منتصف ليل الأحد 11 كانون الأول ديسمبر الجاري دخل الحائزون على جائزة نوبل للسلام، ياسر عرفات واسحق رابين وشمعون بيريز الى قاعة بلدية أوسلو التي أعدت لاجتماع متأخر. وعند مدخلها لم يترك الثلاثة من سعادتهم واغتباطهم بتقاسم الجائزة سوى ابتسامات باهتة وغامضة. وعند خروجهم، بعد ساعة ونصف الساعة لم يتغير شيء في الانطباع الذي أعاد التأكيد على ان المتحاورين الثلاثة أجمعوا على نقطة واحدة تثير عدداً كبيراً من الأسئلة، هي متابعة الحوار ومواصلة التفاوض. واذا كان العنوان الراهن لهذا الاجتماع الفاشل والذي سوف يترك تأثيرات قوية على المفاوضات اللاحقة هو ما أجمع مراقبون على اعتباره مقدمة لپ"أوسلو - 2" بعد ان تم تشييع "اتفاقات أوسلو - 1" وسط كم هائل من الخلافات التي تمحورت حول قضايا الانتخابات الاشتراعية لمجلس الحكم الذاتي الفلسطيني وانتشار الجيش الاسرائيلي الذي يسبق الشروع في هذه الانتخابات في مناطق الضفة الغربية وقضايا أمنية عامة واخرى تفصيلية فان الاسئلة تتجه الآن حول طبيعة هذا الاتفاق الذي وصف بيريز ملامحه الأولى بعد اجتماع أوسلو الأخير بأنها "جديدة تماماً". فلماذا سعى اليه رابين وبيريز ولحق بهما عرفات قبل ان تنتهي مراسم دفن الاتفاقات الأولى بصورة رسمية؟ وما دام الجانبان الفلسطيني والاسرائيلي قد اقتربا من الاتفاق على ضرورة القيام بعملية "تجديد" فأي توازن سوف ينشأ بينهما في اطار عملية التعديل المرتقبة والتي دار حديث كثير حولها منذ ما يزيد على اسبوعين، جاء على خلفية التوافق العام على القول بأن اتفاقات أوسلو دخلت طريقاً مسدوداً، وان تنفيذها يتطلب اعادة نظر في الكثير من البنود التي أثبتت وقائع التطبيق في غزة وأريحا استحالة تنفيذها؟ السيناريو الاسرائيلي منذ البداية يغيب عن مشهد المفاوضات وضوح الاستعداد الفلسطيني لمواجهة عملية التعديل المتوقعة، باستثناء التأكيد على ضرورة تطبيق ما جاء في "اعلان المبادئ" الفلسطيني - الاسرائيلي الموقع في واشنطن في 13 ايلول سبتمبر 1993. في حين قام رابين، بالتناوب مع بيريز بنشر جدول أعمال تمت صياغته وفقاً للعناصر الأمنية التي أصبحت تحدد أولويات النقاش وترسم ممرات التفاوض. بدءاً من اقتراح رابين انسحاب الجيش الاسرائيلي من المناطق السكانية الآهلة في الضفة الغربية لمدة ثلاثة أيام تجرى خلالها الانتخابات ويعود الجيش بعدها الى مواقعه السابقة. واذا كان الجانب الفلسطيني يعترض على التفسير الاسرائيلي هذا لمسألة اعادة الانتشار فعليه، بحسب مصادر اسرائيلية ان يقبل بتأجيل عملية الانتخابات برمتها. ووفقاً لهذا التفسير الذي يبشر بمرحلة ساخنة ومعقدة وخطيرة من تعديل للاتفاقات تتضح ملامح السيناريو الاسرائيلي المعد للتطبيق في مشاهد تعرض على المفاوضات والمتفاوضين تباعاً وتتضمن: أولاً - ربط الانتخابات ربطاً محكماً بالقضايا الأمنية ذات الأولوية القصوى بالنسبة لحكومة رابين، ورهن مشاركة القوى الفلسطينية فيها بموقفها من عملية السلام و"اعلان المبادئ" وتخليها العلني عن ممارسة أي نشاطات عنيفة ضد اسرائيل. ثانياً - متابعة الضغط على سلطة الحكم الذاتي وياسر عرفات لانجاز وترجمة "تعهده" بنبذ الارهاب وفقاً للتفسير الاسرائيلي، أو تحميله وسلطته كامل التبعات الأمنية ليس في مناطق الحكم الذاتي وحدها بل وفي عموم الضفة الغربية حيث تربط اسرائيل بين استعدادها لاعادة نشر جيشها في هذه المنطقة والحصول مسبقاً على ضمانات أمنية، في شكل اتفاقات جديدة لضمان أمن مستوطناتها، واعتبار ما تقوم به "حماس" وبعض المنظمات الاسلامية الأخرى من هجمات "العقبة الرئيسية أمام الانتخابات". ثالثاً: "الاستعداد والتمهيد مبكراً لجولات مطولة ومتعددة من المفاوضات، من غير المستبعد ان تستغرق عاماً آخر تتوارى خلاله موضوعة الانتخابات الى حين استكمال بحث القضايا الأمنية. ومن البند الأخير اطلقت أوساط اسرائيلية تساؤلات حول ما اذا كان رابين يقوم ببحث أولي في مستقبل المستوطنات الذي تم الاتفاق على تأجيله الى المرحلة النهائية على غير رغبة الجانب الفلسطيني. ولكن