حاويات شحن مزودة بنظام GPS    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    ضبط 23194 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    الأردن تدين حرق قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رينارد: مباراة العراق حاسمة ومهمة للتقدم في البطولة    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    السعودية تقدم دعمًا اقتصاديًا جديدًا بقيمة 500 مليون دولار للجمهورية اليمنية    "جلوب سوكر" .. رونالدو يحصد جائزة "الهداف التاريخي"    القبض على أطراف مشاجرة جماعية في تبوك    مدرب قطر يفسر توديع كأس الخليج    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العودة : من "تهتدون" إلى "تفلحون" كتاب الصادق المهدي 11 : عن المهدية وإدارة شؤون الأنصار وتنظيم مجلس الحل والعقد
نشر في الحياة يوم 11 - 12 - 2000

يستعيد السيد الصادق المهدي في هذه الحلقة مرحلة تأسيس الدولة السودانية اثر تحرير الخرطوم في 1885، ويعرض تاريخ تعاقب حُكم الأئمة وصولاً الى انشقاق حزب الأمة في أواسط الستينات. كما يتطرق إلى مسألة تنظيم هيئة شؤون الأنصار ووضع الدليل التأسيسي.
يعتقد حزب الأمة أن العمل الجماعي واجب وطني لتوحيد الجهد من أجل المقاصد الوطنية. ويعتقد أن المرحلة المقبلة هي مرحلة عمل جماعي من أجل تحقيق الأجندة الوطنية وسوف يسعى مع القوى السياسية السودانية الأخرى لتكوين جبهة عريضة تلتزم بميثاق وطني محدد وتعمل من أجل الأجندة الوطنية.
ويقتضي العمل الجماعي الاتفاق الوطني حول اتفاقية السلام العادل، والديموقراطية المستدامة، والدستور السوداني الديموقراطي، وسائر نقاط الأجندة الوطنية. كما يقتضي العمل الجماعي الاتفاق حول المواثيق المؤسسة للبناء الوطني مثل: الميثاق الاجتماعي، والميثاق الثقافي، والميثاق العسكري... وهلمّ جرّاً.
عودة الى التاريخ:
هيئة شؤون الأنصار
كل من نطق بالشهادة مسلم. وكل من نطق بها وعمل بموجبها مؤمن. وكل من تجاوز العمل في خاصة نفسه إلى التأثير على من حوله يصبح من أنصار الله. هذا هو فهم صاحب الدعوة. وهذه هي الاستجابة لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله" الآية.
يتمدد الأنصار في مساحة كبيرة في إفريقيا تغطي حزام السودان العريض من السودان شرقاً، مروراً بتشاد، ووصولاً لنيجيريا والسنغال ومالي غرباً. كما توجد جماعة في أميركاً تلحق نفسها بهذه الشجرة وتنظم في صفوفها الزنوج افتخاراً بعزة الأسود الذي استطاع هزيمة البيض. المجموعات الأنصارية في الدول الإفريقية غالباً جماعات مهمشة في بلادها لاستعداء الاستعمار الأوروبي لها في الماضي بشقيه البريطاني والفرنسي لدورها وذلك لدورها المحوري في مناهضته في بلدانها، ولكن التقديرات المبدئية لأعدادها أنها ضخمة من حيث الكم، وحتى الآن لا توجد علاقات قاعدية بين تلك الكيانات، ولا صلة مباشرة في ما بينها. نتطرق هنا لكيان الأنصار الموجود في السودان- الكيان الأم.
مرّت الدعوة الأنصارية بأربعة أطوار هي: الدعوة الأولى، الدولة، الدعوة الثانية، والبعث الجديد. نحن الآن في الطور الرابع.
الحقيقة الأولى بشأن الدعوة تتعلق بالمهدية. فما هي مقولة المهدية لدينا؟ في ثلاثة من كتب الصحاح الستة توجد أحاديث صححها أصحاب السنن تخبر عن المهدي: 3 أحاديث رواها الترمذي، و7 أحاديث رواها ابن ماجة، و13 حديثاً رواها أبو داؤود.
