كانت عبارة جمال عبدالناصر الشهيرة "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة" الشعار المفضّل في شوارع دمشق قبل ثلاث سنوات. غير ان القيادة السورية عثرت اليوم على شعار آخر تأمل في ان يكون اكثر نجاحاً في ايجاد حلّ للنزاع مع اسرائيل وهو "حاربنا بشرف ونفاوض بشرف، ونريد سلاماً مشرفاً"، هكذا تقول اللافتات التي رفعتها الحكومة في أرجاء العاصمة دمشق. ومع ان الخطاب تغيّر، الا انّ الهدف الأساسي لسورية حيال اسرائيل بقي على حاله. فهي مصمّمة على استعادة جميع الاراضي التي خسرتها في حرب حزيران يونيو 1967. غير ان نقاشات دارت اخيراً مع سوريين من مختلف الاتجاهات أكدت ان انتقال القيادة السورية من العداء للدولة اليهودية الى الحوار السلمي معها ليس مجرد استراتيجية تفاوضية، وانما ينمّ عن رغبة سورية عامة - وإن لم تكن بمحض ارادة سورية - في التوصل الى اتفاق مع اسرائيل والانتقال بسورية الى عالم القرن الحادي والعشرين. وقد كان فلاديمير جابوتينسكي محقاً بهذا المعنى، عندما ابتدع قبل ستين عاماً نظريته الشهيرة "الستار الحديدي". ويعتبر جابوتينسكي أباً لليمين السياسي في اسرائيل. وكان يرى ان العرب سيواصلون محاربة اسرائيل حتى يتبيّن لهم ان الحرب لن تهزمها، عندئذ فقط سيتصالحون مع وجودها. ولقد تحققت تكهنات جابوتينسكي في شوارع دمشق ولافتاتها اليوم. ولا يعني ذلك ان السوريين تحولوا الى نقيض ما كانوا عليه اذ لا تزال اسرائيل تعتبر قوة اجنبية سرقت فلسطين من اهلها الحقيقيين غير انه مع بقاء ذلك الخصام التاريخي مع الصهيونية من دون حلّ، الا ان السوريين على جميع مستوياتهم مقتنعون بضرورة إحلال السلام. ويقول الدكتور جورج جبّور احد مستشاري رئيس وزراء سورية: "يسعدنا كثيراً ان نكون آخر المتنازلين". ويشير الى انه في الوقت الذي تتنازل فيه اسرائيل عن جانب كبير من ايديولوجيتها المتعصّبة في سياق المفاوضاوت - من خلال ترسيم الحدود مع الأردن، واعطاء الفلسطينيين في غزة وضعاً أقل قمعاً من الاحتلال المباشر - فإن العملية تسفر ايضاً عن صدور تصريحات ايديولوجية سلمية من جانب دمشق". اجراءات اقتصادية ويلاحظ مثقف سوري بارز "ان السوريين يشعرون بقهر تاريخي تجاه اسرائيل. اذ ان سورية دولة مقطوعة. فقد استغل الصهيانة الارض، ولا تزال معارضتنا للنظام الامبريالي الذي أُرسي في نهاية الحرب العالمية الاولى باقية". ورغم ذلك فلا يمكن بسهولة إنكار الفوائد المتوقعة من الوفاق لإتاحة قدر اكبر من الحرية امام الاقتصاد الحرّ وتحويل الموارد الشحيحة من القطاع العسكري الى القطاع المدني. وقد اضطرت حكومة الرئيس حافظ الأسد خلال السنوات الاخيرة الى تخفيف قبضتها على الاقتصاد المحلي، فمنحت كبار التجار فرصاً اكبر لتحقيق ارباح من وارداتهم، لتُنشئ بذلك ما سمّاه احد السوريين "المجمع العسكري التجاري". وفي العام الماضي وحده خفضت الدعم الذي كانت تحظى به السلع الأساسية بنسبة 70 في المئة. ومع ذلك فإن سورية التي لا تزال تمنع استيراد السلع من قبيل الثلاجات والأثاث وماكينات صنع الثلج بدأت لتوّها السير في طريق التحرير الاقتصادي الذي يبدو الآن اكثر من اي وقت مضى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمساعي الأسد الرامية الى ايجاد مواطئ قدم لسورية في عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة. رهان على السلام يملك انطوان ورشة لصنع السلاسل الذهبية ونقشها في احد اطراف سوق الحميدية المعروفة في دمشق. ولأنه استثمر 6 ملايين دولار في شراء الماكينات وتشغيل 15 عاملاً فان محلّه يعتبر الاكبر من نوعه في البلاد. ويعني السلام مع اسرائيل بالنسبة اليه فرصة عمل اكبر لأن