زيلينسكي يرى أن عضوية الناتو ستُنهي المرحلة الساخنة من الحرب    التعاون يتغلّب على الرائد بهدف " في ديربي القصيم    أسباب آلام البطن عند الرجال    الدموع    هدنة لبنان يهددها إطلاق النار الإسرائيلي المتقطع    ضبط (5) يمنيين في جازان لتهريبهم (100) كيلوجرام من نبات القات المخدر    تحركات دبلوماسية تركية روسية إيرانية لاحتواء الأحداث السورية    شخصيات دينية إسلامية تثمن جهود المملكة    "الجوهرة وأسيل" في المركز الأول عربيًا والتاسع عالميًا في الأولمبياد العالمي للروبوت WRO 2024    معرض المخطوطات السعودي يروي حكاية التراث ويكشف نفائس فريدة    دوري روشن: سافيتش يقود الهلال للفوز على الشباب وتضييق الخناق على صدارة الاتحاد    حلول مستدامة لتطوير قطاعي التمور والزيتون    استقلالية "تخصصي العيون".. دعم للبحث والابتكار    مهرجان للحنيذ بمحايل    دورة للإسعافات الأولية    الاتحاد «حاد»    الكويت: صدور مرسوم بسحب الجنسية من الفنان داود حسين والمطربة نوال الكويتية    تركي بن محمد بن فهد يستقبل سفير قطر    ميداليتان عالميتان لأخضر الباراتايكوندو    المركز الإعلامي في حلبة كورنيش جدة.. مجهر العالم لسباق سال جدة جي تي 2024    الأمير تركي بن محمد بن فهد يستقبل سفير قطر لدى المملكة    دوري روشن: ديربي القصيم يبتسم للتعاون بهدف دون رد امام الرائد    قطار الرياض.. 85 محطة منها 4 رئسية تعزز كفاءة التنقل داخل العاصمة    الجمارك تحبط تهريب أكثر من 480 ألف حبة كبتاجون إلى المملكة    مطارات الدمام تشارك في المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير    «سلمان للإغاثة» يدشن المشروع الطبي التطوعي لجراحة العظام في بورتسودان    جامعة الملك عبد العزيز تكمل استعداداتها لإطلاق مهرجان الأفلام السينمائية الطلابية    "الشؤون الإسلامية" تودع أولى طلائع الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين إلى بلدانهم    مجلس الشؤون الاقتصادية يتابع خطوات استقرار أسعار السلع    هل ترى هدنة غزة النور قبل 20 يناير؟    الذهب يرتفع مع تراجع الدولار    "ميسترو".. يوصي بالذكاء الاصطناعي لتحسين العلاج الإشعاعي    قرية القصار التراثية.. مَعْلَم تاريخي وحضاري في جزر فرسان    «الداخلية»: ضبط 19024 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    الكشافة السعودية تستعرض تجربتها في مكافحة التصحر بمؤتمر COP16    "التعاون الإسلامي" تشارك في اجتماع التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين في بروكسيل    "بلاغات الأدوية" تتجاوز 32 ألفًا في شهر واحد    ختام نهائيات الموسم الافتتاحي لدوري المقاتلين المحترفين في الرياض    «فيفا» يعلن حصول ملف استضافة السعودية لكأس العالم 2034 على أعلى تقييم في التاريخ    أستراليا تحظر «السوشال ميديا» على الأطفال    «الإيدز» يبعد 100 مقيم ووافد من الكويت    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    انطلاق فعاليات معرض وزارة الداخلية التوعوي لتعزيز السلامة المرورية    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    بالله نحسدك على ايش؟!    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"راسبوتين" الخرطوم و"بيوت الأشباح" . رئيس جهاز الأمن السوداني : لا صحة لمشاركة أجانب في تعذيب المعتقلين ولم نبتكر "البيوت الآمنة" لكننا سودناها
نشر في الحياة يوم 18 - 07 - 1994

لم يتردد وزراء مؤثرون في الحكومة السودانية، وفي طليعتهم وزير العدل ووزير التربية ورئيس جهاز الأمن العام السوداني، من استقبال "الوسط" التي ناقشت معهم رواية المواطن السوداني حسن. أ. عن تجربته المريرة في أحد مراكز الاعتقال الشهيرة، في بيت من "بيوت الأشباح".
ولاحظت "الوسط" خلال اسبوعين أمضتهما في الخرطوم ان "بيوت الأشباح" تثير الرعب في أوساط السودانيين، وتوفر مادة لتقارير السفارات المعتمدة في العاصمة السودانية، كما أتاحت الفرصة أمام المعارضة، اقليمياً ودولياً، لانزال الادانات المتكررة للحكومة واتهامها بخرق حقوق الانسان.