هذه الأحاديث وغيرها من المرويات في غير كتب الصحاح الستة هي الأصول النقلية للعقيدة المهدية.
هذه النصوص فسرها الفكر الإسلامي تفسيرات وتأويلات مختلفة حيث نشأت في الفكر الإسلامي عشر مدارس مهدوية:
- ثلاث مدارس مهدوية شيعية هي:
- المدرسة الاثني عشرية التي تقول إن سلسلة الأئمة المعصومين الذين على الأمة اتباعهم بعد النبي ص هم: علي، الحسن، الحسين، علي زين العابدين، محمد الباقر، جعفر الصادق، موسى الكاظم، علي الرضي، محمد التقي، علي النقي، الحسن العسكري، الثاني عشر من الأئمة هو ابنه محمد وهو المهدي. ومحمد الحسن العسكري هذا في غيبة يعود بعدها عندما يحين أوان ظهوره.
- المدرسة السبعية واليها ينتسب الفاطميون وهي ترى أن المهدي هو الإمام السابع أي إسماعيل بن جعفر الصادق.
- المدرسة الزيدية وهي تنتسب لزيد بن علي زين العابدين بن الحسين واعتقادها أن كل فاطمي - جدته السيدة فاطمة بنت النبي ص - عالم تقلد بقلائد الدين وخرج من أجل الإصلاح مهدي واجب الاتباع.
وأربع مدارس سنية هي:
- القائلون بالمهدي المنتظر الذي سوف يخرج قبل آخر الزمان.
- القائلون أن المهدي هو مجدد القرن الذي يظهر في كل قرن بنص الحديث: إن الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من الزمان من يجدد لها دينها.
هنالك نص عام جاء في الحديث الشريف: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي. قال الإمام أحمد: إن عمر بن عبدالعزيز كان راشداً مهدياً. ههنا أساس لتوقع مهديين يظهرون في مستقبل الأمة مما أدى لنشوء مدرستين حول هذا الدور هما:
- مدرسة الإمام ابن كثير. قال تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" الآية. في تفسير هذه الآية روى ابن كثير الأثر الآتي: قال مسلم: في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر سفيان، عن عبد الملك بن عمر، عن جابر بن مسرة. قال: سمعت رسول الله ص يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما دلهم اثنا عشر رجلاً. ثم تكلم رسول الله كلمة خفيت علي فسألت أبي فقال: كلهم من قريش. قال ابن كثير وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادل. وليسوا بأئمة الشيعة ويكون وجودهم متتابعاً ومتفرقاً في الوقت الذي يعلمه الله. ومنهم المهدي.
- مدرسة الإمام فخرالدين الرازي. قال الرازي في تفسير قوله تعالى: "ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً" الآية.
قال الشهيد المقصود هنا ليس هو الذي قتله الكفار. بل الشهيد فعيل بمعنى فاعل وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان. فالشهداء هم القائمون بالقسط.
وروى حديث عن علي بن أبي طالب ع أن الأرض لا تخلو من قائم بالحجة. الرازي لم يسم القائم هذا المهدي ولكن دوره يفيد المعنى.
ومدرستان صوفيتان:
الأولى: المهدي هو غوث الزمان أو خاتم أقطاب الزمان.
الثانية مقولة الشيخ محي الدين بن عربي: المهدي هو خاتم الأقطاب والساعد الأيمن للنور المحمدي الذي به قوام الكون.
الفارابي الفيلسوف في كتابه المعروف عن أهل المدينة الفاضلة تحدث عن المدينة الفاضلة ورتب أحوالها وجعل لها رئيساً ذا صفات مثالية وهو المهدي.
النظرة الثاقبة للأدب المهدوي في التراث الإسلامي تؤكد أن المدرسة المهدوية التي قال بها الإمام محمد المهدي بن عبدالله في السودان تمثل مدرسة مهدوية إحدى عشرية أو مدرسة سنية خامسة.
