في الحلقة السابقة استعرضنا مراحل تأسيس المهدية حتى نهايتها وبداية مرحلة جديدة من اعادة تجميع كيان الاسرة و"الانصار" على يد ابن الامام المهدي السيد عبدالرحمن الذي تفتحت عيونه على مأساة الاسرة والتنكيل بها وابادتها ومع عرض صفحات عن سيرة الصادق المهدي الذاتية كان لابد من الوقوف طويلاً مع شخصية السيد عبدالرحمن وشخصيات اخرى يرى الصادق ان لها اثراً مباشراً في حياته العامة والخاصة، وقد اختار هو الشخصيات وتحدث عنها وقمنا بالبحث في تاريخ هذه الشخصيات التي تركت اثراً خاصاً في اسرة المهدي واثراً عاماً في تاريخ السودان. يمثل الامام عبدالرحمن المهدي دور المؤسس الثاني لكيان الانصار. وهو تعرض للكثير من تنكيل الانكليز وعدم اعتراف الاسرة به باعتبار ان امه كانت "أمة" او سرية كما كان يقول السودانيون في مطلع هذا القرن ونهاية القرن الماضي. لكن عبدالرحمن استوعب باعماله وانجازاته كل الظروف وقدم وجهاً ديبلوماسياً تسامحياً جديداً لم تعرف به المهدية من اجل المحافظة على ما تبقى من فلول وكيان وتعايش مع الآخرين على رغم معارضة الرموز المتبقية من المهدية التي تأصل فيها الطرح الجهادي التصادمي الذي قامت عليه المهدية. وكان هذا التباين في تفكير السيد عبدالرحمن وبعض رجال المهدية الآخرين فرصة الانكليز للاستفادة من هذا الطرح الجديد للتخلي عن المهدية حيث شجعوا السيد عبدالرحمن على تأسيس طريقة دينية جديدة باسم "الرحمانية" لكنه كان في الأصل اكثر التزاماً بالمهدية كفكرة ومنهج على رغم تغير الاسلوب. ولم يتخل عن روح الجهاد لكنه عطل الجانب القتالي مركزاً على التربية الدينية والجهادية محافظاً على سلامة العبادات. وتعرض تاريخ المهدية لكثير من التحريف والتشويه. كما ان تصدي السيد عبدالرحمن للحركة الاستقلالية لم يعجب الاعلام المصري الذي كان مؤثراً في ذلك الوقت، اذ اعتبر عقبة في طريق وحدة البلدين تحت التاج المصري وكال له الاتهامات. وللأسف وقع بعض السودانيين ضحية ذلك، وتعرض السيد عبدالرحمن لظلم المستعمر ورجاله وبعض افراد اسرة آل المهدي وكذلك بعض رموز المهدية، ثم من الاعلام المعادي داخل وخارج السودان، لكن الواقع الذي ظهر فيما بعد هو انه الأب الحقيقي لاستقلال السودان ورائد الحركة الوطنية ومجدد الدعوة المهدية على نهج جديد من التسامح والقومية اضافة الى انه كان رائداً في بناء السودان الحديث، من حيث تأسيس القطاعين الخاصين الزراعي والصناعي ومن حيث تكوين مؤسسات العمل السياسي الحديث والاستخدام المنهجي للمال في الدعوة والمبادرة في استخدام وسائل العلاقات العامة الحديثة كالصحافة والادب والاعمال الخيرية وغيرها. وكان الانكليز يعاملون السيد عبدالرحمن احياناً بتميز، لكنهم يعتبرونه خطراً أكبر على النظام. وهناك بعض الادلة التي تؤكد هذا، منها: 1- منع السيد عبدالرحمن من صلاة العيد في جزيرة أبا لتجنب التفاف الناس حوله. 2- كان الانكليز يحددون سكان الجزيرة أبا ويراقبونها جيداً لمنع زيادة عدد السكان. 3- سجن السيد عبدالرحمن عام 1923 لورود معلومات عن هجوم وشيك على كوستى عيد السبت. 4- اشتراط الحكومة الا يكون عبدالرحمن المرشح لزعامة العشائر انصارياً. 5- ابعاد كل ابناء الانصار من التجنيد في قوة دفاع السودان "الجيش النظامي". 6- محاولة الحكومة اغراء عبدالرحمن بالمال لصرفه عن التيارات الثورية ذات الاصل المهدوي، مثل حركة المجاهد عبدالقادر، لكن الحكومة اكتشفت انه كان ادهى منها، اذ وظف المال لدعم دعوته وفكرته. 