. وبالكاد توازي لائحة أفلامه خُمس لائحة أفلام مخرج "دعاء الكروان" و"الحرام". ولئن كان بركات قدم لفاتن حمامة أجمل أدوارها، وأطلق سعاد حسني وكوكبة أخرى من أفضل نجوم السينما المصرية، فإن مارون بغدادي عاش سنواته السينمائية الأولى وهو يحلم بإدارة فاتن حمامة أو سعاد حسني. فالسينما المصرية الجيدة، هي واحدة من الأسس التي قام عليها حب مارون بغدادي للسينما، حتى وإن كان اليوم يحتسب في خانة السينما الفرنسية، أو على الأقل في خانة السينمائيين العرب الذين اختاروا "المنفى" والعمل في الخارج مما اعطاهم هالة معينة، ومكن المتفوقين منهم من اثبات حضور، ربما كان تكريم مارون بغدادي اليوم في "مونبلييه" اشارة الى ثباته. فلئن كان تكريم هنري بركات وفاتن حمامة تكريما للمتقدم من السينما المصرية التي شهدت أفضل أيامها في سنوات الخمسين والستين، فإن تكريم مارون بغدادي هو تكريم لسينما عربية جديدة، لا تزال في أول الطريق للبحث عن آفاقها وهويتها. قد يكون مارون بغدادي حالة خاصة ومميزة، بين زملائه وابناء جيله. فنجاحه العالمي فاق نجاح أي سينمائي عربي آخر. والرحلة التي بدأها، سينمائياً، في بيروت سنوات الستين في فيلمه الروائي الطويل الأول "بيروت يا بيروت"، قادته اليوم الى هوليوود حيث يحضّر لتصوير فيلمه الجديد الذي سيكون هذه المرة بوليسياً سيكولوجياً، مع ممثلين هوليووديين من طراز رفيع. خلال تلك المسيرة، حقق بغدادي العديد من الأفلام التسجيلية في لبنان. وعن الحرب اللبنانية، التي كان "بيروت يا بيروت" أشبه بنبوأة عنها عرض الفيلم للمرة الأولى، خلال الأيام السابقة لانفجار نيسان - ابريل - 1975، حقق بغدادي العديد من أفلامه. ولئن ساد الابهام وشيء من الالتباس بعض هذه الأفلام فجعلها تهاجم من قبل أطراف معينة - وأحياناً متناقضة اجتماعياً وسياسياً - كما هو حال فيلميه "حروب صغيرة" و"الرجل المحجب"، فإن أفلاماً أخرى له من الطينة نفسها عرفت كيف تنال إجماعاً "بيروت يا بيروت" خاصة، و"أرض العسل والبخور". أما فيلمه "خارج الحياة" فعومل بقدر كبير من سوء الفهم، من ناحية موضوعه، في الوقت نفسه الذي كشف عن موهبة فنية ولغة سينمائية مميزة عند مارون بغدادي. لقد كان نجاح هذا الفيلم تجارياً - ولكن نقدياً كذلك عبر نيله جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان - دافعاً كبيراً لمارون بغدادي. لكنه في الوقت نفسه كان عاملاً أخرجه - نهائياً - من خانة سينما المؤلف، الى خانة المخرج الذي يشتغل على نصوص كتبها غيره، ويستدعى من أجل قوته التقنية ولغته السينمائية، لا لأن لديه شيئاً يقوله! الخيبة التي تعصر جيلاً علي أي حال، تكمن المشكلة الرئيسية في التعامل اليوم مع مارون بغدادي وسينماه في إطار سؤال أساسي: هل تراه ينتمي، بعد، الى السينما العربية؟ صحيح أن مارون بغدادي، حتى في فيلم - متميز - عن الثورة الفرنسية يروي حياة الثائر "مارا" ومقتله، عرف كيف يصب كثيراً من ذاتيته ويعبر عن مكامن قلقه ويحاول أن يصفي حساباته مع تاريخه الخاص وربما تاريخ الحرب اللبنانية، لكنه في أفلام مثل "الفزاعة" - انتاج تلفزيوني انكليزي عن قصة لباتريشيا هايسميت - و"فتاة الهواء" - عن حادثة حقيقية طنطنت بها فرنسا أواخر الثمانينات وتتعلق بامرأة تنقذ زوجها اللص من السجن بواسطة طائرة مروحية في قلب العاصمة باريس - في أفلام مثل هذه- انفصل مارون بغدادي عن ذاتيته السينمائية، ولم يحتفظ من "ماضيه" إلا بلغة مميزة، وحب للصورة، ومقدرة جيدة على إدارة الممثلين. فهل معنى هذا انه أصبح مجرد تقني متفوق؟ ليس تماماً. فحتى في أفلامه الأقل ذاتية وموضوعية، يكشف بغدادي عن اختيارات فكرية مخبأة، وعن مرارة الخيبة التي تعصر جيلاً بأكمله - فهو مثلاً جعل الشخصيات المتورطة في "فتاة الهواء" من بقايا ميراث خيبة ثورة الشباب في أيار مايو الفرنسي، وواضح أن بغدادي أقحم هذا الاختيار وركز عليه في فيلمه أملاً في أن يضفي على الفيلم طابعاً ذاتياً، لكنه مر بالنسبة الى الجمهور، بشكل عارض - على أي حال، إذا كان مارون بغدادي أقفل بفيلمه "خارج الحياة" مرحلة كاملة من عمله السينمائي، وافتتح ب "فتاة الهواء" المرحلة الجديدة التي تقوده اليوم الى هوليوود، فإن هذا السينمائي المولود في العام 1949، لا يزال في أول سنوات عطائه، ولا يزال يحلم بفيلم كبير عن لبنان، وربما عنه هو وعن لبنان. لأن بغدادي يقول ان "الفيلم الكبير" عن لبنان لم يتحقق بعد. هذا الفيلم ربما يحققه مارون بغدادي بعد مروره بهوليوود، وربما لا يحققه أبداً. ومن الممكن أن يكون - من ناحية أخرى - مخبوءاً في ثنايا الفيلم الذي يحققه اليوم جان - كلود قدسي في لبنان، أو في أكثر من ثنايا مشروع برهان علوية الجديد عن جبران خليل جبران. نقول هذا، لأن مارون بغدادي لا يكف عن اعتبار نفسه، بعد كل شيء، جزءاً من جيل وتيار. جزءاً من تاريخ لا يزال قيد التكوّن. وفي يقيننا أن تكريم مارون بغدادي في مهرجان مونبلييه، الى جانب فاتن حمامة وهنري بركات، هو تكريم - في شخص السينمائي اللبناني الشاب - لجيل كامل من السينمائيين اللبنانيين - والعرب - عرف خلال العقدين الفائتين كيف يخرج السينما اللبنانية - والعربية - من مأزقها، ويقدم حضوراً عالمياً وربما محلياً من علاماته، أفلام مارون بغدادي ومحمد خان وبرهان علوية وبدايات خيري بشارة، وانتاجات فريد بوغدير وناصر خمير ومحمد ملص وداود عبدالسيد ويسري نصرالله ونوري بوزيد وغيرهم، على ندرتها. ولكن من علاماته أيضاً خروج العديد من مخرجينا عن أفق سينمانا العربية وموضوعاتها ومن بينهم ميشال خليفي ومارون بغدادي نفسه، وربما محمود بن محمود، الى آفاق سينما أجنبية تعطيهم إمكانات التعبير عن شرطهم الانساني، ولكن خارج همهم المباشر: الاجتماعي والسياسي. مهما يكن، قد نحبّ أن نرى في هذا التكريم امكانية لانعكاس نجاح أبناء هذا الجيل داخل مجتمعاتهم، ووصولهم الى فرص ليست بعد متاحة في هذا الاطار. فلو حدث هذا تكون الدائرة اكتملت، ويكون تكريم سينما مارون بغدادي في "مونبلييه" اتخذ كل معناه.