ويقبل المسؤولون السودانيون من دون تشنج على مناقشة قضية "بيوت الأشباح"، خصوصاً ان الحكومة انجزت منذ فترة قوانين ضابطة للاعتقال التحفظي بغية تنظيم عمليات الاعتقال والملاحقة القضائية ومظاهر الفوضى التي رافقت الأيام الأولى للثورة. ويلاحظ ان وزير العدل النائب العام عبدالعزيز شدو كان من أكثر المسؤولين ظرفاً ودعابة في تناوله ظاهرة "بيوت الأشباح"، في محاولة منه لازالة ما علق بهذه الظاهرة من اجواء مرعبة أساءت الى بلاده على أكثر من مستوى. في الوقت نفسه حرص رئيس جهاز الأمن العام السوداني الدكتور نافع احمد نافع في لقاء صحافي مع "الوسط"، على "تأصيل ظاهرة بيوت الأشباح"، مشيراً الى أنها ليست من ابتكار "حكومة الانقاذ" وانها تدبير "تلجأ اليه أجهزة أمنية عالمية مرموقة". وشرح وجهة نظر الحكومة وموقفها من قيادات سياسية معارضة داخل السودان، أبرزها السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب الأمة، وسيد احمد الحسين الرجل الثاني في الحزب الاتحادي الديموقراطي الذي ما زال في المعتقل. كما تحدث عن جوانب خفية في شخصية العميد محمد أحمد الريم الذي ما زال هو الآخر في السجن، وكذلك بقية السجناء والسجينات الذين وردت اسماؤهم في التحقيق. ولا بد من الاشارة الى ان تحقيق "الوسط" في الخرطوم ولقاءاتها مع المسؤولين السودانيين سبقت اعتقال السيد الصادق المهدي أخيراً ثم اطلاقه.
وكذلك حرصت "الوسط" على اثارة موضوع معسكرات "الدفاع الشعبي" مع وزير التربية السوداني البروفسور ابراهيم عمر، وهو من أكثر المتحمسين الى الفكرة، وحاول تأصيلها بقوله انها بدأت مع الانكليز عندما أسسوا الكشافة في الخرطوم.
قال حسن أ. وقد هدأ روعه واطمأن الى خلو المكان من الفضوليين: "في الليلة الأولى داخل منزل الأشباح رأيت في ما يرى النائم ان المقرئ يتلو في المسجد "الم نشرح لك صدرك"... وصحوت على آذان الفجر والمؤذن يدعو النائمين الى اقامة الصلاة. ثم سمعته يتلو "فانزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها"، فانهمرت دموعي حتى بللت قميصي. ونويت اقامة الصلاة فوقفت مستقيماً داخل المكان الضيق. وعندما حاولت الركوع اصطدم رأسي بحائط الزنزانة. فانهمرت دموعي مجدداً، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم. وأقمت الصلاة واقفاً! وعند الصباح فتحوا باب الزنزانة ليسمحوا لي بالذهاب الى دورة المياه، فتبين لي ان عرضها 75 سنتيمتراً وطولها متران تقريباً. ولما عدت اعطوني شيئاً من الخبز والماء. وبعد قليل نادوا علي ان استعد للتحقيق. ثم حضر أحدهم - وأعتقد أنه غير سوداني - واصطحبني مقيداً الى داخل الدار. ولاحظت ان زنزانتي كانت واحدة من بين حوالي 15 موزعة حول حديقة واسعة مهملة، وسطها شجرة باسقة. وكانت كل الزنزانات متشابهة الأبواب من الصفيح السميك، تعلوها نوافذ ضيقة في أعلى الباب وهي مكونة من قضبان حديد.
في غرفة التحقيق لم توجه الي تهمة محددة وواضحة، لذا انصبت الأسئلة عن علاقات مزعومة ادعوا اني أقمتها مع التجمع الوطني الديموقراطي المعارضة واني أتلقى منشورات ورسائل سرية من المعارضة في الخارج أوزعها على بعض الناس داخل الخرطوم وأم درمان".
هل كنت فعلاً على اتصال بقادة التجمع في الخارج؟
- أبداً. مشكلتي اني شغال مع زول رجل جنوبي وأنا أتكلم كثيراً ولساني لا يهدأ. هذا ذنبي الذي اقترفت. ويوم اعتقالي حضروا الى مكان عملي، ولم تكن معهم مذكرة بتوقيفي، وقالوا لي انهم سيطرحون عليّ بعض الأسئلة وفي امكاني العودة الى مقر عملي لذا لا لزوم لاشعار أهلي بهذا الأمر. ولما ركبنا السيارة وضع أحدهم عصابة سوداء حول عيني. وربط معصمي بسلك معدني. وبعد قرابة ربع ساعة - والسيارة التي تقلنا تسير بسرعة جنونية جعلتنا نترنح يميناً وشمالاً - توقفنا فانزلوني وأنا معصوب العينين. وادخلوني مكاناً ضيقاً جيداً. وبعد ساعات طويلة عاد أحدهم ورفع العصابة عن عيني وحل معصمي وتركني حتى صباح اليوم التالي. وتابع حسن روايته ل "الوسط": "بعد صلاة الفجر عرفت من نبرة صوت المقرئ أني في مكان ليس خارج الخرطوم. ومع ساعات الصباح ترامت الى سمعي أصوات الباعة وجلبة الشارع فايقنت أني لست بعيداً عن شارع المك نمر. وبدأت أمضي ساعات الاعتقال الأولى محللاً الأصوات المنبعثة من الشارع القريب. وقلت في سري بيت الأشباح هذا ليس ببعيد عن عمارة سيتي بنك. وبالفعل صدق ظني كان المنزل المخيف بين عمارة سيتي بنك ومبنى الهيئة العربية للزراعة في العاصمة الخرطوم".