7- خشية الانكليز من تأييد عبدالرحمن للألمان في الحرب العالمية الاولى كما فعل السلطان علي دينار الذي كانت تربطه علاقة رحم به والدة السيد عبدالرحمن من سلالة سلاطين الفور وكذلك هناك علاقة صداقة بين السلطان علي دينار والشيخ عبدالله جاد الله زعيم الكواهلة. صهر السيد عبدالرحمن متزوج من شقيقته السيدة أم سلمة. كان الانكليز يعاملون السيد عبدالرحمن بحرص وتميز وتحفظ ويحاولون باستمرار الهاءه بالمال والثروة عن الاهداف السياسية والدينية، لكنه وظف هذه الثروة لتحقيق هذه الاهداف، حيث رعى حركة الخريجين وأسس أول صحيفة سودانية وطنية باسم "النيل" ودعا الى الانتاج الزراعي الحديث وزرع القطن، ورعى التعليم الأهلي واهتم بأمر البعثات الخارجية ووفر المال لبناء رأي آخر في المجتمع مستقطباً الاجيال الجديدة مما اضطر الانكليز لسياسة احتوائه التي مهدت لاستقلال السودان. ويعتبر السيد الصادق المهدي أشهر احفاد السيد الامام عبدالرحمن انه الاقرب الى جده ويلقى منه معاملة خاصة، وكان يشجعه للجهر بالرأي واهتم به حين وجد والده السيد الامام الصديق مشغولاً عنه بادارة اعمال بيت المهدي نيابة عنه، وكان السيد عبدالرحمن يقرب الصادق من مجلسه ويتبادلان الرسائل حين سافر الاخير للدراسة خارج السودان. وخلاصة الامر اذا كانت المهدية وحدت السودان وحررته واكملت حلقات الاسلام فيه باقامة الكيان الاسلامي والتشريع، أو شهرت السودان في العالم واعزته ولاقت في سبيل ذلك ما لاقت من بلاء وفرضت في سبيله ما فرضت من ضوابط، فان الانجاز التاريخي للامام عبدالرحمن هو انه بعث الدعوة المهدية بوجه متسامح وواصل الجهاد بوجوهه غير القتالية من دون اهمال الجانب القتالي تربوياً. ورد على دعوى سيادة الآخرين بمطلب السيادة على السودان هي لأهله، وافتى قولا وعملاً بتكامل الالتزام الاسلامي وتطورات العصر. وكان أباً لقنوات صنع السودان الحديث وهي: التعليم ونهضة الخريجين، والتنمية الاقتصادية، والصحافة. الصديق المهدي كان الصديق عبدالرحمن المهدي شخصية فذة لعبت دوراً في تاريخ السودان الحديث وفي اسرة المهدي ويداً يمنى لوالده الامام عبدالرحمن لدرجة ان شخصيته اندمجت في شخصية والده حتى وفاته عام 1959 توفي السيد الصديق عام 1961م. ويروي السيد الصادق المهدي هذه القصة: "ذات مرة قال لي جدي الامام عبدالرحمن "امشي نادي أبوك" فذهبت وعدت مع والدي وطلب مني الجد ادارة مفتاح المروحة ففعلت وقال الامام موجهاً حديثه لوالدي ممسكاً بيده" "ان شاء الله يا الصديق تعيش حتى يخدمك اولاد اولادك... لكن... لكن..." وردد كلمة لكن مرتين ثم اجهش بالبكاء...". تخرج السيد الصديق مهندساً من كلية غردون التي تخرج منها الجيل الذي بنى السودان الحديث وقاد الحركة الوطنية وكان من قادة اضراب 1931 وعمل مع والده في تأسيس دائرة المهدي وطور الدائرة وحولها الى مؤسسة مالية اقتصادية صناعية زراعية كبرى الى درجة جعلت الامام عبدالرحمن يحوله الى شريك ويخصص له نسبة من الدائرة بدأت من 5 في المئة الى 10 في المئة ثم الى 15 في المئة ثم الى 20 في المئة. كان الصديق من جيل غير جيل والده، لكنه لم يكن يجهر برأي مخالف للامام الا في حالات نادرة، لكن سرعان ما يطيع وينفذ رأيه، ومنها موقفه عام 1951 عندما ألغى النحاس باشا اتفاقية 1936، فقد كان رأي الصديق وآخرين ان يعلن الامام عبدالرحمن استقلال السودان، لكن الامام عبدالرحمن رأى مع غيره ضرورة الاستمرار في التدرج نحو الاستقلال. وبعد الاستقلال والتقاء السيدين في عام 1957 اهتم عبدالرحمن بإزالة الجفوة التاريخية بين الأنصار والختمية، لذلك ساند السياسيين الذين رأوا ضرورة ان يكون الائتلاف لحكم البلاد بين حزبي "الأمة" و"الشعب