يقول أحد السياسيين اللبنانيين انه بغض النظر عن الحكم الذي يمكن أن تصدره المحكمة في حق الدكتور سمير جعجع في قضيتي اغتيال داني شمعون وتفجير كنيسة سيدة النجاة فإن ما جرى في الشهرين الماضيين أدى حتى الآن الى نتيجة واضحة وهي شطب "القوات اللبنانية" التي يتزعمها جعجع من المعادلة السياسية. ويضيف: استحقت "القوات" في الآونة الأخيرة صفة الخاسر الكبير في الحرب الطويلة التي عاشها لبنان ليس فقط بسبب انتمائها الى طائفة خسرت الحرب بل لأنها خسرت موقعها داخل الطائفة أيضاً وصارت محظورة قانوناً، وها هو قائدها يواجه اتهامات كبيرة وخطيرة. ويتابع السياسي قائلاً: لا مكان أصلاً ل "القوات" في السلام الحالي وتوازناته وهي لم تحسن الاحتماء من آثاره السلبية عليها ولم تنجح حتى في الحد من الاضرار. وجاء التورط المفترض في أحداث أمنية خطيرة ليوفر الشروط القانونية والمناخ الملائم للرغبة في شطبها من المعادلة. ويخلص السياسي الى القول: لم يعد الحديث الآن عن مصير "القوات" فمصيرها بات مكتوباً ومعروفاً، لكن السؤال هو عمن يرث "القوات"، هذه المؤسسة التي كانت تعيل الى وقت قريب نحو 20 ألف شخص من "العسكريين" والمدنيين. لملمة "القواتيين" من يرث "القوات"؟ والمقصود هنا من سيكون قادراً على استقطاب هؤلاء الشبان الذين خرجوا أصلاً من حزب الكتائب ليكونوا الذراع العسكرية للمنطقة الشرقية بقيادة بشير الجميل قبل أن يتعاقب على قيادتهم كل من فادي افرام وفؤاد أبو ناضر وايلي حبيقة وسمير جعجع. منذ 1986، وتحديداً بعد المعركة التي خاضها ضد ايلي حبيقة وأدت الى اسقاط "الاتفاق الثلاثي"، نجح جعجع في الامساك ب "القوات" وحوّلها لاحقاً الى جيش شبه نظامي كانت له فيه الكلمة الأولى والأخيرة على رغم الاختراقات التي خلفتها التحالفات التي نسجتها "القوات" والعلاقات التي أقامتها مع أطراف اقليمية متناقضة التوجهات. والواقع ان جعجع وعلى عادة الأحزاب والدول في المنطقة ادار القوات بأسلوب فردي جعل من المستحيل الحديث جدياً عن "الرجل الثاني" في المؤسسة على رغم الحجم الاعلامي لنائب جعجع بعد 1986 وهو المحامي كريم بقرادوني الأمين العام الحالي لحزب الكتائب. ويقول العارفون عن قرب بأوضاع "القوات" ان الرجل الوحيد القادر على اعادة لملمة جزء كبير من الشباب الذين كانوا يتحلقون حول جعجع هو نادر سكر، من بلدة بشري مسقط رأس جعجع، والذي رافق "الحكيم" منذ البداية قبل أن تفترق حسابات الرجلين قبل عامين تقريباً. ويلاحظ هؤلاء ان سكر الذي كان يتولى الاعداد للحوار بين "القوات" وسورية لم يبد أي رغبة في شق "القوات" قبل اعتقال جعجع ولم يحاول تقديم نفسه كوريث بعد اعتقاله. ويذكر ان سكر كان من دعاة السير حتى النهاية في اتفاق الطائف الذي أيّدته "القوات" وظهر التباين واضحاً بينه وبين جعجع حين أيّد الأول المشاركة الكاملة في الحكومات المتعاقبة وخوض الانتخابات النيابية في حين فضّل جعجع الوقوف في منتصف الطريق ثم ضاعف انتقاداته واعتراضاته. ويستبعد المراقبون أن يكون نادر سكر مستعداً لوراثة مؤسسة "وجهت اليها اتهامات بهذا الحجم وبدت منخورة الى هذه الدرجة". لهذا يتجدد طرح السؤال عمن سيرث "القوات" أو التيار الذي كانت تعبر عنه؟ الكتائب والمهمة الصعبة يتفق المراقبون في ما كان يعرف ب "المنطقة الشرقية" على أنه سيكون من الصعب تماماً على حزب الكتائب الذي يتزعمه الدكتور جورج سعادة استعادة "القواتيين" على رغم انتمائهم أصلاً الى الحزب أو جمهوره. ويلاحظون ان الحزب الذي شارك في صياغة اتفاق الطائف لم يستطع الظهور كشريك فاعل حين شارك في حكومات "الجمهورية الثانية" ولم يكن في صدارة المعارضة حين اختارها متأخراً وبعد تردد إثر مقاطعته الانتخابات النيابية في صيف 1992. يضاف الى ذلك أن حزب الكتائب اختار المعارضة تحت سقف معين وهي معارضة لا تكفي لمخاطبة جمهور "القوات". يضاف الى ذلك ان أنصار جعجع يحمّلون القيادة الكتائبية الحالية مسؤولية دفعه الى خارج الحزب وحرمانه من آخر غطاء ممكن وهو ما يرد عليه الكتائبيون بالقول ان جعجع هو الذي دفع بنفسه الى الخارج حين أصرّ على تولي الرئاسة أو الطلاق. ويقول المراقبون ان حزب الكتائب بتركيبته الحالية أضعف من أن يستوعب حدثاً بحجم غياب "القوات" في ظل اتهامات