"معرض القاهرة الدولي للكتاب" لا يمكن أن يكون حدثاً عادياً، أو مجرد تظاهرة روتينية تعاني مع مرور السنوات من الرتابة والجمود. كعادتها كل عام زارت "الوسط" أجنحة الكتب، وتجوّلت بين الندوات الصاخبة، وعادت بصورة عن الاجواء الثقافية والفكرية على الساحة المصرية والعربية. للوهلة الأولى، يخيّل الى زائر "معرض القاهرة الدولي للكتاب" أن بعض علامات التراجع الطفيفة ظهرت على أبرز المواعيد العربية للنشر والكتاب في دورته السابعة والعشرين: فحجم الاقبال بدا لنا أقل من السنة الفائتة، وربّما عاد السبب في ذلك الى تزامن توقيت المعرض مع فترة الامتحانات المدرسية والجامعية. وكمية العناوين المصرية الجديدة انحسرت بعض الشيء قياساً بالمواسم الماضية، وهذه مسألة دقيقة تتعلّق بصحّة الكتاب في العالم العربي والاعباء المادية والمعنوية التي تحاصره في مصر وخارجها، وسيطرة الوسائل السمعية البصرية والضغوط الاقتصادية على القارئ العادي، الخ. كما أن الوجوه المشاركة لم تتجدد هذا العام، خاصة على المستوى العربي. فأغلب الضيوف تخلّفوا عن المجيء، ما حرم الجمهور من فرص لقاء وتواصل ومشاركة في مزيد من النقاشات الخصبة، والامسيات الشعرية الممتعة. لكن معرض كتاب القاهرة يبقى هو إيّاه. حلبة صراع ومواجهة، ومختبراً للافكار والطروحات الجديدة، ومركز رصد لاتجاهات الرأي العام الذي يمثله الجمهور المحتشد في قاعة الندوات الكبرى والمقهى الثقافي، أو المتجوّل بين أجنحة الكتب، خير تمثيل. إنه مناسبة لجس نبض الحياة الفكرية في مصر والعالم العربي: ما جديدها؟ ماهي الاسئلة المطروحة؟ وكيف تتصدّى النخبة الثقافية والسياسية للتحديات الراهنة، عند هذا المفترق الحاسم الذي يفصل بين زمنين وقرنين وألفيتين؟ من هنا أن "الهيئة المصريّة العامة للكتاب" التي تشرف على المعرض، استوحت الشعار العام للمحاور المختلفة والنشاطات الفكرية الموازية، من المحاضرة التي ألقاها محمد حسنين هيكل في الاسكندرية قبل فترة بعنوان "مصر وتحديات القرن الواحد والعشرين". ومشاغل النخبة المصرية تجلّت منذ اليوم الاوّل، خلال اللقاء الذي يرافق تقليديّاً افتتاح المعرض، بين الرئيس المصري حسني مبارك وحشد من أهل الفكر والادب والفن والاعلام: حريّة الفكر أوّلاً، وقضايا التطبيع الثقافي بعد ذلك، في ضوء محادثات السلام مع اسرائيل. هكذا طرح المثقفون المصريون أسئلتهم وعبّروا عن هواجسهم ومواقفهم ورؤاهم، وتبادلوا وجهات النظر مع رئيس دولتهم في اطار ما أطلق عليه غالي شكري في مقالته في "الاهرام" تسمية "البرلمان الثقافي"، بعد أن أسف لقيام التلفزيون بنقله، ما يشجّع "ظاهرة المزايدات" اللفظية والمداخلات الاستعراضية. بعيداً عن هذه الاستعراضية، تحلّى لطفي الخولي الذي كان أول المتعاقبين على الكلام، بشجاعة وبنزاهة فكرية عندما بدأ بطرح قضية اعتقال عادل حسين الكاتب الاسلامي الذي ذكّر أنه "يختلف معه في الرأي" وقد أطلق سراحه بعد أيام ملمّحاً بعد ذلك الى قضية فيلم يوسف شاهين "المهاجر" من دون ذكر اسم المخرج أو شريطه. وكان ردّ مبارك صريحاً قاطعاً، أمام جمهور يتصّدره، للمرّة الأولى، شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق. هذا الردّ ما لبثت أن تناقلته وسائل الاعلام، وردّده المثقفون طوال المعرض، متمسّكين به تمسّك الغريق بخشبة خلاصه: لا مصادرة لأي أثر ابداعي أو عمل فكري "الا بحكم قضائي". أما في ما يخصّ قضية التطبيع فقال مبارك: "من يريد أن يطبّع فليفعل. ومن لا يريد فهو حرّ". وتوقف الحاضرون كثيراً عند مداخلة لطفي الخولي التي جاء فيها: "أنا شخصياً لم أكن أطيق اسرائيل، لكن لما الواحد ينضج ويشوف بيتغيّر ... أصبحت اليوم أتعامل مع العدوّ الذي لم أستطع أن أهزمه، ولم يستطع هو أن يهزمني. المطروح اذاً هو كيف أعيش صراعياً مع اسرائيل. أما أن أقف "محلّك سِرْ"، وأحتار في التطبيع أو عدم التطبيع، فتلك قضايا تخطّاها الزمن...". وردّ سعد الدين وهبة على الخولي بحدّة، فاشتعلت القاعة بالتصفيق... اخطر من المصادرة ! القاعدة واضحة للجميع إذاً: القضاء هو السلطة الوحيدة المخوّلة البت في منع نشر أي كتاب أو عمل فنّي، ولا مصادرة للفكر والابداع. تشهد على ذلك الدعوى التي ربحتها "دار الكرمة"، اذ أجاز مجلس الدولة عناوين من بين منشوراتها كانت تمت مصادرتها بناء على رأي بعض الجهات الدينية. لكن العقبات الني تعترض مسيرة الكتاب، وتتهدّده بالانحسار والتراجع، لا تقتصر على الرقابة المباشرة. هناك معركة لا تقل أهميّة عن حريّة الرأي، يخوضها في القاهرة منذ عام ونيّف كتّاب ونقاد وناشرون يتخوّفون من موت هذه السلعة الثقافية الحيويّة التي هي في أساس كل نهضة. فقرار وزارة المالية بزيادة الرسوم الجمركية على مستلزمات صناعة الكتاب، أدى الى رفع تكاليف انتاجه بنسبة 40 في المئة خلال عام. وهذه الاعباء المالية - يذكّر جمال الغيطاني في "أخبار الأدب" - هي أخطر من أية مصادرة. فهناك مطابع مصرية توشك على اغلاق أبوابها، وأغلب دور النشر لجأت الى الطباعة خارج مصر، أو خفضت بشكل ملحوظ حجم اصداراتها، ولعل هذا ما يفسّر جزئياً قلّة العناوين المصرية الجديدة خلال العام الماضي. مثل هذه القضايا، ليس هناك مناسبة أفضل لمناقشتها ومعالجتها، من هذه التظاهرة الضخمة التي استضافت 2300 ناشر من 76 دولة، وعرضت في مختلف أجنحتها ما لا يقل عن 55 مليون كتاب. لا سيّما أن أكثر من ناشر مصري بات يعترض في السنوات الأخيرة، على طغيان النشاطات الثقافية الموازية في معرض القاهرة الدولي على الهدف الاساسي المفترض، وهو تشجيع بيع الكتاب وانتشاره. أما الناشرون العرب الحاضرون في القاهرة فاجتمعوا على هامش المعرض، وشكلوا لجنة خماسية لاعادة النظر في القانون الاساسي ل"اتحاد الناشرين العرب" الذي يرأسه حالياً خليفة التليسي، ويدور تنافس ضمني على انتزاعه من ليبيا بين القاهرةوبيروت. ويذكر أن مجموعة من الندوات اللافتة خصصت لمناقشة أبرز الكتب الصادرة في القاهرة هذا العام، بشكل يثير شهية الاطلاع عليها