تبدأ السلطة الفلسطينية ممارسة مهامها فعلاً في غزة واريحا مع وصول الرئيس ياسر عرفات. وقد تعمّد تأخير ذلك رداً على ما سبق لرئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين ان اكّده مراراً من ان المواعيد غير مقدسة وان المهم هو التحضير الجيّد لإنجاح تنفيذ الاتفاق. ولكن عندما حسم ابو عمار امره أبلغه وزير الخارجية الاسرائيلي، في اوسلو، ان تل ابيب تفضل تأخير العودة الى ما بعد الخامس من حزيران يونيو اذ لا تريد ان تصادف في آن معاً، ذكرى حرب 1967 وذكرى غزو لبنان في 1982. وقد وافق عرفات على ذلك مضطراً ومختاراً. مضطراً لأن لا مجال لعودة لا تحظى بموافقة اسرائيل، ومختاراً لأنه يدرك ان وسائل الاعلام العالمية ستكون مشغولة، في هذا اليوم، بتغطية اخبار الاحتفالات بمرور خمسين عاماً على إنزال الحلفاء في النورماندي. وكما جرى البحث في موعد آخر تحكمت بالخيارات روزنامة معينة موزعة بين القمة الافريقية في منتصف الاسبوع الثاني من حزيران وبداية "المونديال" في الاسبوع الثالث من الشهر نفسه. وعلى هذا الاساس حصل توافق مبدئي على ان تكون عودة عرفات الى فلسطين في الخامس عشر من الشهر الجاري إلا اذا طرأ طارئ. قد تكون هذه التفاصيل غير مهمة في حد ذاتها غير انها تعطي فكرة عن الأخذ والردّ الدائمين بين الاسرائيليين والفلسطينيين وعن الاعتبارات التي تتحكم بموقف اي من الطرفين وعن الحدود التي تضعها كل جهة لحرية سلوك الجهة الثانية. ولكن، مما لا شك فيه، انه عندما تطأ قدما ياسر عرفات ارض اريحا وغزة فإن مرحلة جديدة تماماً في تاريخ الشعب الفلسطيني ستبدأ تقلب صفحة من صفحات الصراع العربي - الاسرائيلي. سيتمتع قسم من الشعب الفلسطيني بقسم من الصلاحيات فوق قسم من ارضه التاريخية. وهذا، في حدّ ذاته، قليل جداً وكثير جداً. لن تكون السلطة الوطنية مطلقة اليدين. ستواجه عراقيل وصعوبات كثيرة بعضها تفتعله اسرائيل، وبعضها ينتج عن الوضع الفلسطيني نفسه وبعضها الاخير من الوضعين الدولي والاقليمي. وعلى هذا الاساس فان السؤال الذي يشغل بال الكثيرين يتجاوز نصوص اعلان المبادئ والاتفاقات التفسيرية له ليطال مشاكل "اليوم التالي" لتولي القيادة الفلسطينية تدبير شؤون شطر من شعبها فوق رقعة من ارضه. ستحاول اسرائيل، طبعاً، وضع سقف لممارسة السلطة الوطنية الفلسطينية وصلاحياتها، فهي ترفض ان يجري التأسيس على هذه الخطوة الاولية لاطلاق دينامية تؤدي الى انسحاب فاستقلال ناجز فدولة. وسوف تحاول ممارسة اقصى درجة ممكنة من المراقبة والضبط بحيث لا يفلت المسار ويصبح آلي الدفع فيمتد الى باقي الضفة الغربيةالمحتلة ويفرض نتائج المفاوضات حول الوضع النهائي حتى قبل ان تبدأ هذه في بداية السنة الثالثة لامتحان الحكم الذاتي. عراقيل اسرائيل ويمكن، تأسيساً على المعطيات المطروحة، استعراض العراقيل التي ستلجأ اليها تل ابيب والذرائع التي ستحتمي وراءها. اولاً: سيحصل صراع حول تفسير الاتفاق وملاحقه، هذا طبيعي ومعروف في كل الاتفاقات من هذا النوع وبخاصة اذا "تميزت" بما يتميز به "اعلان المبادئ" من غموض. غير ان الحكومة