كم استمرت، يا حسن، فترة اعتقالك وهل تعرضت للتعذيب أثناء التحقيق معك؟
- أمضيت 45 يوماً في بيت الأشباح. طوال اليوم كانت تصلني أصوات الصراخ والعويل الممزوجين بالاستجداء والاسترحام من البيت الواسع وأنا داخل زنزانتي الانفرادية. وكل صباح كنت أتعرض لنمط مختلف من التعذيب. في المرة الأولى أحضروا سطل ماء كبيراً وطلبوا إليّ أن أمد ساعدي اليمنى عبر فتحة الزنزانة في أعلى الباب. ولما فعلت علقوا جردل الماء عند معصمي وتركوني قرابة ساعتين عادوا بعدها واستدعوني الى جلسة التحقيق الأولى. ولما أنكرت أي علاقة لي بالتجمع المعارضة لم يصدقوا فعادوا بي الى ساحة الدار وأوثقوا معصمي بعدما شدوهما خلف ظهري. ثم ربطوا قدمي بحبل غليظ وثنوا ركبتي وشدوهما الى خصري. وطلبوا مني ان أمدد جسدي على أرض الحديقة وابدأ بالزحف قرابة عشرين متراً وهم يقهقهون ساخرين قائلين لي: أنت الليلة تمشي زي ما قامت الطيارة يا حسن! الطيارة قامت ولا شنو؟
من الطيارة الى الأرنب!
... وبكى حسن وهو يروي ل "الوسط" بقية جلسة التعذيب الأولى وكيف بدلوا أسلوب التعذيب من "الطيارة قامت" الى "قفز الأرانب". قال حسن: "كان علي ان أقفز كما يقفز الأرنب حول الحديقة على مرأى ومسمع من كل المحققين ولم يكن هذا الاستهزاء بكرامتنا نهاية المطاف. فالتعذيب الجسدي يهون ويسهل عن التعذيب النفسي. انهم يدمرون السجين نفسياً، داخلياً حتى يشعر بأنه على حافة الجنون. كل صباح يقولون له سنطلق سراحك استعد، فيستعد. ثم يقتادونه مجدداً الى الانفراد ويعلقون سطل الماء في يده اليمنى وعليه ألا يحرك معصمه، فاذا فعل وسقطت قطرة ماء واحدة تعرض لنمط آخر من أنماط التعذيب.
وأكثر ما كان يعذبني ان أهلي لا يعرفون شيئاً عن مصيري، ولا يستطيعون تكليف محام يتولى الدفاع عني واطلاقي. وكيف يعرفون مصيري وقد اقتادوني الى بيت الأشباح من دون مذكرة توقيف وفي غياب أي تهمة موجهة الي. وكل ذنبي أنني أعمل مع زول جنوبي لم يغادر وطنه، ما حوله الى مبعث شك وظنون لدى قوات جهاز الأمن. مشكلتي أنني طويل اللسان واثرثر مع من هم حولي في ما أسمعه من الاذاعات الأجنبية عن السودان. نحن مسيسون حتى العظم في السودان. ننام على أحاديث السياسة ونصحو عليها ونفطر عليها مع كوب الشاي. شعبنا أعظم مستهلك للجرايد العربية. حتى القديمة نقبل عليها اقبالنا على كوب الكاركاديه المثلج".
وختم حسن قائلاً: "ان أقسى ما عذبني في بيت الأشباح ان جلادي لم يكن الزول السوداني الذي عرفته! نحن أمة لا تعرف الا الرحمة والمودة. هذه القسوة وهذا الصلف اللذان وجدتهما لدى من كان يعذبني ويذلني كل صباح لم أعهدها طوال عمري لدى الشعب السوداني"!
بيت الأشباح
... ختم حسن روايته وخرجت الى الشارع وقد عقدت العزم على أن اذهب الى المكان الذي وصفه الرجل على مقربة من شارع الملك نمر. ووفق الخريطة التي رسمها لي وصلت الى أمام منزل مسور: المواصفات نفسها التي حدثني حسن عنها. ولم يكن وقوفي أمام بيت الأشباح، بين عمارة سيتي بنك ومبنى الهيئة العربية للزراعة، أول مفاجآت ذلك الصباح. اذ كان المنزل على مقربة من مبنى السفارة البريطانية في الخرطوم... وتذكرت سريعاً الأزمة الديبلوماسية بين الخرطوم ولندن، بعدما شكت الحكومة السودانية من السفير البريطاني بيتر ستريمز "الذي يدس أنفه في شؤون لا تعنيه"، ما أدى الى طرده من الخرطوم نهاية العام الماضي. وتساءلت: اذا كان بيت الأشباح على مقربة من مكتب السفير بيتر ستريمز منذ ان قامت "ثورة الانقاذ" آخر حزيران يونيو 1989، فلماذا صمت سعادته طوال خمس سنوات؟
حملت رواية حسن أ. وتساؤلاتي الى مكتب وزير العدل السوداني النائب العام عبدالعزيز شدو الذي استمع طويلاً من دون مقاطعتي مكتفياً بالابتسام وأنا أقص عليه ما روى لي حسن من صنوف التعذيب في بيت الأشباح، من "الطائرة قامت" الى "قفز الأرانب" الى "حمل سطل الماء ساعات طويلة" وأساليب التدمير النفسي التي يتعرض لها السجناء بإيهامهم أن عفواً نهائياً صدر عنهم... فاذا انقضت الساعات وأصيبوا بالاحباط اخضعوا لنمط آخر من التعذيب حتى يعترفوا!