لدى القرّاء: "مصر وتحديات القرن الواحد والعشرين" لهيكل، "نحن والمستقبل" لمصطفى سويف، "هموم المسرح وهمومي" لعلي الراعي، "العرب وعصر المعلومات" لنبيل علي، "كابوس الارهاب وسقوط الاقنعة" لابراهيم نافع، "عرب نعم، وشرق أوسطيون أيضاً" للطفي الخولي، "غزّة - أريحا: سلام أمريكي" لادوارد سعيد، "أربعون عاماً من النقد التطبيقي" لمحمود أمين العالم. وهذه العناوين - باستثناء كتب هيكل والراعي وسعيد - فازت الى جانب مؤلّفَي جابر عصفور "هوامش على دفتر التنوير" وغالي شكري "تكفير العقل وعقل التكفير"، ب "جائزة أحسن كتاب لعام 1994" التي سلّمها وزير الثقافة فاروق حسني ورئيس "الهيئة العامة للكتاب" سمير سرحان خلال احتفال خاص. لكن لنترك الاحتفالات وننزل الى المعترك، نتدافع مع المتدافعين بين سرايا الناشرين العرب وسرايا الناشرين المصريين، نتعثّر بأكداس الكتب التي انتقلت من سور حديقة الازبكية لتطوف بها شوارع أرض المعارض. عند "دار شرقيات" تستوقفنا مجموعات شعرية لفؤاد حداد، وعناوين عدّة منها "يوميات الحزن والغضب" لفريدة النقاش، "الكتابة غير النوعية" لادوار الخرّاط، "من أوراق الرفض والقبول" لفاروق عبد القادر، "الخروج على النص - تحديات الثقافة والديموقراطية" لغالي شكري، "وردية ليل" لابراهيم أصلان، و"شرفات قريبة" لهناء عطية. لدى "دار المستقبل العربي" المجاورة يطالعنا كتاب محمود أمين العالم الجديد "أربعون عاماً من النقد التطبيقي" الذي يختصر تجربة نقدية حافلة، ويقدم بانوراما للحياة الأدبية العربية المعاصرة. وهناك أيضاً كتاب ادوار سعيد الذي حظي بالاهتمام، مسرحية من فصلين لنوال السعداوي بعنوان "إيزيس"، روايات صنع الله ابراهيم "ذات"، "بيروت بيروت"... وابراهيم عبد المجيد "المسافات"، "الصياد واليمام"، مسرحية ألفريد فرج "علي جناح التبريزي". ننتقي بعض الكتب، وعند الدفع تعلّق السيدة المشرفة على الجناح: "لا أحد يشتري إلا العرب! من أين الأخ؟". "لكن القارئ المصري معروف بنهمه" نحتج. - لا أحد يقرأ. المصريون ما عادوا يقرأون. - غريب. الاوضاع الاقتصادية على الارجح؟ - وطغيان الفيديو ووسائل التسلية السهلة أيضاً، يتبرّع بالتوضيح أحد الحاضرين. - ربّما لم تصدر عناوين جديدة مثيرة خلال العام. - لا، لا. كل هذه الكتب جديدة. لكن الموضة تبطل بسرعة. والمتغيّرات لا ترحم. هذا كتاب "أبو جهاد" مثلاً، لم يعد يهمّ أحداً. يقولون لك "الحدّوتة خلصت"! وتتلفت السيدة التي يبدو من حديثها أنها صحافية وكاتبة أيضاً، الى زميلها: "والله أنا مصابة بحالة اكتئاب. لا شيء ينفع. لم أكتب طوال الاشهر الماضية الا تحقيقاً أو اثنين. ماذا يكتب المرء؟". نترك الزميل يعزّيها ويؤكد لها أنها حالة عابرة، ونمضي الى تفقد العناوين المصرية الجديدة. "الهيئة العامة" أصدرت الجزءين الاولين من أعمال نجيب سرور الكاملة، وتتضمّن "ياسين وبهيّة"، "آه يا ليل يا قمر"، "منين أجيب ناس"، "الذباب الازرق"، "يا بهيّة خبّريني" وأوبريت "ملك الشحاتين". "دار الهلال" باشرت بطبع الاعمال الكاملة لجمال حمدان ولويس عوض. "الدار العربية للنشر" أصدرت ترجمة - "عولّيس" جيمس جويس تحمل توقيع طه محمود طه. أما "دار سينا للنشر" فتواصل سياستها الجريئة، اذ نقع في جناحها على كتاب جديد للباحثة التونسية حياة الريّس بعنوان "...