الاسرائيلية تملك ورقة قوية منحها إياها المفاوض الفلسطيني عندما اعطاها حق النقض في مجالات واسعة وهي لن تتردد في استخدامها تكراراً. لقد اثيرت ضجة كبيرة رداً على خطاب ياسر عرفات في جوهانسبورغ غير ان الرد عليها هو كناية عن تفسير يقدمه الجانب الفلسطيني لما يعنيه ب "الجهاد" و"نقض الصلح" مع قريش. لا تستطيع اسرائيل ان تطالب بأكثر. هذا ما لاحظه الباحث المختص في شؤون الارض المحتلة ميرون بنفنستي الذي اضاف ان الضجة لا معنى لها في حين انه من الممكن "إرغام عرفات على التراجع عن قراره بإلغاء القوانين العسكرية المعمول بها" طالما ان اتفاق القاهرة يحرمه هذا الحق ويشترط ممارسته بالموافقة الاسرائيلية. هذان نموذجان عن قضايا لا حصر لها سوف تثار في المستقبل. فسيحاول ياسر عرفات "شد اللحاف" صوبه. هذا ما يقوم به الشركاء في اي تحالف فكيف بزعيم سلطة يريد توسيع صلاحياته من "خصم"؟ ومن قراءة سريعة لنصوص الاتفاقات يتضح انها تؤسس لعشرات اللجان المشتركة، وتضع آلية معقدة لاتخاذ القرارات وتستحدث مراجع ومراتب فوق بعضها. يعني ذلك ان الالتزام الحرفي بها يعني تفريغ آلاف الاشخاص لحل اشكالات تبدأ بدخول مسافر عند نقطة عبور ولا تنتهي بالقاء القبض على مخالف. النقاط الواضحة في الاتفاقات ستكون موضع خلاف فكيف بالنقاط الغامضة وهي كثيرة. يملك عرفات في هذا الميدان سلاح الانهاك وتملك اسرائيل "حق" النقض. غير ان هذا "الحق" الاسرائيلي ليس قانونياً فحسب، فمن الواضح انها تدعمه بمصدري قوة لا يستهان بهما: الامن والاقتصاد. انها المسؤولة عن الامن العام والحدود الخارجية وجيشها منتشر في كل مكان والشرطة الفلسطينية تحت رقابتها. ثم ان التوازن الاقتصادي لصالحها بصورة كاسحة. الاقتصاد الفلسطيني الحالي متداخل مع الاقتصاد الاسرائيلي وتابع له. وافضل تنفيذ ممكن للملاحق يحوّل الجانب الفلسطيني الى شريك صغير لاسرائيل. صحيح ان هذه تريد الحفاظ على اكبر قدر ممكن من الربح واستخدام الوضعية الجديدة على صعيد شرق اوسطي غير انها تملك، في المقابل، قدرة معاقبة السلطة الوطنية اقتصادياً في حال رأت فيها "شذوذاً" يضر بمصالحها. ان تل ابيب هي المسيطرة على سوق العمل، ومصادر المياه، والعلاقات مع العالم الخارجي ولها كلمة تقولها في المساعدات المتوقع تقديمها. معضلة المستوطنات ومن المعضلات التي ستصطدم بها السلطة الفلسطينية المستوطنات وسكانها. هذه معضلة مرشحة للتفاعل مع الزمن، قد لا تعرفها اريحا. ويمكن، مع بعض التفاؤل، افتراض ان مستوطني غزة سيرحلون او يقلّ عددهم. غير ان الهمّ الكبير سيبرز مع مدّ السلطة الوطنية الى باقي الضفة الغربية ومحيط القدس. لقد ظهرت تباشير ذلك في قضية سلاح المصلين في كنيس اريحا وفي اعتراض بعض المتجولين على طرقات غزة، غير ان ذلك سيبدو مزاحاً امام الوضع الناشئ مع تنفيذ الجيش الاسرائيلي لانسحابه من المناطق الآهلة حسب ما ينص الاتفاق. لا شك في ان اسحق رابين سيواجه ضغوطات للانحياز الى المستوطنين والدفاع عنهم، وربما كان من الافضل القول بأنه لن يحتاج الى هذه الضغوطات طالما انه ميّال الى