أقاويل واساءة فهم
وعلق وزير العدل: "كثرت الأقاويل وشاعت عن بيوت الأشباح في السودان..." فقاطعته: "ذهبت بنفسي وتحققت من رواية حسن ولو لم أعده بكتم هويته لكشفت اسمه. انه خائف ان يقتادوه مجدداً الى بيت آخر للأشباح اذا روى للناس ما تعرض له في تجربته الأولى. فتابع وزير العدل ممتدحاً "الوسط" على موضوعيتها: "لقد تعرضت لقضية بيوت الأشباح داخل الأمم المتحدة بعدما تضمن تقرير كاسبار بيرو، مقرر حقوق الانسان في السودان بتكليف من الأمم المتحدة، فصلاً كاملاً عن الاعتقال داخل هذه الأمكنة. وقد اسيء فهم ما قلته حينذاك، ولذا أود أن أصحح ما اسيء فهمه. هل تنشرون في "الوسط" ما سأقوله بدقة؟" أجبت: "أعدك بذلك".
قال: "ذكرت أمام الأمم المتحدة ان جهاز الأمن السوداني بعد ثورة الانقاذ كان يعمل في مبانٍ موقتة داخل القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية. ولم يكن لديه سوى روف سطيحة أو علية يستطيع استخدامها لاحتجاز المعتقلين. ولم تكن الظروف طبيعية، فالثورة أخذت الجميع على حين غرة. لذلك لجأت سلطات الأمن الى تدبير موقت لحل المشكلة عبر استخدام بيوت عادية وسط الأحياء السكنية لحفظ المتحفظ عليهم والمعتقلين. وأود التذكير بأن هذا الاجراء كان معمولاً به أيام مايو فترة حكم الرئيس السابق جعفر نميري. لذا جهزت أجهزة الأمن بعض البيوت التي تملكها الحكومة وسط الأحياء السكنية لايداع الموقوفين، من أجل راحتهم بدل ايداعهم في الروف، في أعلى بناء جهاز الأمن الموقت، داخل القيادة العامة. وتوقف هذا الاجراء بعد صدور قانون الاعتقال التحفظي عام 1991.
لم يكن يسمح لذوي المعتقلين بالاتصال بابنائهم. ولم يكن أهل المعتقل يعرفون مكان اعتقاله، لذلك سميت هذه الأمكنة بيوت الأشباح، لأنها غير معروفة لذوي المعتقلين. وحتى سكان الحي نفسه لم يكونوا على بينة من أن أحد المنازل في حيهم هو بالفعل مركز اعتقال".
وسألت "الوسط" وزير العدل النائب العام: هل أن ضروب التعذيب والاذلال النفسي التي يتعرض لها المعتقل في بيت الأشباح، مثل الطائرة قامت وقفز الأرنب... هي أيضاً لراحته؟ فأجاب ممازحاً: "قفز الأرنب؟ كيف يقفز الأرنب وهو موثوق الرجلين؟" قلت: لا أعرف، اسأل جهاز الأمن. حسن قال ان من عذبه لم يكن سودانياً، اذ يستحيل على السوداني - في رأيه - ان يمارس القسوة والاذلال بحق أخ له في المواطنة.
تصرفات فردية
فعلق وزير العدل: "أنا لا استطيع أن الاحق الناس لاحضهم على تقديم شكوى ضد أي جهة تمارس الاساءة اليهم. لو جاءني مواطن وقال انه عذب وأذل لفتحت له بلاغاً. ثمة تصرفات فردية قام بها بعض كوادر الأمن في الفترة الأولى عادت علينا وعلى السودان بالضرر الفادح. ونحن في الحكومة نعالجها للقضاء عليها".
وأضاف الوزير شدو ل "الوسط": "الاعتقالات التحفظية خروج على المبدأ العام، والمتهم بريء حتى تثبت ادانته. الاعتقال التحفظي اجراء موقت تقتضيه المرحلة السياسية في بداية كل ثورة أو حركة تغيير. والوضع السياسي المستقر يكيف فترة الاعتقال التحفظي تبعاً لثبات الاستقرار في البلاد. وكلما استقرت الأوضاع السياسية وهدأت قل عدد المتحفظ عليهم وخلت المعتقلات. نحن في الحكومة نتيح المجال لأية معارضة تستهدف المصلحة العامة. على من يعارض الحكومة أن يبدي رأيه بوضوح مستنداً الى بينات، حتى وان خالف الموقف الحكومي. اما إذا صعدت المعارضة عملها وتآمرت مع جهات خارجية لاسقاط الحكومة، فإن السلطة السياسية مضطرة الى حماية الأمن والاستقرار في البلاد. وتصرفات المعارضة، في هذه الظروف التي تستهدف سلامة الوطن ووحدته الترابية وأمن البلاد واستقرارها، تجعل حرية الفرد، أياً كان وزنه السياسي، خاضعة لمصلحة الجماعة. وعندما يكون هناك تهديد للنظام، فإن ممارسة الفرد السياسي المعارض تشكل مصدر تهديد للنظام، لذا يحق للسلطة ان تتحرك لحماية المواطنين وأمن الدولة واستقرارها".