اذا كان الفلسطينيون يرغبون في بحث الموضوع الآن، والقول للأوساط الاسرائيلية، فان أي اصرار من جانبهم على ازالة بؤر التوتر الاستيطانية التي أظهرت تجربة غزة ومجزرة وأحداث الخليل خطورة تواصل الوضع على ما هو عليه. فعليهم مواجهة التفسير الاسرائيلي الذي يقف وراء جعل القضايا الأمنية معياراً وحيداً للتقدم في المفاوضات وبخاصة على سكة الانتخابات. ويتلخص هذا التفسير في الحصول على ضمانات أكبر من تلك التي تم الاتفاق عليها في أوسلو، للتنقل بين مئة وعشرين مستوطنة، الى جانب حل بعض القضايا ذات الصلة ومنها ما يتعلق بالمرحلة النهائية والتسوية الدائمة وبخاصة مجال الاقتصاد، وتسوية مرور البضائع والأشخاص والاشراف على مصادر المياه. وبالاجماع تعمد القراءة الاسرائيلية لخطوات التفاوض، راهناً، مع منظمة التحرير الفلسطينية الى تسريب التصورات الأولية لمستقبل الضفة الغربية في التصور النهائي. فيتم حصر تمدد السلطة الفلسطينية منذ الآن والى مدى منظور داخل جيوب الخليل، ورام الله، ونابلس - جنين، الى جانب جيبي غزة - أريحا. وتعود الى الواجهة ثانية "قطعة الجبن السويسرية المليئة بالثقوب" التي تعرضها اسرائيل على الفلسطينيين والتي كان تطرق اليها، من قبل، وزير التخطيط والتعاون الدولي في السلطة الوطنية د. نبيل شعث، فيما تبدو غزو - أريحا الآن النموذج الذي تمّ تصنيعه منها. مخاوف رابين أما موضوعة الانتخابات التي تحتل مقدم أولويات الجانب الفلسطيني باعتبارها المعيار الراهن لالتزام اسرائيل تعهداتها بتنفيذ المرحلة الأولى من اتفاقاتها مع المنظمة وكذلك المدخل الأمثل لمعالجة حالة الاستقطاب الحاد في الشارع الفلسطيني الغزّي والتي تهدد بانقسام المجتمع وفقاً لما تسفر عنه معارك التنافس بين السلطة ومعارضيها. فإنها تواجه اصرار رابين على اخضاع الانتخابات للمعايير الأمنية، وتقسيطها وفقاً لما يقدمه الفلسطينيون من فواتير أمنية في وقت تتظاهر حكومة رابين بالقلق من نتائج الانتخابات واحتمال تفوق قوى المعارضة فيها على السلطة أو حصولها على قدر من النفوذ يمكنها من فرض شروطها أو ادخال تعدىلات على الاتفاقات لن ترضي الجانب الاسرائيلي. وليس من هدف وراء تضخيم هذه المخاوف سوى الحصول على تعهد جديد من عرفات بكبح اندفاع معارضيه، أو التوصل الى هدنة أمنية مع "حماس" من طريق غير مباشر يكون في مقدمه عرفات الذي يعود الى تجديد مأزقه بضغط اسرائيلي جديد يجعله بين خيار مواجهة اخرى مع "حماس" وبقية المعارضة أو رفض الضغوط الاسرائيلية وتحمل تبعات تأجيل الانتخابات وربما رفعها عن جدول الأعمال لفترة طويلة غير محددة طالما ان "المواعيد غير مقدسة" لدى الجانب الاسرائيلي. معضلة فلسطينية وبهذه الطريقة يتم تحويل قوى المعارضة التي أظهرت نفوذاً متزايداً في الفترة الأخيرة يؤشر على تزايد قوتها الانتخابية الى معضلة فلسطينية تعرقل الانتخابات وتثير اغراءً لدى السلطة على المواجهة تحسباً من فقدان آخر دعاماته الانتخابية، خصوصاً اذا اخذنا بالاعتبار رفض "حماس" اجراء أية مقايضة حول موقفها من النشاط المسلح وهي تدرك جيداً ان امتلاكها هذه الورقة من شأنه ان يفاقم مأزق عرفات أكثر من استخدامها لأوراق سياسية لا تملكها عملياً أو تملك منها ما يتعلق بتقصيرات سلطة عرفات وعجزها الراهن عن حل المشكلات الاقتصادية المتفاقمة واستمرار رشح المساعدات الدولية بقطارة الدول المانحة وشروطها. هكذا يواجه المفاوضون الفلسطينيون مرحلة لا تقل تعقيداً عن مفاوضات واشنطن الأولى والتي قذفت بها تعقيداتها الى مجرى التفاوض السري في أوسلو. فهل اتفق رابين وبيريز وعرفات على تجديد تلك القناة بعد ردم الأولى، وما قد يجره ذلك من تنازلات اخرى كارثية من الجانب الفلسطيني؟ أم يكتفي المفاوضون بجدول الأعمال الاسرائيلي الذي قررته ووضعت بنوده العناصر الأمنية، أم يعيد الفلسطينيون النظر في بعض حساباتهم وينتشلون موقفهم من حالة الضعف العام الآخذ في التزايد أمام الضغوط الاسرائيلية؟ لننتظر ونرى فحبل المفاوضات طويل ونتائجها لن تأتي دفعة واحدة بل بالتقسيط.