ذلك اصلاً وان برنامج حزبه يحثّه على التمييز بين "مستوطنات سياسية" و"مستوطنات امنية" ويضع خارج البحث اصلاً مستوطني القدس الكبرى 150 ألفاً. واذا جرى التسليم بأن عودة عرفات وبدء ممارسة السلطة الوطنية الفلسطينية لمهامها سيدشّنا المعركة الانتخابية في اسرائيل، ويعقّدانها، وان القانون الجديد يقضي بانتخاب رئيس الوزراء مباشرة من الشعب، اصبح ضرورياً التأكيد على ان رابين سيحوّل قضية المستوطنين الى قيد غليظ على "تمادي" الفلسطينيين في ممارسة حقوقهم. الاقتصاد لصالح اسرائيل، والامن كذلك. وهي تقفل الحدود وهي التي تفتحها. هي المسؤولة عن العلاقات الدولية وهي الأقوى في هذا المجال. ولا مكان لأي شك في انها جدية في ادارة المفاوضات مع الفلسطينيين بحيث تلعب على مراحل القوة لديها من أجل محاولة حصرهم في القمقم الذي "وافقوا" على الدخول فيه. لقد توصل ياسر عرفات الى "اتفاق أوسلو" في غفلة من العرب والعالم، فهل يستطيع، في المرحلة الانتقالية، حسم قضايا التفاوض حول الحل النهائي في غفلة عن اسرائيل؟ هذه هي المواجهة التي سيخوضها مراهناً على ثلاثة عوامل: الأول هو الدينامية الفلسطينية التي قد تفيض، موضوعياً، عن نصوص الاتفاقات. الثاني هو "الرسملة" على قضية القدس بصفتها "قضية مقدسة لا يملك حق التصرف فيها". الثالث هو تغليب الحال الصراعية مع اسرائيل على الحال التوافقية مما يقود الى تهديد الأحلام والمشاريع الشرق أوسطية التي تعتبر العلاقات الاسرائيلية - الفلسطينية عمودها الفقري. واذا كانت اسرائيل أو بعض قادتها على الأقل تراهن على هذا المستقبل فهذا يعني ان الفلسطينيين ليسوا معدومي القوة في مواجهة العراقيل الصعبة التي ستبرز في وجههم. غير ان هذه القوة لا تستقيم الا اذا كان الوضع الفلسطيني معافى. فالمشاكل لن تكون اسرائيلية المصدر فقط. ثمة قضايا لا دخل لتل أبيب بها وهي تشكل تحديات ضخمة منتصبة في وجه السلطة الوطنية. المرحلة المقبلة انتقالية ولهذه خصائصها ومصاعبها الخاصة، فكيف اذا اضيفت اليها وفود "السلطة" من الخارج بعد غياب دام عقوداً: "الوزراء"، رجال الشرطة، الكوادر، الخ… العائدون كانوا على تماس مع المشاكل التي ستواجههم غير انهم كانوا بعيدين عن الحساسيات الأهلية ويمكن للترحيب الذي ينتظرهم ان ينقلب بسرعة، الى سوء تفاهم. هذه هي القضية الدائمة بين "الخارج" و"الداخل" ثم ان "الخارج" العائد ليس متفقاً. ثمة خلافات كثيرة تخترقه والانتقادات الموجهة ضد ياسر عرفات تنتظر أرضاً تمارس فوقها تصفية لحسابات محتملة بين أعضاء الفريق الفلسطيني المؤيد للتسوية، وهي تصفية دفع الخوف منها الكثيريين الى رفض المشاركة في السلطة الوطنية او التردد قبل الجواب بالايجاب. الى ذلك فان قيادات من الداخل تنظر بحذر الى قدوم "الفصائل" وهي التي اختبرت فوضى الاداء في اثناء المفاوضات، حنان عشراوي توافق ولا توافق وقبلها سري نسيبة. حيدر عبدالشافي "لا يقول لا" حسب ما وصفه قيادي مستقيل، وكثيرون من القادة الميدانيين للانتفاضة يشعرون ان هناك من يخطف منهم ثمرة جهدهم سواء كان كادراً مدنياً أو ضابطاً في