المرأة - من سلطة الانس الى سلطة الجان"، وآخر لنصر حامد أبو زيد "التفكير في زمن التكفير - ضدّ الجهل والزيف والخرافة"، وثالث لعبد الرحمن بدوي "شخصيات قلقة في الاسلام"، اضافة الى كتب سابقة لبدوي وأبو زيد ومقدّمة لويس عوض "في فقه اللغة العربية"... نسأل عن كتب فرج فوده التي اغتيل قبل عامين بسببها، والتي نفدت على ما يبدو طبعاتها لدى "الهيئة العامة للكتاب". يُقال لنا إن "دار الثقافة الجديدة" طبعتها، لكننا لا نتمكن من تبيّن العناوين المشار اليها في جناح هذه الدار. فنكتفي بتصفّح كتاب مراد وهبه القيّم "مدخل الى التنوير"، كتاب صنع الله ابراهيم "التجربة الانثوية"، أشعار سمير عبد الباقي، وآخر أعمال الاديب السوري خليل النعيمي "الرجل الذي يأكل نفسه". "شو بدنا بهالشغلة!" ونبحث بلا جدوى عن رواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا" التي تسابقت مؤسسات اعلامية، في مقدّمتها "الاهالي"، على نشرها. كل ما نقع عليه كتاب من تأليف رجاء النقاش بعنوان "في حبّ نجيب محفوظ" دار الشروق، وآخر من تأليف جماعي بعنوان "حكايات حارتنا" أخبار اليوم اشتراه أكثر من قارئ على أنه الرواية، ومن المساهمين فيه: سمير سرحان، محمود أمين العالم وعبد الجليل شلبي. وفي جناح "دار الآداب" البيروتية التي كانت السباقة الى نشر الرواية قبل سنوات، نعيد طرح السؤال. يجيبنا المسؤول أن الرواية لم تجزها الرقابة. - ولكن مسؤول كبير أكد لنا أن بوسعكم تسويقها. تتدخّل الناشرة: "ولأجل ماذا؟ شو بدنا بهالشغلة!". على رفوف الآداب اصطفت أعمال ادوار الخرّاط، تزين أغلفتها مائيات عدلي رزق الله: "رامة والتنين"، "يا بنات اسكندرية"، "اختناقات العشق والصباح"... تجاورها روايات لفخري قعوار "حلم حارس ليلي"، وليانة بدر "بوصلة من أجل عبّاد الشمس"، ويحيى يخلف "تفاح المجانين"، وسالم حميش "زين شامة"، وابراهيم أصلان "مالك الحزين"، وفؤاد التكرلي "الرجع البعيد"، والياس خوري "أبواب المدينة"، "رحلة غاندي الصغير"... وفي النقد تتراوح العناوين بين رئيف خوري "الادب المسؤول" ويمنى العيد "تقنيات السرد الروائي"، "الكتابة تحوّل في التحوّل". عرضت الآداب أيضاً مجموعات أدونيس في "صياغتها النهائية"، ومسرحيات سعدالله ونوس، وترجمات أدبية مثل رواية كاداريه "من أعاد دورنتين" أنطوان أبو زيد، ورواية يوسونار "مذكرات أدريان" عفيف دمشقية الذي ترجم روايات أمين معلوف في دار الفارابي. نعيم القارئ في الركن المخصص ل "دار توبقال" المغربية تتجاور أسماء بورديو ودريدا وبارت وتودوروف وياكوبسون مع الجابري/الحنفي حوار المشرق والمغرب، واللعبي وبن جلون ومحمود درويش وحليم بركات ومحمد