بيان هذه المدرسة هو الحقائق الآتية الملحقة في كتابات المهدي الموثقة:
أولاً: إن توصيف ظهور المهدي في زمان معين وفي مكان معين ليس صحيحاً. وفي هذا الصدد قال الإمام المهدي: "النبي لم يوقت ولم يعين. بل قال: كذب الوقاتون".
ثانياً: البحث عن علاقات وأشراط المهدية باطل. إن الله يفعل ما يريد.
ثالثاً: أن تفشي الظلم والفساد وتفرق كلمة المسلمين وخضوعهم لسلطان أجنبي يسومهم الذل يحرك المسلم غيرة على دينه لإزالة المنكر.
رابعاً: أن بعث الإسلام واصلاح حال المسلمين لا يكون إلا بإزالة الأسباب التي مزقتهم والالتزام بالكتاب والسنة.
خامساً: البيعة التي تربطه كقائد والمسلمين بيعة إحياء الكتاب والسنة والتخلي عما سواهما.
سادساً: أنه أي محمد أحمد كان ساعياً في إحياء الدين ومستعداً لتأييد من يرفع راية الدين حتى هجمت عليه المهدية.
سابعاً: أقواله وأفعاله تؤكد أنه لم يأت في آخر الزمان لأنه عين من بين أصحابه خلفاء لخلفاء رسول الله ص كما وضع قاعدة لحركة الإصلاح الديني مقولة: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال.
ثامناً: تجاوزت الصيغ الخلافية للمهدية وربطتها بوظيفة إحياء الدين. المهدية وظيفة إحيائية.
الأثر الإسلامي الباقي لهذه المدرسة المهدوية الجديدة يلخص في سبعة مبادئ هي:
أولاً: إحياء الدين واجب كل مسلم على أساس الالتزام بالكتاب والسنة. أهم مبدأ لأهل السنة.
ثانياً: التكاليف الدينية لها أغوار وجذور روحية أهم مبدأ للتصوف.
ثالثاً: للقيادة في الدين أي الإمامة دور أصيل في الشريعة أهم مبدأ للشيعة.
رابعاً: الحركة في الفقه ضرورة لاستيعاب اختلافات الزمان والمكان أهم مبدأ لاهل الاجتهاد في الإسلام.
خامساً: الجهاد فريضة ملزمة حتى قيام الساعة أهم مبدأ للحركيين الإسلاميين.
سادساً: الملزم في الإسلام هو القطعي وروداً والقطعي دلالة وهو قليل، والمذاهب استنباطات بشرية غير ملزمة، ما عدا القطعيات وهي قليلة الدين اجتهادي. أهم مبدأ للصحويين في الإسلام.
سابعاً: إفراز ثقافة إسلامية متفردة تنظر للموروثات المحلية بعين تحافظ على النافع وتبني عليه، وعين تطرح المعوق لمسيرة المجتمع أو المتعارض مع روح الدين أهم مبدأ للتنمية الثقافية.
بعد تحرير الخرطوم في 26/ 1 / 1885 نجحت الدعوة وأسست الدولة.
وضع الإمام المهدي أسس الدولة على أساس يحمي تماسكها ويؤهلها لدورها الرسالي لتحرير وتوحيد العالم الإسلامي. ولكن المنية لم تمهله فتوفي بعد خمسة شهور من الفتح.
الخلافة في النظم التقليدية السودانية تقوم على الوراثة. ففي نطاق الطريقة الصوفية يخلف الشيخ ابنه أو أخوه أو عمه باعتبار أنهم مستودع البركة. وفي نطاق العشيرة يخلف الزعيم ابنه أو أخوه أو عمه باعتبار العصبية.
كان للمهدي من الأبناء وأهل البركة من الأقارب ما يمكنهم أن يحتلوا المناصب الأعلى في حياته وأن يخلفوه بعد وفاته. ولكنه أقام نظام تسلسل هرمي في حياته بعيداً من مفهوم البركة والعصبية المعهودين في النظم التقليدية السودانية.