الصناعيين سيقبلون على سورية للإفادة من تدني كلفة العمالة. وتؤيد السوق السلام بوسائل اخرى، اذ ان اسعار العقارات من العاصمة الى مرتفعات الجولان التي تبعد عنها نحو 70 كيلومتراً آخذة في الارتفاع فيما يترقب سماسرة العقار ورجال الاعمال نزع السلاح في منطقة الحدود، ونشر قوات دولية سينفق افرادها من دون ضوابط، وازدهار النشاط السياحي. ويقول فادي وهو طالب في السنة النهائية بكلية الهندسة ان دخله بعد التخرّج - نحو 200 دولار شهرياً - سيكفيه بصعوبة شديدة لكن عليه ان يؤدي اولاً الخدمة الإلزامية لمدة عامين. وهو، إسوة بنظرائه في تل ابيب، يأمل بإحلال السلام لسبب شخصي للغاية: ان يتخذ قرار بتقصير فترة الخدمة الإلزامية. ويقول: "اذا اعادت اسرائيل الجولان فلن تكون هناك مشكلة. ولن تكون هناك مشكلة في فتح الحدود، بل ان فتح سفارة اسرائيلية في دمشق لن يُسبب مشكلة في شوارع دمشق ومكاتبها". ويتطلع السوريون الى أدلة أشدّ وضوحاً على ان استعدادهم للوفاء بما يقرّون بأن عليهم القيام به في نطاق تسوية الارض في مقابل السلام سيكون له ما يقابله ويوازيه. ويقول الدكتور جبّور "نحن نتطلع الى ما يثبت ان الاسرائيليين تعلّموا ما ينبغي القيام به من اجل السلام". وكما هو واضح لمن يزور دمشق فإن الرسائل المتضاربة الصادرة عن المسؤولين الاسرائيليين لم تقدّم صورة مقنعة بأن اسرائيل باتت مستعدة لتقديم التنازلات المطلوبة في الاراضي مقابل السلام. ثم ان الجمهور الاسرائيلي منقسم انقساماً عميقاً حيال جدوى الانسحاب الكامل من الجولان ولا يبدو مؤيداً بشكل كافٍ لما سمّاه مسؤول سوري "منطق السلام". ولم يبذل رئيس هيئة الاركان الاسرائيلي ايهود باراك، وهو رجل يعتقد كثيرون ان رئيس الوزراء اسحق رابين يريد ان يراه خليفة له، مسعى يذكر في واشنطن خلال يومي 17 و18 اب اغسطس الجاري لتوضيح موقف اسرائيل. وكان باراك زار واشنطن لمتابعة محادثات سابقة أجراها رابين في شأن الجوانب السياسية لأي اتفاق قد تبرمه اسرائيل مع سورية. وأفادت معلومات ان باراك تناول، خلال اجتماع مع مسؤولين اميركيين استمر ثلاث ساعات، جوانب متعددة من أيّ اتفاق سوري - اسرائيلي محتمل، وعارض المطلب السوري الداعي الى نشر قوات سورية - اسرائيلية متكافئة على الحدود التي يُتفق عليها. كما تناول التحديات الاستراتيجية التي تواجه اسرائيل، بما في ذلك ايران والعراق وانتشار الاسلحة غير التقليدية، وخطط تحديث الجيش الاردني، وتسليج دول الخليج العربية. وكرر باراك ان القوات الاسرائيلية تعتقد ان على اسرائيل ألا تنسحب كلياً من الجولان في كل الاحوال وقال: "من وجهة نظر عسكرية محترفة، ما دام السلام غير موجود، فنحن بحاجة الى كل شبر من مرتفعات الجولان، وحتى في زمن السلم سيكون حريّاً بنا البقاء في مرتفعات الجولان". التردد الاسرائيلي ويعني ذلك ان تصريحات باراك دليل آخر على ان اسرائيل لم تتخذ، حتى بعد مضي قرابة ثلاث سنوات على انعقاد مؤتمر مدريد، القرار الاساسي والاستراتيجي لإنهاء احتلالها هضبة الجولان. ويبرز باراك والسفير ايتامار رابينوفيتش بين من يرون امكان التوصل الى صفقة من دون انسحاب كامل. بينما ترى مصادر وزارة الخارجية ورئيس الاستخبارات العسكرية ان السياسة السورية يمكن اختزالها في العبارة البسيطة: "4 حزيران 1967". وتقول مصادر مطلعة ان الولاياتالمتحدة تساند موقف سورية ان خط الحدود الذي يشمل المناطق المنزوعة السلاح ومصادر المياه الخاضعة للسيطرة السورية - وليس الحدود الدولية - يشكّل اساساً صارماً للمطالب التي تنادي بالانسحاب الاسرائيلي. وقد سعت الديبلوماسية الاميركية اخيراً الى حلّ المشكلة الناجمة عن غياب الإجماع على الانسحاب