بنيس وسليم بركات وسيف الرحبي وقاسم حداد وعقيل علي. في جناح "دار رياض الريّس" نسأل عن كتب الصادق النيهوم، فيجيبنا المسؤول أنها نفدت بعد انتشار خبر المصادرة في بيروت، ولم يبقَ إلا "صوت الناس" هناك في الزاوية. ويروي للمرّة المئة ربما كيف جاء أفراد من الأمن العام الى مقرّ الدار وكيف قاموا بسحب الكتاب. ولا شك أن الدور اللبنانية الحاضرة مثل دار الريس، ودار الجديد، و"المؤسسة العربية للدراسات والنشر" تشكل نعيماً للقارئ المحترف أو الهاوي. عند الريس مجموعة محمود درويش الجديدة، ومجموعة شوقي أبي شقرا الجديدة "صلاة الاشتياق..."، وعند "الجديد" مجموعات أنسي الحاج التي سبقت "الوليمة" من "لن" الى "الرسولة...". هناك أيضاً أعمال جبرا ابراهيم جبرا بين "الريس" و"المؤسسة"، الاعمال الكاملة لتوفيق صايغ ودراسة محمود شريح المرجعيّة عنه، مجموعات قصصية وشعرية وروايات ليوسف الشاروني وابراهيم الكوني وإميل حبيبي ونبيل خوري وزكريا تامر ومحمد عفيفي مطر. وهناك كتاب ماجد السامرّائي "رسائل السياب"، ودراسة احسان عبّاس في "حياة وشعر بدر شاكر السيّاب". نشير أيضاً الى أعمال حسن داوود السيرة الذاتية لعبد القادر الجنابي وترجمات سيوران وباول تسيلان عن "دار الجديد"... استتابة شاهين وغضب الغيطاني وتبقى ناقصة كل جولة في معرض الكتاب لا تعرّج على "المقهى الثقافي" ولقاءاته الدافئة أو الهادرة، وعلى سراي الاستثمار حيث يتواصل البرنامج يومياً من الصباح وحتّى ساعة متأخرة من الليل. من مناقشة الكتب البارزة، الى لقاء الشخصيات المهمّة، مروراً بالندوات والامسيات الشعرية. صحيح أن الشعراء الذين أعلن عنهم تخلّفوا في أغلبهم، من أدونيس ومحمود درويش الى البياتي والفيتوري وسميح القاسم الذي يعاني حالياً من غضب الاوساط الثقافية المصرية عليه لتهوّره اللفظي. كما أن اللقاء المنتظر مع نزار قبّاني لم يتمّ، اذ اعتذر صاحب "الرسم بالكلمات" عن الحضور، ووجّه رسالة الى أصدقائه في أرض الكنانة لم تُقرأ كما تمنّى في يوم الافتتاح. لكن سعدي يوسف كان هنا، وسمير عبد الباقي ألهب الصالة، وبلند الحيدري جاء "بهويّاته العشر" و"أقراص نومه" و"شيخوخته" وأحمد أبو دومه أحيا طقساً صعيدياً من الحب، وسجّل أحمد فؤاد نجم عودة مجلجلة "عَزّة في عين اليمين/ ومصر في عين الشمال" أمام جمهور متشوّق للقائه لم يعد يستمع الى الشعراء الآخرين، فضاع همس الشاعرة السعودية الزميلة ثريا العريض هباء. ولا بد من توجيه اللوم الى منظمي التظاهرات الثقافية في المعرض، اذ فاتهم تخصيص ندوات لاحياء ذكرى الكاتب المصري لطف الله سليمان، وجبرا ابراهيم جبرا وخاصة توفيق زياد الذي كان من رواد المعرض وضيوفه الدائمين. في "المقهى الثقافي" تجمّع الجمهور حول أحمد عبد المعطي حجازي ومحمود أمين العالم وابراهيم فتحي في ندوة خاصة بعدد مجلّة "ابداع" الذي أعقب محاولة اغتيال نجيب محفوظ. تحدث العالم عن "النصّ والنصل" ولاحظ أن "ما بناه جيلنا في الستينات - على علاته - يتفكك" مؤكداً أنه "لا ثقافة من دون تغيير اجتماعي". ورفع حجازي صوته "ضد الطاعون الأسود". أما ابراهيم فتحي فلاحظ أن تحنيط محفوظ في قالب رسمي، و"تحويله الى صنم تحت أضواء النيون" هو محاولة اغتيال لصاحب الثلاثية الذي لا يطلب أكثر من أن نتعامل معه ككاتب وندرس أعماله بمواطن قوّتها ونقاط ضعفها. وفي القاعة الكبرى كان اللقاء مع السينمائي يوسف شاهين حامياً أيضاً. تحدث المخرج عن المشاكل التي تواجهها السينما المصرية وعن العراقيل والمصاعب المادية والرقابية والانتاجية التي تعترضها. وتناول شاهين علاقتة بعبد الناصر، كما ردّ على الانتقادات الموجّهة الى "المهاجر" وحتّى الى "القاهرة منوّرة بأهلها"، هذا الفيلم القصير الممنوع في مصر، والذي قال بصدده: "أنا لا أحقق أفلاماً للسياحة... ولماذا لا تريدونني أن أصوّر الواقع كما أراه في حياتي اليومية؟". ووقف أحد الحاضرين غاضباً يدعو شاهين الى التوبة. بين الندوات الاخرى لا بد من الاشارة الى "قضايا المرأة في القرن الحادي والعشرين" التي ضمّت رشيدة تيمور، سكينة فؤاد، لطيفة الزيات، فاطمة موسى وهالة سرحان... وهي واحدة من سلسلة ندوات دارت حول محور "تحديات الدخول الى القرن المقبل"، وناقشت المستقبل من مختلف الزوايا التقنية والاقتصادية والسياسية والفكرية. ولعل المواجهة المدويّة هذا العام، تمت خلال ندوة "الثقافة المصرية والقرن الحادي والعشرين" بين الكاتب المصري جمال الغيطاني والاديب الفلسطيني إميل حبيبي الذي كان من أبرز ضيوف المعرض. فالغيطاني تهجّم في الفترة الاخيرة أكثر من مرّة على حبيبي متهماً اياه بأنه تخلّى عن هويّته وذاب في الاحتلال... وقبيل اختتام الندوة التي كان يديرها جابر عصفور، وفيما الصالة مكهربة ومعبّأة في انتظار ابتداء اللقاء مع هيكل الذي يحقق عادة أرقاماً قياسية في الاستقطاب، راح الغيطاني يواصل تفصيل رؤيته السوداوية للواقع العربي الراهن. فقال "اللغة العربية مهدّدة"، قبل أن ينتقل من دون مبرر منطقي الى التهجّم على الولاياتالمتحدة، بصفتها المسؤولة عن كل علّة. وما أن طلب صاحب "المتشائل" الكلام ليرد عليه، حتّى انتفض واقفاً وصرخ: "وجوده هنا اهانة لمصر"، حسب مراسلة راديو مونتي كارلو الواقفة على مقربة من المنصّة. واستغل الاجواء المتوتّرة والمشحونة ليقوم بهذه الحركة الاستعراضية وينسحب. أما نكتة حبيبي التي حزرها الغيطاني على الارجح، فهي حادثة عاشها وهو طالب في المدرسة الابتدائية. ذات يوم طلب منهم الاستاذ أن يشرحوا ويناقشوا بيت شعر شهير لجرير في رثاء زوجته: "لولا الحياء لعادني استعبار ولزرت قبركِ والحبيبُ يزارُ". وكان أن شط أحد التلامذة، وفهم البيت على هواه، فإذا به يدبّج موضوعاً حماسياً ضد الاستعمار البريطاني. وبعد البحث والتدقيق لاحظ المدرّس أن تلميذه النبيه استبدل عبارة "الاستعمار" ب "استعبار" لجرير. "فيا أخواني لا تقحموا الاستعمار في كل شيء" نصح حبيبي، لكن أحداً في الصالة الهائجة لم يكن قادراً على الاصغاء...