"راسبوتين" والبيوت "الآمنة"
عندما التقت "الوسط" الدكتور نافع أحمد نافع، رئيس جهاز الأمن السوداني الذي كان محاضراً في كلية الزراعة - جامعة الخرطوم قبل "ثورة الانقاذ"، قال "انه أول لقاء صحافي على الاطلاق"، هذه الجلسة مجرد "ونسة" جلسة اجتماعية ولنا أن نسأل ما يحلو لنا". سألت "راسبوتين" السودان، كما قدمه اليّ الدكتور غازي صلاح الدين الوزير في رئاسة الجمهورية، عن أساليب التعذيب والاذلال النفسي التي يتعرض لها "زوار بيوت الأشباح"، وكذلك سر هذه "المنازل" التي شغلت حيزاً مهماً من تقارير السفارات الغربية الواردة من الخرطوم واستأثرت بجزء مهم من تقرير كاسبار بيرو، فأجاب: "ما قاله لك وزير العدل تبسيط ساذج للأمور. لم نلجأ الى هذا الاجراء لأن روف مقر القيادة العامة لم يكن يتسع للأعداد الكبرى من المعتقلين. المنازل الآمنة اجراء اتبعته كل المخابرات الغربية وأجهزة أمنها. فالسي. آي. إي. وام. آي. فايف. عندهما بيوت آمنة تعقد فيها لقاءات سرية، وتعتقل في داخلها شخصيات معينة. نحن لم نبتكر هذا الاجراء لكننا سودناه طبقناه في السودان. هذه البيوت الآمنة لا يعرف عنها أي شيء سكان الحي المحيطون بها. ولا يعلم بها ذوو المعتقل، لأنه لا يسمح بالزيارة أثناء الاعتقال التحفظي. لذلك أطلقت عليها تسمية بيوت الأشباح. ليس صحيحاً ما قيل لك ان أشخاصاً غير سودانيين يتولون تعذيب المعتقلين. هل نحن في حاجة الى كوادر أمنية"؟ قلت: لا أعرف، أنا أروي لك ما سمعته، طالبة منك أجوبة أتعهد ان أنشرها كما هي". فقال نافع: "لا علم لي بأنماط التعذيب التي تتحدثين عنها، الطائرة قامت وقفز الأرانب. سجن الانفراد أو السجن الجماعي تقرره ظروف المعتقل والتهم الموجهة".
قلت: "في حالة حسن أ. لم تكن هناك تهمة واضحة ومحددة كما روي لي"، فأجاب رئيس جهاز الأمن السوداني: "من يضمن لك ان الرجل لا يكذب؟ قد يكون من المتواطئين مع المعارضة؟ لماذا لا يتجرأ ويشتكي لدى السلطات المعنية؟ وأنا أضمن له التحقيق الأمني لكشف ما تعرض له إذا كان ذلك صحيحاً...
المهدي زعيم جماهيري
وسألت نافع عن ظروف اعتقال سيد احمد الحسين أكثر من مرة، وهل زيارة سفير غربي لسياسي سوداني تشكل تهمة يعتقل بسببها فأجاب: "سيد احمد الحسين تجرأ وتطاول وتحدث في قضايا تشكل تهديداً لأمن الحكومة وسلامة التعايش الأهلي في السودان. تحدث من منبر عام، ثم عاد ليمارس الشيء نفسه في دوائر أخرى. السلطة محقة في اعتقالها الحسين لفترة، والتحفظ عليه حتى تستكمل أوراق القضية".
ان النشاطات التي قام بها احمد الحسين من القاء خطب واستقبال سفراء أجانب لا توازي عشر الأنشطة التي يقوم بها زعيم حزب الأمة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي وذهبت "الوسط" الى دار آل المهدي والتقت زعيم حزب الأمة أكثر من مرة، فلماذا التسامح في حالات والتشدد في حالات أخرى؟
- الصادق المهدي زعيم جماهيري والحكومة تفكر أكثر من مرة قبل استدعائه للتحقيق معه. ولا جماهير سودانية تقف خلف سيد احمد الحسين. الحكومة لا تود إثارة الشارع الشعبي، انها تعمل على استقرار البلاد والحفاظ على الأمن العام.
وقلت للدكتور نافع اذا كان الحسين قيادة سياسية من دون جماهير، كما تقول، فما مصدر الخطر الذي تراه أجهزة الأمن اذا استقبل الرجل سفيراً زائراً أو القى خطبة في مناسبة عامة؟ هل هو خوف السلطة؟ وطرحت اسئلة أخرى عن العميد محمد احمد الريح من سلاح المظلات والمشاة الذي اعتقل في 20 أيلول سبتمبر 1991 بعد اتهامه بالاشتراك في محاولة انقلابية لاطاحة حكومة الفريق البشير، وتناقلت وسائل اعلام عدة انه تعرض للتعذيب، وبعضها ذكر انه تعرض للاغتصاب! وهو لا يزال الى الآن قيد الاعتقال. وأجاب رئيس جهاز الأمن: "العميد الريح متهم بالمشاركة في محاولة انقلابية. والقضية لم تنته بعد، وهي لدى السلطة القضائية. وما يدعيه الريح مجرد أكاذيب. وأنا أكشف لك سراً مهماً أقوله للمرة الأولى وهو ان العميد الريح شاذ جنسياً، وكل زملائه الضباط يعلمون ذلك. هو نفسه استجدى وتوسل سجانه حتى يمارس الجنس معه"!