الديموقراطي"، لكن الصديق وآخرين كانوا يرون ان استقرار الحكم وبناء الدولة يقتضيان ان يكون الائتلاف بين "الأمة" و"الوطني الديموقراطي" بزعامة السيد اسماعيل الازهري. كذلك صوّر بعض السياسيين في حزب الأمة للامام عبدالرحمن ضرورة تأييد انقلاب 17 تشرين الثاني نوفمبر 1958 فأيده ببيان قوي. لكن الصديق عارض الانقلاب معارضة شديدة وقال انه "لن يعالج مشاكل البلاد بل يسلبنا قدرتنا على المشاركة في صنع القرار السياسي في البلاد". هذه الاختلافات لم تعكر المحبة والمودة بين الوالد والابن، واختار الصديق في كل حالة ان يذعن لقرار الوالد، فلم يعلم بتلك الخلافات الا قليل جداً من الناس. توفي الامام عبدالرحمن في آذار مارس 1959، بعد ان أوصى ان يكون الصديق خليفته، فبويع اماما بعده. ومنذ أول كلمة علنية قالها في تأبين والده أعلن معارضة "صريحة للحكم العسكري القائم" ومطالبته واضحة بكفالة الحريات الأساسية في البلاد. وفي فترة وجيزة صارت أقوال الصديق هي مطالب أهل السودان في اجماع رائع لم يشهد السودان الحديث له مثيلاً. كان الصديق حلقة وصل بين الجيل المخضرم من المهدية والجيل الحديث، والساعد الأمين لوالده في كل أعماله، وربط ربطاً محكماً بين كيان "الأنصار" وقضية حقوق الانسان والحريات الأساسية ونقل مفهوم الخلافة للكيان ليقوم على الشورى ومشاركة "الانصار". اما بالنسبة الى الصادق فإن مبايعته اماماً ومواجهته لنظام استبدادي جعلته يراجع خططه ويبقى الى جانبه، فقربه وشاركه في امره بل صادقه بصورة لم يعرفها من قبل. لقد كانت اقواله وافعاله وتكليفاته في العامين 1956 - 1961 المدرسة السياسية التي دفعت به للعمل العام. مات الصديق في الثاني من تشرين الاول اكتوبر 1961 وكان يوماً مهماً ومليئاً بالعبر والمواقف الدراماتيكية. فقد اصيب بوعكة خفيفة يوم السبت تطورت الى ذبحة قلبية بلغت قمتها يوم الاثنين في 2 تشرين الاول 1961 واحاط به الاطباء والاهل والانصار والاصدقاء. وكان واضحاً من سلوك الاطباء ان حالته خطيرة جداً. وفي الساعة الرابعة عصراً طلب من ابنه الصادق ان يكلف الفقيه عبدالله اسحق ان يقرأ الراتب فقرأ الراتب حتى نهايته ومعه خواتيم آل عمران. ثم قال لولده الصادق: "هاتِ ورقة واكتب وصيتي فان المرض لم يمهلني والنبي ص يقول خيركم من مات على وصية. وليس منا من مات الا ووصيته تحت وسادته". واملى الوصية المرفقة مركزاً على مطالب الامة وعلى تنظيم كيان "الانصار" بعده وحقوق ورثته. وحاول الاطباء منعه من الحديث فقال دعوني فان عليّ مسؤولية لا ابرح من دون واجباتها. وبعد ان فرغ من املاء الوصية قال مخاطباً ولده الصادق: "الفاتحة على روح ابيك" ورفع يديه بالفاتحة ثم خلع الانابيب الطبية وغيرها من الاسعافات الطبية وقال "الآن دعوني ارتاح" وأسلم الروح في مشهد لو انه اعد اعداداً لما كان أروع تسلسلاً ولا ابلغ اثراً. الشيخ عبدالله جادالله يعرف السودانيون الشيخ عبدالله ناظر الكواهله بأنه "كسّار قلم ماكمايكل" ولهذا قصة. كان ماكمايكل المفتش الانكليزي للمركز. وأراد ذات يوم ان يفضّ نزاعاً بين الكواهله والكبابيش على "مشروع كجمر" في حضور الشيخين عبدالله جادالله زعيم الكواهله وعلي التوم زعيم الكبابيش. والنزاع بين القبيلتين له خلفياته حيث ان الكواهله أيدوا المهدي وبايعوه وكان الشيخ جاد الله ود بليك من امرائها كما ساهم الشيخ احمد الاعسر في ترحيل المهدي من الابيض الى ام درمان، اما الكبابيش فكان موقفهم عدائياً من المهدية وزعيمهم ذو حظوة عند الانكليز ويستشار في امورهم، ومن يقرأ مذكرات مدير كردفان في عهده يدرك كيف كان