لقد نصب المهدي، عبدالله بن محمد رجلا ثانياً في حياته وسماه خليفة أبي بكر الصديق وسمى آخرين في خلافة صحابة النبي ص الآخرين: علي بن حلو خليفة الفاروق، ومحمد شريف بن حامد خليفة الكرار، وقال انهم استحقوا هذه المناصب بالبلاء. هذا التسلسل لم يقصد به ترتيب الخلافة بعد وفاة المهدي، بل قصد به ترتيب المسؤوليات في حياته ولكنه كان قرينة قوية لصالح خلافة خليفة الصديق عبدالله بن محمد له بعد وفاته، قرينة سلم بها الآخرون.
الدولة التي تولى رئاستها الخليفة عبدالله واجهت تحديات كبيرة. وتحديات داخلية، لأن كثيراً من أهل السودان لم يقبلوا المهدية فعارضوها داخلياً. وتحديات خارجية لأنها كانت متمسكة بطموح كبير لتحرير وتوحيد العالم الإسلامي فوضعها هذا في تناقض مع هجمة القرن التاسع عشر الاستعمارية. ولكن ابتداء من نيوبولد ثم تلاه عدد كبير من المؤرخين لا سيما السودانيين أثبتوا كيف أن تلك الدولة كانت مميزة بالمقارنة مع الدول المعاصرة لها.
دخلت الدولة في نزاعات حادة داخلية وخارجية فأدى ذلك الى تصفيات وخصومات كثيرة تركت آثاراً حزينة. لذلك يقول بعض الناس إنهم معجبون بالمهدية في مرحلة الدعوة وناقمون عليها في مرحلة الدولة. هذا فهم غير موضوعي للامور. صحيح هناك اختلافات بين المرحلتين. اختلافات ترجع لأربعة أسباب موضوعية.
السبب الأول: كان الأنصار يتوقعون بقاء المهدي حتى يحقق الفتوحات ويوحد بلاد المسلمين. أحدثت وفاة المهدي هزة أيديولوجية عنيفة أثرت سلباً على الحماسة.
السبب الثاني: مهما كان تصميم المهدي وتصميم الخليفة فان عوامل البيئة الاجتماعية السودانية جعلت بعض الناس يلتفون حول عشيرة الخليفة من أهل العصبية كحزب حكومة، وجعلت آخرين يلتفون حول عشيرة المهدي من أهل البركة كحزب معارضة مما خلق شرخاً أضعف كيان المهدية.
السبب الثالث: قيام دولة ذات توجه أيديولوجي محدد خلق تناقضاً بينها وبين جماعات قبلية ودينية أفرزت نزاعات دامية.
السبب الرابع: نجاح الدعوة في حدود السودان وتكالب القوى الخارجية ضدها لحصرها داخل السودان أعطى أولوية للدولة داخل السودان وأمنها ومصالح أهلها.
أثناء الدولة التزم الخليفة بدوره كامتداد للمهدي وكان ولاؤه لصاحب الدعوة منقطع النظير.
أدار الخليفة دولة قوية ولكن في النهاية هزمتها 3 عوامل:
- الشرخ الداخلي.
- المعارضة الداخلية.
- التكالب الأجنبي عليها.
ولكن الدولة المهدية مثلما كانت مميزة على الدول المعاصرة لها، كانت مصممة في التمسك بعقيدتها، وفي النهاية استطاعت القوى العسكرية الغازية المتفوقة أن تصفي الأبدان، وأن تحطم الأجهزة، ولكنها لم تهزم الإرادة. ماتت الدولة كالنخلة وهي واقفة.
الطريقة البطولية التي واجه بها الأنصار الغزو فماتوا من دون أن يستسلموا كتبت عمراً جديداً للدعوة فبقيت في نفوس كثيرة. ولكن الدعوة واجهت بعد هزيمة الدولة 3 عقبات أساسية: العقبة الأولى: البرنامج الأمني الأول للسلطة الجديدة هو استئصال الدعوة نهائياً من النفوس لذلك فان أية علامة على وجودها تجلب إجراء أمنياً مضاداً.
العقبة الثانية: أن أصحاب الدعوة خبروا أسلوباً واحداً لتأييدها، أسلوب المواجهة.