لم أعلق بكلمة، وشهد اللقاء الوزير صلاح الدين. وختم نافع "ونسته" مع "الوسط" بالقول: "يتهمونني بأنني تدربت في ايران. أنا لم أزر ايران قط. وأصدقائي في السفارات الغربية المعتمدة في الخرطوم كثر، أبرزهم لورنس بنديكت، القائم بالأعمال في السفارة الأميركية. مع هذا نحن نختلف على ما يشاع عن اتهامنا بالارهاب. تعريف لورنس للارهاب يختلف عن تعريفنا للمفردة نفسها. الارهاب بالنسبة الى الديبلوماسي الأميركي هو ممارسة العنف والتطرف. وأنا أرى العنف والتطرف مرادفين لمنع الشعوب من ممارسة حقها في النضال لتحرير ترابها الوطني. التنظيمات التي يقولون عنها ارهابية، حسب فهمهم لكلمة ارهاب، أقول عنها انها حركات تحرر تستحق المساندة والمناصرة".
خديجة وسارة
سمعت الكثير عن ممارسات جهاز الأمن. ومن بين ما سمعت ان خديجة حسين دفع الله، المسؤولة عن الاعلام في حزب الأمة المحظور وهي استاذة جامعية، ما زالت في السجن منذ 7 تشرين الثاني نوفمبر الماضي. وأغرب ما سمعت ان وزير التربية والتعليم السوداني البروفسور ابراهيم عمر استجوبها في مقر جهاز الأمن لساعات طويلة. وقصدت مكتب وزير التربية ونقلت اليه ما سمعته من اتهامات موجهة اليه، على رغم مكانته العلمية وسمعته الطيبة، وكيف كان يخرج بين الفينة والأخرى من غرفة التحقيق كي يستفسر عن الأسئلة التي يرغب جهاز الأمن في أن يستوضح عنها من المعتقلة... فأصيب البروفسور عمر بالذهول وهو يستمع الى الرواية واستنكر قائلاً: "من قال ذلك؟ هذا الكلام غير معقول".
قلت: لا يمكن ان اكشف هوية من روى لي هذه الوقائع. وأنا لن أكتب ما سمعت قبل أن أسألك واستمع الى تعليقك. فأجاب "أبداً لم يحدث ذلك. هذا كذب مكشوف".
لم أقل لوزير التربية السوداني اني سمعت رواية استجوابه زميلته خديجة حسين دفع الله في منزل سوداني عريق في الخرطوم لا يعرف أهله الكذب.
أما سارة عبدالله نقدالله، أمينة المرأة في حزب الأمة، فاعتقلت في 5 نيسان ابريل الحالي وهي لا تزال في سجن أم درمان، ومنع أهلها من زيارتها. وكانت استدعيت الى مبنى جهاز الأمن "لتحقيق عادي" وما ان وصلت الى المبنى نقلت الى السجن ولم توجه اليها أي تهمة حتى الآن. ولم تصل اليها حقيبة شخصية تحوي ملابس داخلية وأشياء أخرى تحتاج اليها أي سيدة.
ورغبت "الوسط" في زيارة الدكتور علي عثمان محمد طه وزير التخطيط الاجتماعي، والخليفة المرشح للدكتور حسن الترابي، بقصد الاستفسار منه عن هذه الممارسات، خصوصاً انه من أبرز المنظرين ل "تجربة السودان الحضارية"... إلا أنه اعتذر عن عدم اللقاء لأنه "لا يحب الصحافيين"، وقبلت الاعتذار مع اني لم أقتنع بما قيل لي عن "مرض الدكتور". توقع الأسئلة التي سأطرحها عليه. وتذكرت ما قاله هو نفسه في لقاء خص به حديثاً صحيفة "الانقاذ الوطني" جاء فيه: "ان مجرد وجود نماذج تشير الى بعض مظاهر الفساد أو الانحراف لا يقلقني. بل هي شواهد على صحة التوجه، ما دامت هذه النماذج في اطار النسبة التي لا تخل بالتوجه العام". وكان يرد على اسئلة وجهت اليه عن استشراء ظاهرة الفساد في شتى أجهزة الدولة، وأبرزها الأجهزة الأمنية.
المعسكرات الشعبية
الحديث عن الحريات العامة في السودان لا ينتهي، فهناك أيضاً تجربة "المعسكرات الشعبية" حيث يتلقى المواطنون أنماطاً مختلفة من التدريب على استخدام الأسلحة، الى جانب دروس "تنوير وتثقيف"، ودروس دينية "لتنمو شخصية المواطن ويستعد للدفاع عن وطنه"، كما قال ل "الوسط" أبو بكر الشنقيطي، مدير الاعلام الخارجي في الخرطوم. والحقيقة ان الجيل السوداني الجديد الذي التقيت نماذج عدة منه يختلف كلياً عن الجيل السابق، فهو تلقى دورات تدريبية في معسكرات "الدفاع الشعبي"، جعلته أكثر قدرة على الصبر وتحمل المشاق، يقبل على عمله في صورة أكثر طواعية ونشاطاً. الشباب، بمعظمهم، ذوو ذقون مشذبة بطريقة معينة متناسقة، حتى تبدو كعلامة فارقة. أما الفتيات فتركن "الثوب" السوداني التقليدي وبدلنه بلباس مكون من غطاء للرأس على الطريقة الماليزية. اما الرداء فعبارة عن قميص طويل فوق سروال ضيق. ولاحظت ان عدداً كبيراً من النساء لبسن، على رغم الحر الخانق، قفازات سوداء تغطي اليدين.