الشيخ علي التوم ناظر الكبابيش مستشاره الاول في شؤون الامن والقبائل. بل كان يستشار في امور المديريات الاخرى والسياسة الادارية عامة وقد حكم الباش مفتش ماكمايكل لمصلحة الكبابيش في النزاع على مشروع كجمر، وكان على وشك كتابة الحكم القرار فما كان من الشيخ عبدالله جادالله الا ان امسك بقلمه وكسره في مشهد يحكي صورة من تحدي السودانيين للاستعمار. واستمرت علاقة الشيخ عبدالله بالانكليز متوترة وزادها في ذلك علاقة الصداقة بينه والسلطان علي دينار ألدّ اعداء الحكومة. وبلغ توتر العلاقة ذروته عام 1909 حين لفقوا تهمة للشيخ وسجنوه ونزعوا منه النظارة وسلموها للاعيسر فما كان من الشيخ عبدالله الا ان تفرغ للدعوة "الانصارية" ووقف بجانب السيد عبدالرحمن المهدي وساعده في اعادة بناء كيان "الانصار" وكان له دور واضح اضافة لدوره الخاص في الاسرة. كان الصادق المهدي قريباً جداً من جده الشيخ عبدالله جادالله وحريصاً على تربيته بحكمه وتجاربه. وكان يمضي الى جواره وقتاً طويلاً غير ما يعتاد الاحفاد مع اجدادهم، وهو لا يبرح يعلم ويؤدب ويسترسل في قصص طويلة جداً عن حياته وما لقي فيها من أهوال. أم سلمة بنت المهدي هي جدة الصادق المهدي لأمه وكانت سيدة عالمة وليست كسائر النساء. ولعبت دوراً في تربية ابناء واحفاد آل المهدي وجمعت في شخصيتها بين التقوى والامومة واخذت الكثير من تعاليم والدها الامام محمد احمد المهدي ووالدتها العالمة فاطمة بنت حسين الحجازية. كانت القصص التي ترويها السيدات للاطفال هي الزاد الذي اوصل روح المهدية وبطولات رجالها الى الجيلين الثاني والثالث. كانت بنتها رحمة هي والدة الصادق المهدي وهي التي كانت ترجماناً لكل ما سمعت من والدتها ام سلمة وجدتها فاطمة بنت حسين. كانت الوالدة رحمة تربط كل حكمة او دعابة او توجيه بقصة من قصص المهدية بتركيز اشبه بغسيل المخ. الشيخ احمد العجب كان ملازماً للصديق ابن المهدي الكبير الذي استشهد في ام دبيكرات وخرج الشيخ احمد العجب من تلك المعركة بأثر من اصابته برصاصة في يده اليمنى وكان حافظاً للقرآن وفقيهاً في خلوة العباسية التي تعلّم فيها كثيراً من ابناء آل المهدي أسس القراءة والكتابة والقرآن والحديث. وكان الشيخ احمد صورة للمجاهد الفقيه وتركت شخصيته وتعاليمه اثراً كبيراً في الجيل الحالي من ابناء اسرة المهدي و"الانصار". المولد والنشأة نشأ السيد الصادق المهدي في حي العباسية العريق في أم درمان الذي خصصته الحكومة كأسر لكل آل المهدي والخلفاء لأنه الأقرب الى مركز رئاسة الشرطة الضبطية وهو المبنى الذي يشغله الآن مجلس بلدية أم درمان. وكان مولد الصادق في مناسبة تفاءلت بها أمه السيدة رحمه عبدالله جادالله، لأنه صادف في يوم عيد الفطر الأول من شوال الذي كان يوافق يومها عيد ميلاد المسيح 25 ديسمبر/ كانون الأول. وكان العيدان مهمين للمسلمين والمسيحيين. ويقال ان الصادق خرج إلى الحياة من بطن أمه برجليه لا برأسه وكثير من النسوة قالوا لوالدته "انه مستعجل". قضى الصادق طفولته متنقلاً مع والده بين جزيرة أبا وأم درمان، وبدأ دراسته في خلوة الشيخ أحمد العجب في العباسية التي كانت تنافس خلوة ودنوباوي وشيخها عبدالله علي. لكن دروسه النظامية الأولى بدأها في مدرسة الكتاب في جزيرة ابا ذات المجتمع المتسم بالاخاء والخالي تماماً من الرذيلة والجريمة. كان مجتمع الجزيرة مجتمعاً أبوياً نموذجياً متجهاً كله للعبادات والعمل الكسبي بكل أنواعه وبوتقة لقبائل السودان. فلم تكن توجد قرية بحجم الجزيرة تجمع ما جمعت من قبائل السودان. وكان مجتمعاً قرآنياً لا توجد قرية مثلها