العقبة الثالثة: المهدية قضت على أساليب الخلافة التقليدية المؤسسة على التوارث من طريق العصبية، والبركة. وأصحاب المناصب المحددة -الخلفاء - استشهدوا جميعاً. وكبار الأمراء الذين لم يستشهدوا كانوا في الأسر.
الدعوة ليس لها رأس يشار إليه. لقد شرحت في مقام سابق كيف أن السيد عبدالرحمن بن المهدي استطاع بعبقريته أن يزيل هذه العقبات وأن يصبح بحق المؤسس الثاني للدعوة.
بعد مرور قرن هجري كامل على مولد الإمام أي في 1359 ه أطلق على السيد عبدالرحمن لقب الأمام. لم يطلق عليه أبداً لقب خليفة، فلا هو خليفة للمهدي على نهج الطرق الصوفية، ولا هو خليفة للخليفة عبدالله، ولأي من الخلفاء، ولا هو الخليفة الرابع. هذا كله معناه في العرف الإسلامي والأنصاري أنه أسس كياناً جديداً وجاء بعطاء استحق معه الإمامة لا مجرد الخلافة.
كان الإمام عبدالرحمن مخلصاً للدعوة ومدركاً أن بعثها بما يحافظ على جوهرها ويراعي مستجدات العصر واجب عليه. أهم معالم نهجه الجديد:
أولاً: أن للجهاد معنى واسعاً يبدأ بمهمة تربوية جهاداً للنفس ويستخدم المال والكلمة والاجتهاد لتحقيق مقاصده. ولا يكون قتالاً إلا في ظروف معينة.
ثانياً: إن الزهد في الدنيا هو ألا يركن الإنسان للماديات. أما أن يكون المال في اليد لا في القلب فقوة للدين.
ثالثاً: أن البيعة معه بيعة على الكتاب والسنة وتقوم على الرضا أي الاختيار.
رابعاً: التعامل المتسامح مع المسلمين الآخرين كأخوة في الدين.
خامساً: التعامل مع غير المسلمين كاخوة في الإنسانية واستصحاب النافع من أفكارهم وأدواتهم ونظمهم. وكان الإمام عبدالرحمن مع أنه نشأ وتلقى تعليم الصبا في المهدية رائداً للتحديث في بلاده. لذلك اتخذ نهجاً مؤسسياً في بناء كيانه، نهجاً قام على ثلاث مؤسسات:
- كيان الأنصار كمؤسسة دينية.
- حزب الأمة كمؤسسة سياسية.
- دائرة المهدي كمؤسسة اقتصادية.
وهي مؤسسات نمت وترعرعت في حياته. هذا إلى جانب رعايته لأسرته ككيان خاص يقوم على حق الرحم.
اهتم الإمام عبدالرحمن بلم شتات الأنصار انطلاقاً من مقولة: إن زوال الدولة لا ينسخ بيعة الدين. لذلك سعى في إحياء العلاقة الدينية بالأنصار وجدد البيعة بعد أن عدل بعض بنودها لتلائم وضعها بأنها بيعة رضا. وعمل جاهداً على تكوين المؤسسات الدينية: المساجد، الخلاوي، المعاهد وحلقات الراتب.
وأقام الإمام عبدالرحمن للأنصار تنظيماً محكماً يقوم على الوكلاء وهم يمثلون قبائلهم ومناطقهم والمناديب وهم يبعثون لقبائلهم ومناطقهم دورياً وشيوخ الأنصار وهم يمثلون أحياء العاصمة المثلثة . وشباب الأنصار وهم تنظيم للشباب حاوله الإمام في عام 1942 ولكن السلطات أمرت بحله في عام 1950، ثم سمح بتكوينه من جديد في عام 1952 وهيئة الملازمين وهي تنظيم يجمع الأشخاص المحيطين مباشرة بالإمام ويساعدونه في أنشطته.