والتطبيع في كل المقترحات السورية والاسرائيلية وذلك بتحاشيها. وكان العنصر الاساسي للتقدم الذي أحرزه اخيراً وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر ان سورية وافقت على فكرة الانسحاب المرحلي وليس الجدول الزمني الذي اقترحته اسرائيل، وأسقطت مطالبتها بانسحاب اسرائيلي فوري كامل من الجولان. وبقي رابين يتمسّك، سراً وعلناً، بنقطتين: فهو يطالب الأسد بانتهاج ديبلوماسية علنية على النسق المصري ان لم تكن تحديداً على نهج السادات. ومشكلة رابين انه ليس على الاسد اقناع الشعب السوري وحده بمزايا السلام، وانما عليه ان يقنع الاسرائيليين ايضاً. وكان رابين قد قال الشهر الماضي: "على سورية ان تفعل شيئاً حيال ديبلوماسيتها العامة من شأنه ان يقنع شعب اسرائيل بأن سورية توّاقة الى السلام". وهي مهمة لا نهاية لها بالنسبة الى اسرائيل التي ترى ان السماح لليهود السوريين بالهجرة وتغيير معاملتها في الاعلام السوري جانبان مهمّان من عملية تنبغي الاضافة اليها باستمرار لتغيير المعارضة الشعبية الاسرائيلية للانسحاب من الجولان. حدود الدور الاميركي ويواصل رابين ممارسة ضغوط على الاسد لاقناعه بضرورة ما يسمّيه مفاوضات "مباشرة وهادئة" من دون وساطة اميركية جوهرية. فقد قال السفير رابينوفيتش غير مرّة لسفير سورية في واشنطن انه يتطلع كثيراً الى يوم يتلقى فيه اتصالاً هاتفياً منه. كما انه يجب ان يفهم الاسد، حسبما يرى رابين، ان اسرائيل لن تسمح لديبلوماسية التنقل التي يقوم بها كريستوفر بتجاوز دور "الوسيط الأمين" الذي يعطي الوزير الاميركي دوراً أقرب الى الساعي منه الى الوسيط. ويبدو ان كليهما، سورية واسرائيل، على اتفاق حيال هذا الدور الاميركي المحدود. اذ لا يريد رابين اي صيغة تفرضها واشنطن، كما ان سورية تخشى ان يكون اي برنامج تقترحه واشنطن منحازاً لاسرائيل. وتشكّل ديبلوماسية المكوك التي ينتهجها وزير الخارجية الاميركي، تعززها المحادثات المستمرة بين مسؤولين اسرائيليين وسوريين في واشنطن عبر وزارة الخارجية الاميركية، الهيكل الاساسي الراهن للديبلوماسية السورية - الاسرائيلية. اما الاجتماعات المباشرة التي تلت انعقاد مؤتمر مدريد فقد اتسمت بالمراوحة. غير ان الجوانب الجوهرية للمفاوضات هي التي لا تزال تشكّل عقبات وصعوبات. وقد شكا رابين من انه لا يوجد ضمن البنود الرئيسية ما يشير الى مجرد البدء في طريق التوصل الى اتفاق. ويتم اعداد اوراق لتوضيح الموقف من القضايا الرئيسية - كالانسحاب والامن والتطبيع والعلاقات والتوقيت - وتُتبادل تلك الاوراق عبر الوسطاء الاميركيين. ويعتقد كل من الاسرائيليين والسوريين ان الهدف من ذلك المسعى التوصل الى معاهدة سلام شاملة وليس اتفاقات موقتة او اعلانات مبادئ كالتي توصلت اليها اسرائيل مع الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولا تزال اسرائيل تفضّل تلك الاتفاقات التي وُقّعت وسط مظاهر احتفالية كبيرة. لكن سورية التي تومئ الى ما يعانيه الرئيس ياسر عرفات من مشقة في تنفيذ اتفاقيات اوسلو والقاهرة فلا تريد شئياً من ذلك القبيل. وفي المقابل، نجحت اسرائيل في تغيير تعريف "الشمولية" التي حددها مؤتمر مدريد وتطالب بها دمشق. ومن الممكن الآن التوصل الى اتفاق سوري - اسرائيلي يتضمن حلاً لمشكلة الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان، لكنه لن يشير الى المسارين الاردني والفلسطيني. وقد ظل رابين يطالب دوماً باتفاقات منفصلة مع كل من الدول المجاورة لاسرائيل "التي تقف على قدميها" على حدّ تعبيره. وهو الآن ماض قُدُماً في طريقه نحو هدفه. وقد تنسحب القوات الاسرائيلية من الجولان قبل انسحابها من الضفة الغربية.