فيها هذا العدد من المساجد. وشهدت جزيرة أبا أول عمل زراعي حديث ومنظم في القطاع الخاص ساهم في تدريب الذين يجيدون التعامل مع مكائن الزراعة الذين عمروا بقية مشاريع المنطقة. كذلك اشتهرت الجزيرة بالصناعات اليدوية، في النسيج والغزل وصناعات الجلود والألبان. وظل مجتمع أبا لفترة طويلة كما هو بريئاً آمناً مسالماً، الا أن يد التغيير لحقته في بداية السبعينات، ويلقي "الأنصار" باللوم على سلطة مايو أيار حكومة جعفر نميري التي حاولت تدميره تربوياً بعد أن دمرته اقتصادياً. ودرس الصادق المهدي في مدرسة الكتاب التي كان ناظرها رحمة الله أحمد مثل المعلمين السودانيين في الثلث الأول من هذا القرن الذين يقومون بكل اعباء التعليم والابوة واعداد الفرد دينياً ووطنياً واجتماعياً وجسدياً وينالون في مقابل ذلك أقصى درجات التقدير والاحترام والطاعة. وبرع سكان أبا في الصناعات الخفيفة كالنسيج والألبان اضافة الى اهتمامهم بتربية الحيوان. واهتم عبدالرحمن بكل هذا وجلب أفضل سلالات الخيل والابقار لتحسين النسل حتى أصبح يملك الكثير من الخيول المشهورة. ويقول الصادق المهدي الذي يمارس رياضة الفروسية ان "تربية الأطفال مع الخيول لها فوائدها، وكانت العرب تعشقها حتى ان اسماءها لها معانٍ نبيلة مثل الحصان والفرس والجواد والخيل وكلها ترمز الى الحصانة والفروسية والشجاعة والكرم والخيلاء.. وأحرص على اختلاط الأطفال بالخيل لأن الجواد بطبعه يمنح الاعتزاز بالنفس ويورث طبعاً رياضياً ويفرض على المتعاملين معه خشونة واهتماماً برعاية كائن حي. بل يفرض عليه أيضاً متابعة أطوار الحياة من أكل وشرب ولقاح وحمل وولادة ورعاية للمولود الجديد، مما يتيح للطفل المختلط به وعياً حياتياً وجنسياً لا يتاح في العادة لأطفالنا لما يحاط بهذه الأمور من غموض وحياء". انتقلت أسرة الصادق مع الصديق الى أم درمان، حيث كان المجتمع مختلفاً، فواصل الصادق دراسته في خلوة الشيخ أحمد العجب في العباسية ومنها انتقل الى مدارس الأحفاد التي أسسها المرحوم الشيخ بابكر بدري الذي كان "انصارياً" ملتزماً بلباس المهدية حتى وفاته. وكان الشيخ بابكر بدري مشدوداً بصورة قوية الى ماضيه المهدوي وفخوراً به وفي الوقت نفسه كان منفتحاً على تيارات العصر الحديث بصورة جعلته رائد التعليم الأهلي في السودان بلا منازع. وكان من السودانيين القلائل الذين لا تمسكهم الصراحة عن الجهر بالرأي، فتحلى بشجاعة أدبية نادرة، وكان معلماً ومربياً طبع المؤسسات التعليمية التي أسسها بأفكاره المتطورة. شارع العباسية مرتع الصبا لابناء أسرة المهدي الذين لعبوا مع أقرانهم الألعاب الشعبية التي اشتهرت في ذلك الزمان مثل شليل وحرينا التي ترمز الى الشجاعة والتنافس الشريف. ولم يكن أبناء أسرة المهدي يختلفون في حياتهم عن غيرهم من أبناء الحي، فمارس الصادق واخوته وأعمامه مع أطفال الحي الألعاب والتمثيل فوق المسرح والغارات على الأحياء المجاورة والانتقام لمن يحاول النيل من حرمة حي العباسية وشكلوا مع أقرانهم جماعات لمحاربة العادات الضارة ومارسوا تجارة "الطبلية" وجمع النقود في "الحصالة" واللعب والسباحة في نهر النيل الذي كان له وجود اجتماعي هائل في الماضي حيث كانت الأسر تزوره في مناسبات الختان والولادة والزواج تبركاً بعد أن يكحلوا الأعين بالكحل الطبيعي، وكل هذه الظواهر اختفت الآن أو كادت... بعد العام 1950 بدأ يظهر تميز أحفاد آل المهدي عن غيرهم، حيث بنى آل المهدي المنازل الجميلة ودخلت عوامل الخصوصية في الأسرة وظهرت في اختيار التعليم في المدارس الأجنبية. وهي مسائل كانت نادرة ولكنها بعد