كان عمل الأنصار يتبع للإمام شخصياً ويخضع لمكتبه الخاص إذ يشرف عليه قسم منه يسمى مكتب شؤون الأنصار يديره شخص يسمى مدير شؤون الأنصار.
قبل أن تدرك الإمام عبدالرحمن الوفاة سمى ابنه السيد الصديق خليفة له. الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان أن الصديق لم يكن خليفة والده بقدر ما كان شريكاً معه ويداً يمنى له وامتداداً بمعنى الكلمة لعهد والده، كانا كأنهما روح واحدة في جسدين.
كان اللقب الذي اختاره الإمام للصديق هو أن يصبح خليفته. ولكن كانت وفاة الإمام عبدالرحمن في ظروف الديكتاتورية الأولى وكان السيد الصديق أقوى وأوضح معارضيها بل كان يعتبر الانقلاب نفسه تدبيراً ضده. لذلك قررت الجماعة التي فتحت وصية الإمام عبدالرحمن أن يلقب السيد الصديق بالإمام لان تحدي مواجهة الحكم العسكري وقوة وقوف الأنصار مع قيادتهم واستقطاب الشعب السوداني حول القيادة تتطلب مكانة تتحقق مع لقب إمام لا مع لقب خليفة لا سيما والتقليد السوداني يسمح لاكثر من خليفة أن يتعايشوا في مقام واحد. لكن الإمام واحد.
كان الإمام الصديق ابن عصره وشريك والده وامتداده بكل معنى الكلمة وكان في الوقت نفسه من "القوى الحديثة" لذلك عندما ادركته المنية وضع قاعدة تحديثية للخلافة في كيان الأنصار: أن ينتخب الإمام. وبما أن الظروف كانت ظروف حكم عسكري فقد أوصى أن يدير شؤون الأنصار مجلس خماسي برئاسة السيد عبدالله وعضوية السادة: الهادي، يحيى، أحمد، والصادق.
هذا المجلس بعد الاطلاع على وصية الإمام قررت غالبيته أن تنفيذ الوصية بشأن الخلافة في عهد عسكري يمكن أن يجلب مفاسد لذلك رؤي أن يختار المجلس الإمام من دون تراخ. وقد كان. أي أن ولاية الإمام الهادي لم تكن بحق الوراثة التلقائي ولكن باختيار كلية انتخابية صغيرة. واستمر الإمام الهادي منذ اختياره في عام 1961 إماماً. وعندما وقع الانشقاق المؤسف في حزب الأمة 1966-1969 فان هذا الانشقاق كان حول قضية سياسية ولم يكن حول الإمامة. وفي نيسان أبريل 1968 تم تجاوز الانشقاق في حزب الأمة وأعيد توحيده ووقع الإمام الهادي معي على اتفاق شامل أجازته أجهزة حزب الأمة وكان أهم ما في ذلك الاتفاق:
- توحيد حزب الأمة على أساس المبدأ الديموقراطي.
- الإمام الهادي هو الرجل الأول في الحزب وفي الكيان، والصادق المهدي هو الرجل الثاني في الحزب والكيان.
- وبعد ذلك أصدر الإمام الهادي منشوراً عاماً سماني فيه الرجل الثاني في الحزب وفي الكيان على أن نمارس صلاحياتنا السياسية بالوسائل الديموقراطية.
في عهد الإمامين الصديق والهادي استمر نظام الأنصار كما كان في عهد الإمام عبدالرحمن من دون تعديل بل حتى مدير مكتب شؤون الأنصار استمر هو منذ أواخر عهد الإمام عبدالرحمن حتى نهاية عهد الإمام الهادي باستشهاده في آذار مارس 1970. لذلك ينبغي أن يعتبر عهد الامامين في الحقيقة امتداداً لعهد الإمام عبدالرحمن المؤسس الثاني للدعوة.
البعث الجديد
في آخر عهد الإمام الهادي تعرض الأنصار لبطش شديد اذ حل النظام المايوي جميع أجهزة الأنصار واحتل دورهم ومساجدهم وأعتقل وكلاء ومناديب الإمام ووضع أملاك الأسرة تحت الحراسة. قال قائلهم: أنزلنا بهم نكبة البرامكة! الحقيقة أنهم أنزلوا بنا وبكياننا ما يستحق معه أن يسمى البطش المايوي: كتشنر الثاني.