ومحاكمات لأنه خسر قوتين رئيسيتين هما "القوات" نفسها اضافة الى الرئيس السابق أمين الجميل. ويضيفون ان أمين الجميل، نجل مؤسس الحزب بيار الجميل وشقيق مؤسس "القوات"، كان يمكن أن يشكل في الوقت الحاضر نوعا من نقطة الارتكاز حول شرعية ما تلتقي عندها تيارات مختلفة من داخل الحزب وأطرافه. ويرى بعض الكتائبيين المؤيدين للجميل، المقيم في المنفى في باريس، ان عودته الى زعامة الحزب "صعبة وممنوعة فالمعادلة الحالية لا تسمح بعودة حزب الكتائب لاعباً بارزاً". عون وحبيقة والكتلة وتستبعد المصادر "الشرقية" ان ينجح الوزير ايلي حبيقة في الافادة من الفراغ الناشئ عما حل بغريمه جعجع "حتى ولو أدت المخاوف الأمنية الى التحاق بعض عناصر "القوات" بحزب الوعد الذي يتزعمه حبيقة". وتقول المصادر "ان الطريقة التي عاد بها حبيقة الى المنطقة الشرقية وطبيعة تحالفاته تحرمه من القدرة على استقطاب القواتيين على رغم ما شهدته الأعوام الأخيرة من تحسن كبير في أدائه ونضوج لتجربته ومحاولاته للخروج من عداوات الماضي". وترى المصادر نفسها ان التيار المؤيد للعماد ميشال عون قد ينجح في استقطاب جزء من جمهور "القوات" على رغم استمرار ذيول الحرب الطاحنة التي دارت بين الفريقين، لكنها تلاحظ "ان تيار عون نفسه يندفع نحو حالة من الحيرة بسبب استمرار وجود الجنرال في المنفى والشعور المتزايد بتعذر عودته قريباً واستحالة نقض المعادلة التي قامت على هزيمته وطرده من قصر بعبدا". وتلاحظ المصادر ان حزب الكتلة الوطنية الذي يتزعمه العميد ريمون اده، المقيم بدوره في المنفى، لا يطمح أصلاً الى وراثة "القوات" فقد كانت دائماً بين قيادتها والعميد اده حملات مريرة عمقت التناقض والتباعد. فضلاً عن أن حزب الكتلة الوطنية "لم يكن يوماً حزب الأكثرية في الشارع المسيحي وهو استعار ثقله دائماً من لمعان العميد اده أكثر مما استعاره من حجم قواعده في المناطق فضلاً عن أن الحزب الذي يضم كفاءات يفتقر الى الرموز الشعبية والى وريث محتمل ومعترف به لقيادته الحالية". ويمكن قول الشيء نفسه تقريباً، على رغم الاختلافات، عن حزب الوطنيين الأحرار الذي يتزعمه دوري شمعون. فرنجية الأقوى في ظل هذا الغياب للزعامة المارونية الفاعلة، خصوصاً في جبل لبنان، مسرحها التقليدي، يبدو الوزير سليمان طوني فرنجية في صورة الزعيم الأقوى وان كانت زعامته تقتصر حتى الآن على جزء من الشمال. فالوزير فرنجية الذي ورث عن جده الرئيس الراحل سليمان زعامة راسخة في منطقة زغرتا والشمال وعلاقة قوية وثابتة مع دمشق يبدو وكأنه الأقدر بين حلفاء سورية على امتلاك هامش يتيح له التحرك. وعلى رغم "الثأر الشخصي" ضد جعجع، فإن فرنجية حرص على التصرف في الآونة الأخيرة بعيداً عن الشماتة والتشفي آخذاً في الاعتبار مشاعر "القواتيين" الشماليين الذين ينتمون الى بلدة بشري الشمالية وجوارها. وعلى رغم ان موافقة فرنجية على "تطبيع" علاقاته مع حزب الكتائب بدت موجهة أساساً ضد جعجع في السنة الماضية فإن اشارات عدة عكست رغبته في توسيع القاعدة التي يستند اليها، لا سيما اضطلاعه بدور "الوزير المشاكس" داخل مجلس الوزراء وسوء التفاهم الدائم بينه وبين رئيس الحكومة رفيق الحريري. ودفع غياب الزعامات الحاضرة والفاعلة جهات عدة في المنطقة الشرقية الى اقتراح تشكيل هيئة تجتمع دورياً، على قاعدة اعتبار البطريركية المارونية المرجع الأخير، لكن هذا النوع من الاقتراحات يصطدم غالباً بتباين الحسابات بين الفرقاء وبتحفظ البطريرك نصرالله صفير الذي يصر على الابتعاد عن السياسة بمعناها اليومي. والواقع هو أنه لا بد من الانتظار لمعرفة من سيرث "القوات" خصوصاً ان المرحلة المقبلة قد تفرز زعامات مسيحية جديدة. ولا بد أيضاً من الانتظار لمعرفة ما سيسفر عنه المؤتمر الذي دعا اليه في باريس التيار المؤيد لعون. وقبل كل ذلك لا بد من الانتظار لمعرفة موقع لبنان في السلام المقترب، خصوصاً ان لبنان لا يفاوض عملياً ويكتفي بايجاد نوع من التطابق مع مواقف سورية. اما السؤال عن الإرث المالي ل "القوات" فهو معقد بدوره اذ ان "القوات" انشأت قبيل تسليمها أسلحتها مجموعة من الشركات باسماء أفراد، عدا ان رصيدها المالي استنزف الى حد كبير خلال المواجهة التي خاضتها مع ألوية الجيش الموالية لعون.