ذلك صارت متاحة لكثير من أهل السودان والآن زادها عمل السودانيين خارج الوطن انتشاراً. التعليم الأجنبي التعليم الذي ناله الصادق المهدي كان تقليدياً في بدايته حيث استهله بالخلوة ثم الكتاب. كانت الخلوة مكاناً للعلم واعداد الفرد كما تفعل جمعيات الكشافة الآن من انضباط. ثم دخل الصادق التعليم الأجنبي في سن العاشرة، فبدأ بمدارس الراهبات ثم مدارس كمبوني، وكانت هذه المؤسسات تمارس تعليماً حديثاً خالياً من أي محاولة مباشرة لتنصير أبناء المسلمين. ولكن مع غياب محاولات التنصير المباشرة فإن الرهبان والراهبات يلعبون دوراً إدارياً وإشرافياً كبيراً ويشعون جواً مشحونا بأنفاس المسيحية فالأيقونات والصور الدينية المسيحية معلقة في كل مكان. والقساوسة لا يفارقون الكتاب المقدس يتلونه في أوقات فراغهم. ومدرسة كمبوني نفسها مع ما قامت به من جهد لنشر التعليم المدني في السودان سميت كذلك لتخليد ذكرى المطران كمبوني الشهير. هذا المناخ التبشيري المباشر يوجه اعجاب الطلبة نحو انجاز مسيحي وتقديرهم له هذا مع غياب رموز ومنارات الدين الاسلامي يخلق بيئة تغريبية يصعب أن ينجو الطالب من آثارها. ولا يجد الصادق المهدي تفسيراً عندما سألناه عن السبب الذي جعل آباه وأجداده يرسلون أولادهم الى هذه المدارس، وقال: "ربما لاعتبارهم أنها تعطي مستوى أفضل من التعليم كما تهيئ لمستوى أفضل، وهذا بالمقياس المدني صحيح، وربما تكون لثقتهم بأنفسهم وابنائهم بأنهم مهما كان الحال، محصنون، لكنني اؤكد عدم اقتناعي بهذا النوع من التعليم وحرصت على الابتعاد بكل أولادي عن المدارس الأجنبية". أكمل الصادق المهدي الدراسة في مدارس أبا والأحفاد الأولية وجزء من الابتدائية وفي الراهبات وكمبوني، وبعد ذلك حولته الأسرة الى كلية فيكتوريا في الاسكندرية وهي أيضاً مدرسة من النوع الأجنبي نفسه الذي ينفذ سياسة تعليمية خاصة لأبناء الأسر العربية والاسلامية الكبيرة. وأحسّ الصادق بالتناقض بين هذا الدور وكل ما سمعه من الشيوخ وحكايات الجدات والامهات عن الانكليز وبين ما وجده من تمجيد لهم ولحضارتهم في حصص التربية والتاريخ والمناخ الموجود في المدرسة والاناشيد التي تردد والتغييب الكامل للغة العربية والتربية الاسلامية حتى ان لغة التخاطب داخل وخارج قاعات الدراسة هي الانكليزية. كان الصادق بحكم طبيعته القلقة يحسّ بالتناقض، لا سيما مع تنامي الشعور الوطني في مصر في بداية الخمسينات الذي حاولت ادارة كلية فيكتوريا احتواءه بعد ان ظهر الحسّ الوطني داخل الكلية نفسها. وحدث ان حطّم بعض الطلاب صورة الملكة فيكتوريا نفسها. وتوضح الاحتواء عندما اتخذت ادارة المدرسة اجراءات صارمة وفرضت على جميع التلاميذ اداء نشيد ألّفه أحد الاساتذة هو المستر سويبي للتعبير الكامل عن الولاء للملكة فيكتوريا وترجمته: "نحن نشيد بفيكتوريا اسماً عظيماً نحبه. اسم هو اسمنا اننا نفخر بك". كان فرض هذا النشيد بمثابة القشة التي قصمت علاقة الصادق بكلية فيكتوريا، فقطع تعليمه وحمل حقيبته وعاد الى السودان من دون ان يقدم تفسيراً مباشراً لهذه العودة. واكتفى بأنه يرفض الاستمرار. على رغم ان وجوده في كلية فيكتوريا كان نقلة حضارية حيث استخدم الملابس المنظمة وارتداء الروب وربطة العنق مما كان لا يعرفه ابناء السودان اضافة الى السفر بالطائرة وتسلّم مصروف الجيب. وتزامنت عودة الصادق الى ام درمان مع بحث الامام عبدالرحمن عن مؤرخين لكتابة تاريخ المهدية بتخصيص بعيداً عن التشويه الذي اعترف به بعض الكتّاب الاجانب. ووجد ضالته في الشيخ الطيب السراج وهو من خريجي كلية غردون، لكنه نحا نحواً