وكان طبيعياً أن يؤدي هذا المناخ الى الاستقطاب الذي مهد في النهاية لمواجهات متعددة وصلت قمتها في انتفاضة تموز يوليو 1976م. وبعد مواجهات دامية جرت وساطة كريمة أدت الى المصالحة الوطنية في 7/7/1977. وكان من بنود المصالحة أن ترفع الحكومة يدها عن مؤسسات الأنصار وأن ينال الأنصار حرية العمل الديني والاقتصادي والاجتماعي. هكذا كتب لكيان الأنصار عمر جديد بعد النكبة.
وبعد عودتي الى السودان وزيارتي الجزيرة أبا، شهد معي صلاة عيد الفطر 1978جمهور ضخم، وكان واضحاً أنني وزملائي حققنا هذا البعث كما كنت أصلاً الرجل الثاني في الكيان منذ حياة الإمام الهادي، لذلك طالب الحاضرون أن يبايعونني إماماً. ولكنني رأيت أن الظروف الآن مؤاتية لتنفيذ وصية الإمام الصديق بشأن الإمامة، ولذلك اعتذرت. فطلبوا أن أعقد مع الأنصار عهداً يضبط الأمور إلى حين انتخاب الإمام فوافقت، وقد كان.
ورأيت أن أطور الأمر فكونت لجنة لاقتراح قيام مؤسسة لإدارة شؤون الأنصار تحت إشرافي.
وفي 1980م كونت هيئة شؤون الأنصار لتصبح شخصية اعتبارية لها أجهزة مؤسسية كاملة. واتخذنا لها وثيقة مرجعية سميناها الدليل التأسيسي.
أجهزة الهيئة بحسب نص الدليل التأسسي هي:
- مجلس الحل والعقد وهو مجلس قيادي مكون من 40 شخصاً.
- مجلس الشورى وهو مجلس مركزي مكون من 400 شخص.
-المؤتمر العام وهو مجلس قاعدي مكون من 4000 شخص.
- مكتب تنفيذي مكون من:
- أمين عام الهيئة.
- تسع أمانات تنفيذية في الجوانب المختلفة.
الدليل التأسيسي يحدد أهداف الهيئة وصلاحيات هذه الأجهزة وعلاقتها ببعضها بعضاً وكيفية انتخابها وكيفية اتخاذ القرار ديموقراطياً فيها، ويقرر:
أن قيادة الأنصار يتولاها الإمام. ويحدد الدليل ما هي المؤهلات المطلوبة في الإمام؟ وكيف يتم اختياره؟ وما هي صلاحياته؟ وما هي علاقته بأجهزة الهيئة؟ وكيف يعزل الإمام إذا لزم الأمر؟
ولكن لم نتمكن من تنفيذ ما جاء في الدليل التأسيسي في عام 1980م لمعاكسات الديكتاتورية حتى بعد المصالحة.
ولذلك كونت تنظيماً مرحلياً كالآتي:
1- مجلس حل وعقد يمثل العاصمة وحدها.
2- مكتب تنفيذي مكون من أمين عام -الشيخ خالد محمد إبراهيم - وعدد محدود من أمناء الأمانات، هم أمناء أمانات: الوكلاء، الشؤون الاجتماعية، الدعوة والإرشاد، الإعلام، والشباب.
وكان على هذا التنظيم المرحلي أن يواصل عمله وأن يقوم بعقد المؤتمر العام وتنفيذ كافة نصوصه. وأثناء الديموقراطية الثالثة استعد التنظيم المرحلي لعقد المؤتمر العام للهيئة وتنفيذ تكوين الأجهزة كما نص على ذلك الدليل التأسيسي ولكن قبل التنفيذ وقع انقلاب 30 حزيران يونيو ومع أنه لم يحل هيئة شؤون الأنصار فإنه عاكسها في جوانب مختلفة.