لم التق فتاة سودانية حدثتني باسهاب عن تجربة تدريبها العسكري في واحد من معسكرات الدفاع الشعبي، وان كنت سمعت الكثير عن هذه الظاهرة في الخرطوم وخارجها. "فالمجندة" ترافق المجاهدين الذاهبين للدفاع عن الوطن في الجنوب. وتتولى العناية بالجرحى وخدمة المرضى وتحض المجاهدين على مواجهة "الكفار". واكتفت الفتاة س. بالقول لي ان دورة التدريب التي خضعت لها كانت لساعتين أو لثلاث يومياً في أحد الأمكنة قرب الخرطوم، بعد انتهاء ساعات دوام العمل الرسمي. ولم تزد الفتاة أي تفاصيل "عسكرية" الطابع على روايتها عن تجربتها. وأيقنت انها قد تكون واحدة من المكلفات مرافقتي. وأبلغني أحمد ان دورة التدريب التي تلقاها استمرت 45 يوماً، وتوزعت ساعات النهار ما بين دروس دينية ودروس تنوير عن الجهاد، الأكبر والأصغر، وفترات تدريب يومية على استخدام الأسلحة. وقال: "المدربون ضباط من القوات المسلحة، ولا غرباء بيننا كما يزعم بعض الجهات".
المهدي والدفاع الشعبي
ويلاحظ من مثل هذه الأحاديث ان مخططي تجربة "الدفاع الشعبي" هدفوا الى عسكرة المجتمع السوداني باسره، ونجحوا في ذلك حتى وصلوا مرحلة اثارة الذعر في أوساط البعثات الديبلوماسية الغربية والعربية. وهي بدورها تبعث بتقاريرها الى عواصمها عن هذه الظاهرة المقلقة، ما أضفى على السودان سمعة غير طيبة دفع ثمنها ادانات دولية متتالية بأنه "بلد يرعى الارهاب". ان "عسكرة المجتمع" بهدف التخويف لا تزعج رئيس جهاز الأمن السوداني الذي قال ل "الوسط": "جميل ان يخشاك الآخرون". وتحولت معسكرات الدفاع الشعبي الى مادة خصبة لروايات عن مدربين ايرانيين وأفراد من "حزب الله" اللبناني يتولون تدريب الجيل السوداني الجديد على حمل السلاح ومجاهدة النفس. ولم استطع، في ظل ظروف أمنية يعرفها أي صحافي، من متابعة موضوع المعسكرات متابعة ميدانية.
وتحدث الصادق المهدي الى "الوسط" عن تجربة "الدفاع الشعبي"، قال: "بدأت التجربة في عهدي خلال الديموقراطية الثالثة بعد سقوط نميري، اذ سلحنا قبائل الغرب كي تشارك السلطة في سعيها الى وضع حد لظاهرة النهب المسلح في دارفور وكردفان. واتهمنا الغرب يومها بأننا نسلح القبائل العربية ضد القبائل غير العربية، علماً أننا قصدنا غير ذلك. لكن هذه الحكومة التي أضفت طابع الجهاد الاسلامي على هذه التجربة، من خلال ربطها بالحرب الدائرة جنوب الوطن، حولت الأمر كله الى ظاهرة سلبية قسمت المجتمع السوداني وعمقت الفتنة. كيف نقول عن كتائب الدفاع الشعبي المتوجهة الى الجنوب انها ذاهبة لقتال "الكفار"؟ وكيف يسمح الاعلام الرسمي ببرامج تلفزيونية مثل "ساحات الفدا" تتيح لعدد من هؤلاء المجاهدين ان يتحدث عن تجربته في الجنوب وقد أسر "الكفار" وسبى نساءهم وباشر اولئك النسوة؟ ويقولون في اعلامهم الرسمي ان القردة من على الأشجار في الجنوب هبطت لتساعد المجاهدين فنظفت الحقول من الألغام! ويقولون ان الأشجار في الجنوب تنحني وتكبر وتهلل لرؤية كتائب المجاهدين، وان الشهداء يدفنون وهم يبتسمون! فاذا كان الشهيد يبتسم فلمَ يدفن اذن؟ ان ما يحدث شأن خطير جداً".
في مكتب وزير التربية البروفسور عمر المعروف بثقافته الاسلامية الموسوعية، سألته "الوسط" عن تعريف السلطة لكلمة "كافر"، وكيف ينظر الى تعامل الاعلام الرسمي مع تجربة الدفاع الشعبي فيعرض التلفزيون الوطني شهادات المجاهدين الذين أسروا "الرجال الكفار" وسبوا نساءهم وباشروا النسوة بغية اذلالهن، فأجاب: "الكافر هو من احتجب الايمان عن قلبه وعقله، وليس المقصود بالكافر غير المسلم أو النصراني. والحديث عن الأشجار وتكبيرها والقردة ومعجزاتها، والشهداء الذين يغذون الوطن بأرواحهم قد يكون بمثابة مغالاة بقصد تحفيز المجاهد على أداء واجبه الوطني. الالياذة والمعلقات، بما ورد فيها من محاولات لمقاربة الأساطير، بمثابة عمل إبداعي يرقى الى مرتبة الملاحم الوطنية لبعث روح الأمة. أما ما قيل لك عن سب النساء ومباشرتهن فهذا ليس صحيحاً. ربما كان القائل شخصاً غير سوداني لا يعرف اللهجة السودانية المحلية...".