فريداً، اذ علّم نفسه بصورة عصامية كل علوم اللغة والادب والنحو وصار عالماً لغوياً. كان علماء المجمع اللغوي في مصر يقولون عنه: "هذا الرجل اذا كتب لنا عنه في الجرائد ما صدقنا". وكل الذين اشتهروا بعلوم اللغة والادب في السودان هم من تلاميذ الشيخ الطيب السراج ومنهم الدكتور عبدالله الطيب والاستاذ الهادي ابو بكر والاستاذ عبدالقادر كرف. وكان من اهتمام الشيخ الطيب السراج باللغة والادب العربيين ان حياته نفسها كانت جزءاً من دراسته واسترجاع للبيئة العربية بصور تشبه سيرة جان جاك روسو في الادب الفرنسي. وكان السراج موسوعة معارف في مظهره واسلوبه وسلوكه. التقى الصادق الشيخ السراج صدفة في دائرة المهدي، فوجد فيه صورة تعيده من قلقه نحو التعليم الاجنبي وتجربته المريرة في فيكتوريا وقبلها كمبوني فأعجب به ووجد فيه اشباعاً لما تريده نفسه من ارتماء في الاصالة والتاريخ العربي الاسلامي، فالتزم صحبته لعامين كاملين لم يكن خلالهما يتلقى اي تعليم نظامي. كان السراج موسوعة تربوية علمية مثل المدرسة المتحركة. وكان الصادق يصحبه وقد تأثر به الى حد كبير. وكان السراج يحب البقاء طويلاً في "نادي الطلبة" التابع لكلية الخرطوم الجامعية جامعة الخرطوم الآن ويعقد الحلقات ويتحلق حوله الطلاب ينهلون من علمه وتجربته وسخريته ومداعباته وكان هذا المشهد يتكرر يومياً. في كلية الخرطوم الجامعية قابل الصادق المهدي شخصاً آخر كان له دور في تحويل مسار حياته الدراسية هو ثابت جرجس من الاقباط السودانيين، وكان يدرس علم الحيوان. واهتم ثابت بأمر ثقافة الصادق كثيراً واقترح عليه ان يبدأ بتعلّم المواد العصرية اضافة الى العلوم الادبية واللغوية والدينية التي يتلقاها على يد الشيخ الطيب السراج. ووجد الصادق فرصة للتخلص من حالة الصدود التي اصابته من التعليم العصري المنظم في كلية فيكتوريا كما ان تعلّم الدروس العلمية الحديثة لم يكن يشغل نفسه القلقة غير المطمئنة للتعليم الحديث بحيث ان العلوم والرياضيات والطبيعيات لا خلاف عليها او على مراميها البعيدة في بناء الشخصية الوطنية. وطلب الاستاذ جرجس من الصادق المهدي ان يؤهل نفسه لدخول الجامعة عام 1955 ما يتطلب امتحان الشهادة الثانوية السودانية والتي يعدها طلاب المدارس الثانوية، ما جعل الصادق امام امرين: التحضير للشهادة الثانوية من المنزل او امتحان شهادة اكسفورد التي كانت كلية كمبوني تنظمها. وبالفعل استعد للجلوس في النظام العلمي الذي تتكون مواده من اللغة الانكليزية والعلوم والكيمياء والفيزياء والاحياء والرياضيات الاضافية. واثناء الامتحان وقبل وصول النتيجة هيأ له الاستاذ جرجس فرصة الالتحاق بكلية الخرطوم الجامعية كمستمع في السنة الاولى علوم، لكن اشكالات ادارية حالت دون دخوله الكلية. إلا ان روح الأبوة والاستاذية جعلت عميد كلية العلوم البروفسور ساندون يقترح عليه ان يحاول الالتحاق بجامعة اكسفورد التي كان احد خريجيها، فقبل العرض الجديد وشد الرحال الى كلية سانت جون التابعة لجامعة اكسفورد، لكنه اشترط مسبقاً ان يتسلم من الجامعة ما يفيد بقبوله طالباً منتظماً، قبل السفر، وساعده البروفسور بأن كتب الى الجامعة عن حالته مقترحاً إرسال امتحان القبول والاشراف عليه ثم ترسل الأوراق الى جامعة اكسفورد. وبالفعل امتحن الصادق في علوم الحيوان والنبات والكيمياء والفيزياء والرياضيات وساعدته في تلك الفترة التي قضاها في كلية العلوم في جامعة الخرطوم والتي تؤهل رسمياً لدخول الجامعات البريطانية في حالة اكماله للسنة الثانية، ولكنه لم يكلمها. وحضرت اوراق الامتحان وراقبها البروفسور