الشرطة. اذا كانت هذه هي مشاكل "اهل الاتفاق" فان القضية السياسية الداخلية الرئيسية التي ستواجههم هي العلاقة مع المعارضة. تمثل هذه قوة ذات وزن ويمكن لها ان تكبر مع انضمام المحبطين من حركة "فتح". ستمر عليها أيام صعبة في البداية في ظل الجو الاحتفالي غير انه من الواضح انها تراهن على المستقبل القريب وتستعد للتكيف مع المعطيات الجديدة: لا صدام مع السلطة الوطنية، الاستمرار في العمل ضد المستوطنين والاحتلال، ارغام منظمة التحرير على شق الوحدة، ايقاعها بين مطرقة اسرائيل وسندان المقاومة. واذا نجحتپهذه المعارضة في الاستقطاب فان ذلك قد يهدد العملية الانتخابية الموعودة ويدفع نحو ارجائها أو الغائها. مشكلة السلاح والخدمات ستواجه السلطة الوطنية الفلسطينية مشاكل أمنية عديدة على رأسها مشكلة السلاح الذي انتشر فجأة بكثافة بين أيدي المواطنين. انتزاع السلاح الفردي سهل غير ان السلاح السياسي مسألة اخرى لا سيما وان الاتفاق يعطي المستوطنين حق التجول ببنادقهم الشخصية بما في ذلك في مناطق الحكم الذاتي. قد يكون التحدي الكبير أمام الحكم الجديد الرد على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية البائسة، الخدمات متردية أو معدومة، البطالة مرتفعة، مستوى الدخل شديد الانخفاض، أدت سنوات الاحتلال الى ضرب البنية الانتاجية وتفاقم الأمر مع الحصار الاسرائيلي والمقاطعة العربية لمنظمة التحرير. واذا قيس هذا الوضع الى الآمال التي اثارتها "العودة" تتضح الهوة الشاسعة بين ما يعيشه الفلسطينيون فعلاً وما يتوقعونه. واذا اضيف الى ذلك شعورهم بأن السيادة الوطنية مفقودة وجرى التركيز على ان التعويض عنها هو في تحسين الحياة اليومية أصبح واضحاً حجم الأهمية التي تتمتع بها هذه القضية. وستبرز، في هذا المجال، مشكلة غير محسوبة تماماً: الجهاز الاداري. انه متنوع، موروث عن مصر والأردن واسرائيل و"اونروا" والمنظمات غير الحكومية. له مرجعيات متضاربة ومتنازعة سيجري خلطه مع وافدين من الخارج وسيتدخل فيه القطاع الخاص وأصحاب المشاريع المختلطة وسيعرف جدالاً حول تقسيم العمل بين المبادرة الفردية والتدخل الرسمي… هذه "الغابة" من المشاكل قد تؤدي، فضلاً عن سوء الاداء، الى تحويل هذا الجهاز الى سد منيع يحول دون الاستفادة القصوى من المساعدات. غير ان هذه المساعدات نفسها قد لا تصل بالحجم المطلوب والموعود. وليس من الواضح، حتى الآن، أولويات انفاقها. هل سيحصل ذلك حسب الخطة الفلسطينية، أم توجهات البنك كالدولي، أم قرارات الدول المانحة؟ ما دور اسرائيل في ذلك كله؟ هل يمكن ان يضاف خطر الفوضى الى خطر النقصان؟ هل ستلتزم الدول العربية تعهداتها؟ هل ستحسن السلطة الوطنية الناشئة التصرف بشكل خاص مع الأردن بعد ان تعمدت، في خلال السنتين الماضيتين، استبعاده أن لم يكن استفزازه بشكل غير مبرر ولا مفهوم؟ يمكن الاستطراد في طرح هذه الأسئلة المقلقة وجمعها الى ما سبق ذكره من صعوبات وعراقيل بحيث يصبح مفهوماً طرح السؤال: هل يتحول "اليوم التالي" لقيام السلطة الوطنية الفلسطينية الى بداية حلم أم بداية كابوس جديد؟