وفي مساء اليوم نفسه، وكان يوم جمعة انتظرته طويلاً لمشاهدة برنامج "ساحات الفدا"، عرض التلفزيون حلقة قديمة "أعيد بثها لأسباب فنية" كما قال مقدم البرنامج. ولا أعرف هل كانت محض مصادفة ام انها أمر دُبّر بعدما نقلت ما نقلت الى مكتب وزير التربية.
الأطفال الشماسة
شوارع الخرطوم وأم درمان خالية من "الشماسة". أطفال صغار من دون أهل غالبيتهم جنوبيون يمتهنون التسول للحصول على ما يسدّ جوعهم ويفترشون الطرق ليلاً. سألت عدداً من الأصدقاء في الخرطوم، قالوا ان الحكومة جمعت هؤلاء الأطفال، وعددهم يربو على ثلاثين ألفاً، وأرسلتهم الى معسكرات تأهيل فيها مدارس متخصصة لتعليم الأطفال مهنة تمكنهم من كسب قوتهم. الأطفال "الشماسة" تحولوا مادة لتبادل التهم بين "الحركة الشعبية لتحرير السودان" والحكومة السودانية. "الحركة الشعبية"، خصوصاً التيار الرئيسي، يتهم الحكومة بأنها تخضع الشماسة لعمليات ختان جماعية، وتلقنهم مبادئ الشريعة الاسلامية تمهيداً لأسلمتهم رغماً عنهم. والحكومة تدافع عن نفسها وترد بالقول انها ارسلت "الشماسة" الى معسكرات تدريب لتأهيلهم للحياة العامة، وتحويلهم من متسولين الى مواطنين منتجين. روايتان متناقضتان... ولكن لماذا عمليات الختان الجماعي؟ وأجاب "الوسط" البروفسور مدثر عبدالرحيم، رئيس لجنة حقوق الانسان في المجلس الوطني السوداني: "لا علم لي بقضية الختان الجماعية. وان تكن قد حدثت قسراً، فهذا أمر نرفضه رفضاً باتاً. حرية المذهب والمعتقد يكفلها الدستور السوداني. كل ما أعرفه عن صغار الشماسة انهم أرسلوا الى معسكرات تأهيل تمكنهم من ان يتحولوا الى مواطنين صالحين، لا أن يظلوا جحافل من المتسولين الصغار، يشوهون وجه العاصمة بهذه الظاهرة السلبية".
وأكد وزير العدل عبدالعزيز شدو ل "الوسط" ما قاله البروفسور عبدالرحيم عن هذه الظاهرة: "عندما جاء كاسبار بيرو الى الخرطوم، كان عندنا سمينار ندوة دراسية عن الطفل، ومع هذا رفض حضورها علماً أنه أفرد 20 فقرة في تقريره، من صفحة 86 الى 104، للحديث عن حقوق الطفل في السودان. ولم يقل بيرو في تقريره الشهير الذي قدمه الى الأمم المتحدة ان هذه الحكومة نظفت الشوارع من الشماسة. بعدما كانوا يهيمون في الشوارع بأسمالهم وهم أنصاف عراة. ادخلنا هؤلاء الصغار الى معسكرات، دربناهم بدلاً من الضياع والتشرد. وقصة الختان تحتمل الحديث الموسع. منذ أن جاء الانكليز حظروا خفاض للفتيات وهددوا من يختن ابنته بعقوبة السجن. ربما كان كاسبار بيرو قد اعترض في تقريره على ختان الذكور. مع هذا أقول لك انه لم يكن أميناً على الاطلاق. لم يقم بالتحقق مما سمعه من تهم وشكاوى. مكث في السودان 18 يوماً، ولم يكن زار البلاد من قبل. هل يستطيع أي مراقب نزيه ان يعد تقريراً عن بلد بحجم السودان في 18 يوماً؟ لو كان كاسبار بيرو صبر بعض الشيء حتى حلول عيد الميلاد لكان تيقن من مشاركتنا اخوتنا الجنوبيين هذه الأعياد. ذهبت أنا الى جوبا ودخلت الكنيسة. وذهب رئيس المجلس الوطني الانتقالي الى ولاية أعالي النيل وشارك أهلها أفراحهم في أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية. ليس هناك حظر على بناء كنائس جديدة في الخرطوم. نحن نساعد على بناء الكنائس لأنها من بيوت الله. الآن، في جوبا وواو يعمدون أطفالهم في مياه الانهار علانية. نحن نفضل أن يكون الكهنة والقساوسة من اخوتنا السودانيين وليسوا من الغربيين. نحن في صدد الغاء قانون المبشرين الذي وضعه عبود عام 1964، وهو القانون الذي يضع ضوابط لتنقل رجال الدين النصارى ويقنن بناء الكنائس، لأن هذه الضوابط تشكل عوائق في وجه اخوتنا النصارى. ونحن عاكفون على وضع قوانين بديلة. ان التقرير الذي أعده بيرو أوقع الأمم المتحدة في اخطر مواجهة تتعرض لها منذ تأسيسها. لم تكن الأمم المتحدة سعيدة بصدور هذا القرار الارتجالي المبني على أكاذيب. طلبنا من بيرو حضور جلسات محاكمة المتهمين في قضية المتفجرات فاعتذر وآثر الذهاب الى هنغاريا لحضور عيد الميلاد مع أهله. وعلى رغم ذلك كتب ما كتب في تقريره السام عن هدر حقوق الانسان في السودان. هل تقبل الدول الاسلامية من جاهل ان يناقشها في أمور دينها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.