ساندون ونجح الصادق وسافر الى اكسفورد لدراسة الزراعة، حسب رغبته، وهناك أقام مع اسرة بريطانية لا يزال يحمل عنها الكثير من الود، هي اسرة المستر رومانز. وإقامة طلاب بلدان العالم الثالث، وبالذات البلدان التي كانت مستعمرات بريطانية مع الاسر هناك تساعد في اعداد الطالب للدراسة الجامعية وتحسين لغته الانكليزية. وبالفعل قضى بضعة أشهر مع اسرة رومانز وبعدها دخل جامعة اكسفورد في تشرين الأول اكتوبر 1955. خلال نقاش بين الصادق واحد اصدقاء والده الانكليز وهو المستر فريهام طوماس اقترح عليه فكرة راقت له وهي ان بريطانيا غير مناسبة لدراسة الزراعة وأفضل مكان لذلك هو كاليفورنيا، ووجدت الفكرة هوى في نفسه المتعشقة للزراعة، ولكن هل يضيع فرصة القبول في جامعة مثل اكسفورد؟ كان هذا هو الهم الذي لاحقه للاستفادة من الطرحين، وهو ان يدرس في اكسفورد علوماً عصرية مفيدة ثم يكملها بدراسة الزراعة في كاليفورنيا. وبالفعل طلب التحويل من القبول لكلية الزراعة الى كلية العلوم الاجتماعية التي يدرس فيها علوم الفلسفة والسياسة والاقتصاد وقضى فيها الفترة الكاملة جلس بعدها للامتحان النهائي ونجح فيه بدرجة الشرف. عالم يغلي عن الدراسة الجامعية في اكسفورد يقول الصادق: "ان القدر الأكبر من المعرفة يناله الطالب من نشاط الجمعيات والاتحادات أكثر مما يناله في صالات الدراسة. وغمست نفسي في هذا النشاط وكنت رئيساً وسكرتيراً لسبع جمعيات، وكان العالم في ذلك الوقت يغلي من السياسة بعد مؤتمر عدم الانحياز في باندونغ والزخم الهائل للحركة الوطنية في العالم العربي بعد ثورة 23 يوليو المصرية، وانعكس هذا الغليان داخل الجامعة وجمعياتها الكثيرة التي تهتم بالثقافة والفكر الى جانب نظام "التروتروريال" في الدراسة الجامعية، وكان التحصيل العلمي وتنمية المواهب متوافرين في صالات الدراسة والجمعيات وجلسات النقاش مع الاساتذة التي تتم اسبوعياً حيث يطلب من الدارس تحضير الموضوع - الاطروحة الذي يجعله يكثر التنقيب في المصادر المختلفة. وكان هذا هو النصيب الاكبر في ما وجدته من علم وخبرة ووجده كل الطلاب الأفارقة الذين اصبحوا فيما بعد من قادة السياسة والفكر في أوطانهم. ويضاف الى هذا الزيارات التي يقوم بها زعماء العالم للجامعة والمحاضرات التي يقدمونها". أكمل الصادق الدراسة الجامعية في اكسفورد واستفاد منها فكرياً اكثر منه اكاديمياً، لكن الفترة لم تبدل الكثير من أفكاره عن عدم موضوعية الفكر الأوروبي، مما عمق في نفسه الرغبة في الحصول على المزيد من علوم التأصيل الثقافي والبحث عن الجذور الفكرية وهو نفس الشعور الذي أصابه في كلية فيكتوريا لكنه كان بعد اكسفورد اعمق ما دعاه للكتابة لوالده وجده الامام عبدالرحمن حول عدم فائدة وجدوى التعليم الاجنبي، لا سيما للطالب صغير السن دون الجامعة، وكان يرى العديد من الأمثلة السلبية التي احدثت اضطراباً في شخصية الكثيرين من أبناء العرب والمسلمين الذين ذهبوا للدراسة في الخارج ولم يكسبوا غير الضياع. وناشد الصادق والده ألا يرسل أحداً من اخوته وابنائه للدراسة في الخارج إلا لمن أراد وهيأ نفسه للدراسة فوق المرحلة الجامعية بحيث تحول سنه بينه وبين الوقوع في سلبية الاغتراب الدراسي والفكري. ولهذا حرص على عدم ارسال ابنائه فيما بعد للتعليم الاجنبي في السودان أو التعليم الجامعي في الخارج. في العام 1957 تسلم الصادق شهادته الجامعية وعاد الى السودان للاستراحة قليلاً قبل إكمال مشروعه المحبب لدراسة الزراعة في كاليفورنيا. هكذا كان يأمل ويخطط لكن كان الله يقدر أمراً آخر وكذلك الظروف السياسية في السودان.