مجلس الحل والعقد الذي سمي خطأ مجلس الشورى الذي اختير عام 1980م انقطع نشاطه منذ الانقلاب، فضلاً عن أن عدداً كبيراً من أعضائه توفاهم الله وعدداً قعد بهم المرض. وصار عمل الهيئة مركزاً في المكتب التنفيذي المكون من الأمين العام وخمس أمانات فقط.
هذا الجهاز مع أنه ناقص ومتجاوز لعمره المنصوص عليه استمر يعمل تحت إشرافي وبتفويض مني عمر فترات ولاية مجالس الهيئة بحسب الدليل كالآتي: اللجنة التنفيذية سنتان مجلس الحل والعقد سنتان.. وهلم جرا.
وفي أوائل 1993 أصيب الشيخ خالد محمد إبراهيم بعلة مرضية فرحل الى المملكة العربية السعودية يصحبه أمين الشؤون الاجتماعية. ومكثا في المملكة بعد العلاج لمدة عام ونصف من دون إذن أو مبرر حقيقي. وأثناء غيابهما صادر النظام الحاكم في 22 مايو 1993م مجمع بيت المهدي مقر الهيئة مما أدى إلى مزيد من الفراغ في أنشطة الأنصار.
ولذلك قمت في أواخر عام 1994م بمشاورات شملت الباقين من أعضاء مجلس الحل والعقد وشملت الأمناء الأربعة الموجودين في البلاد، وآخرين، ووسعنا المشاورات وعلى ضوئها قررت الآتي:
أولاً: اختيار مجلس حل وعقد أربعيني تصعيداً من كليات محددة.
ثانياً: تكملة الأمانات.
ثالثاً: اختيار الشيخ عبدالمحمود أبو نائباً للأمين العام.
رابعا: مراجعة الدليل التأسيسي لضبطه كوثيقة من حيث تحديد الأهداف والوسائل وعلاقات الأجهزة ببعضها بعضاً.
كما رؤي أن تسمية دليل تأسيسي ليست صحيحة فكيان الأنصار مكون قبله ولذا يسمى الدليل الأساسي.
عندما عاد الشيخ خالد وزميله -أمين الشؤون الاجتماعية - نورتهما بما حدث وتوقعت أن يتحمسا له ويعتذرا عن الغياب الطويل من دون مبرر. ولكن لدهشتي عارضا ما حدث واعتبرا الهيئة شأناً خاصاً بهما مع أن أربعة من الأمناء كانوا اشتركوا في هذا الإصلاح، بالإضافة إلى كل الشخصيات القيادية في كيان الأنصار.
ولذلك أبعدهما مجلس الحل والعقد واختار الشيخ عبدالمحمود أبو أميناً عاماً. واستمر الشيخ خالد يسمي نفسه أميناً عاماً ولكن كان واضحاً أنها أصبحت تسمية على غير مسمى.
واصلت الهيئة في ظل الإصلاح الجديد عملها وأثبتت في كل المجالات جدارتها وأنها في الواقع إحياء لعمل الأنصار بعد أن قعد به العجز. والهيئة الآن على مشارف نهضة جديدة لأنها تبحث في تكوين سبع مؤسسات متخصصة تابعة لها:
- مؤسسة الدعوة والإرشاد وهذه يكون لها كادرها ومعهدها الإعدادي لتقوم بالدعوة والإرشاد بصورة منهجية.
- مؤسسة تعليمية تنظم التعليم القرآني والمهني وتنظم رياض أطفال وتؤسس مدارس ذات نهج تعليمي خاص.
- مؤسسة إعلامية تتولى الطباعة والنشر لفكر الصحوة وتؤسس مطبعة حديثة.
- مؤسسة استثمارية تابعة للهيئة.
- مؤسسة إغاثة للتصدي للنكبات التي يتعرض لها المجتمع.
- مؤسسة تعنى بالنشاط الرياضي.
- مؤسسة تعنى بالإبداع الفني.
الخميس المقبل الحلقة الأخيرة من كتاب الصادق المهدي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.