ساعة احضار الدكتور سمير جعجع للإستماع الى افادته في ما يتعلق بجريمتي اغتيال المهندس داني شمعون رئيس حزب الوطنيين الأحرار وتفجير كنيسة سيدة الزوق، تعدى انشغال الطبقة السياسية السؤال عن مصيره الى السؤال عما سيحدث لو حكى كل شيء! ورأى بعض المراقبين ان لبنان ربما كان على عتبة هزة فضائح سياسية وامنية ومالية شبيهة بتلك التي عاشتها ايطاليا لحظة انفتحت الملفات وخرجت منها "شياطين" المرحلة السابقة. لم يكن الخميس 21 نيسان ابريل يوماً عادياً في لبنان وهو ما تأكد قبل منتصف الليل حين اقتادت قوة من الجيش اللبناني، بناء على مذكرتي احضار وجلب، قائد "القوات اللبنانية" المنحلة الدكتور جعجع الى ثكنة صربا التابعة للجيش حيث بدأ الإستماع اليه. وجاءت الرواية الرسمية في بضعة سطور وفيها: "بناء على استنابتي التحقيق والإحضار الصادرتين بتاريخ 21/4/1994 عن المحققين العدليين في جريمتي تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل واغتيال المهندس داني شمعون وعائلته، جوزف فريحة ومنير حنين جرى مساء اليوم تنفيذ الإستنابتين واحضار السيد جعجع الى التحقيق". ومنذ شيوع الخبر ظهراً لوحظت اجراءات امن استثنائية في المناطق الشرقية من بيروت تحولت مساء الى انتشار عسكري كثيف، من العاصمة اللبنانية الى مقر جعجع في قرية غدراس في كسروان. وفي غدراس نفسها كانت الأجواء اجواء وداع فقد استقبل جعجع والدته وشقيقته واطفالها فيما بدت زوجته ستريدا طوق في حال تأثر شديد. بدا جعجع هادئاً وقال: "انه مستعد للمثول امام القضاء". وأضاف: "انا بريء ولا علاقة لي باغتيال داني شمعون عام 1990 في بعبدا او بانفجار الكنيسة في 27 شباط فبراير الماضي". وفي الليل طوّقت قوات من الجيش المكان المحاصر منذ نحو شهر وطلب ضابط من جعجع مرافقته ففعل ونقل الى ثكنة صربا وسط ذهول مرافقيه وحراسه الذين كان طلب منهم عدم ابداء اي مقاومة. وكانت التطورات تسارعت بعد تسرب انباء ان التحقيقات التي يجريها القضاء مع عناصر جهاز امن "القوات اللبنانية" في قضية تفجير الكنيسة ادت الى كشف جريمة اغتيال داني شمعون وزوجته واثنين من اولاده، وان المنفذين اعترفوا بأنهم تنكروا بثياب قوى الأمن اللبنانية، وانطلقوا من مقر قيادة "القوات" في المجلس الحربي في الكرنتينا، ونفذوا الأوامر التي صدرت إليهم. كما تسرب ان اسم جعجع ورد في اعترافات الرائد المتقاعد فؤاد مالك الرجل الثاني في "القوات" والذي كان اعتقل بعد تفجير الكنيسة. ملفات ... ملفات فور بدء الإستماع الى افادة جعجع بدأ الحديث في الأوساط السياسية وغيرها عن "فتح ملفات كثيرة" بينها ملف اغتيال قائد اللواء الخامس في الجيش اللبناني العقيد خليل كنعان في 29/9/1986 على أيدي مسلحين اقتحموا منزله، وكذلك ملف اغتيال رئيس الوزراء الراحل رشيد كرامي في اول حزيران يونيو 1987 بانفجار عبوة في طائرة هليكوبتر كانت تقله من مدينة طرابلس الى بيروت، وقضية اغتيال الدكتور الياس الزايك في 20 كانون الثاني يناير 1990 وهو مسؤول عسكري سابق في القوات النظامية لحزب الكتائب وكان مؤيداً لخصوم جعجع. وتضاف الى ذلك كله جريمة اغتيال النائب المرحوم طوني فرنجية نجل الرئيس الراحل سليمان فرنجية ووالد الوزير الحالي سليمان طوني فرنجية. انها المرة الأولى منذ اندلاع الحرب اللبنانية يمثل فيها قائد لإحدى الميليشيات الرئيسية امام القضاء للسؤال عن دوره في احداث خطيرة يمكن، في حال ثبوت ضلوعه فيها، ان يواجه عقوبة الإعدام او السجن المؤبد. والسؤال الكبير هو ماذا سيقول جعجع وماذا سيحدث لو قرر ان يحكي كل ما يعرفه، خصوصاً ان "القوات" امتلكت على مدى سنوات جهازاً امنياً شديد الفاعلية في مسألة جمع المعلومات ايضاً. وكان السؤال الكبير، غداة احضار جعجع للإستماع الى افادته: ماذا لو حكى؟ وماذا لو نفذ ما لوّح به قبل ساعات من احضاره حين قال انه سيبلغ المحقق كل ما يعرفه؟ المصادر المطلعة قالت ان مجرد احضاره يعني ان التحقيق توصل الى خيوط "باتت تحتم الإستماع اليه"، مشيرة الى ان المذكرة لم تصدر قبل انكشاف خيوط جريمة اغتيال داني شمعون، وربما لأن ما توصل اليه التحقيق في حادث تفجير الكنيسة لم يبرر صدورها. ورأت مصادر سياسية اخرى ان افادة جعجع، وربما محاكمته، تنذر بإغراق البلاد في سلسلة لا تنتهي من المحاكمات. وقالت: "اذا حكى جعجع كل شيء يمكن ان يتضح ملف العلاقات بين "القوات اللبنانية" واسرائيل وهو ملف بدأ بعد قليل من بداية الحرب في لبنان، وخلال عهد بشير الجميل في زعامة المجلس الحربي الكتائبي ثم في "القوات". ان فتح هذا الملف ينذر بتوريط اسماء كثيرة غادر فريق منها "القوات" وانتقل بعضها الى الموقع المناقض. وهناك ملف العلاقات مع العراق وما فيه من اسلحة واموال وهو ملف كبير ايضاً فضلاً عن ملف العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية". وأضافت المصادر: "وماذا لو كان جعجع يملك معلومات أمنية عن اغتيالات لم تنفذها "القوات" او انها ليست ضالعة فيها؟ وفي مثل هذه الحال هل يمكن فتح الملفات على مصراعيها واستدعاء كل من يرد اسمه، وهل تستطيع "الجمهورية الثانية" مواجهة موسم تدحرج الرؤوس؟ وماذا لو ادت المعلومات الى اعادة فتح ملفات اغتيالات كثيرة كاغتيال الرئيس رينيه معوض وغيره؟ يقول احد اصدقاء جعجع السابقين: "اذا حكى "الحكيم" فإن جزءاً اساسياً من رواية الحرب اللبنانية سيظهر لأن سمير جعجع كان حاضراً في كل محطات حروب الجمهورية الأولى وحتى قبل توليه قيادة القوات". من بشري الى غدراس ولد سمير جعجع عام 1952 في عائلة متواضعة من بلدة بشري، شمال لبنان. ويقول عارفوه خلال فترة دراسته انه كان انطوائياً يميل الى التأمل، وان الأحلام السياسية راودته باكراً لكنه اختار دراسة الطب "على امل العثور على دواء للسرطان". انتسب الى حزب الكتائب وكان يجاهر بعدائه ل "الإقطاع السياسي" وقبيل اندلاع الحرب انخرط في التدريب العسكري ثم اسس فرقة كوماندوس شارك على رأسها في معركة اجتياح الكورة خلال حرب السنتين. والده الجندي لم تعجبه قصة الأحزاب وقال له ذات يوم: "لماذا الأحزاب غداً تموت في الحرب". بدأ جعجع دراسة الطب في الجامعة الأميركية في بيروت ثم غادرها بسبب الأوضاع الأمنية ليلتحق بالجامعة اليسوعية في الشطر الشرقي من بيروت. وفي العام 1978 تلقى خلال وجوده في الجامعة اتصالاً من بشير الجميل يطلب منه فيه الحضور فوراً. يومها كلفه بشير قيادة "عملية تأديبية" في الشمال بررها بالرد على اغتيال المسؤول الكتائبي جود البايع. لكن العملية انتهت بمجزرة في اهدن قتل فيها النائب طوني فرنجية وزوجته وابنته وعشرات من انصاره واصيب خلالها جعجع برصاصة في يده. بعد 13 حزيران 1978 انكفأ جعجع مع قواته الى جرود البترون وبقي دوره محدوداً ذلك ان صعود بشير طغى على الجميع. لكن اسمه عاد الى الواجهة في 1983 عندما قاد "القوات" في حرب الجبل التي انتهت بهزيمة ساحقة ل "القوات" امام ميليشات الحزب التقدمي الإشتراكي وحلفائه. ويقول جعجع انه عارض اصلاً قرار الصعود الى الجبل الذي اتخذه بشير قبل اغتياله لكنه وافق على الصعود "للحد من الأضرار". بعد هزيمة الجبل لعب جعجع دوراً رئيسياً في الأحداث التي هزت المنطقة الشرقيةولبنان. ففي 12 آذار مارس 1985 قام مع ايلي حبيقة وكريم بقرادوني بانتفاضة على حزب الكتائب وقيادة "القوات" بدت موجهة ضد محاولة الحزب، بقيادة الدكتور ايلي كرامه الذي خلف بيار الجميل، وضع اليد على "القوات" بالتعاون مع رئيس الجمهورية امين الجميل. وسرعان ما افترقت حسابات جعجع وحبيقة، ففي حين وقّع الثاني بعد انتزاعه الموقع الأول على "الإتفاق الثلاثي" مع وليد جنبلاط ونبيه بري، قام الأول في 15 كانون الثاني يناير 1986 بحركة عسكرية ادت الى سقوط عدد من القتلى وازاحة حبيقة من المنطقة الشرقية. بعدها بدأ جعجع الذي تولى قيادة "القوات" بتنظيم الآلة العسكرية ل "القوات" وتمكن من تحويلها الى ما يشبه الجيش النظامي. لكن سوء العلاقات بينه وبين قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون، والذي بدأ فعلياً اثر محاولة حبيقة اختراق المنطقة الشرقية في 27 ايلول سبتمبر 1986 واغتيال خليل كنعان، وضع الأساس لمواجهة بدت حتمية بعد خلو مركز رئاسة الجمهورية في ايلول 1988 وتولي عون رئاسة الحكومة الإنتقالية. وحين اختار جعجع تأييد اتفاق الطائف اندلعت المواجهة العسكرية بينه وبين الألوية الموالية لعون وهو ما عرف ب "حرب الإلغاء". وانهكت الحرب الفريقين وانتهت عملياً في 13 تشرين الأول اكتوبر 1990 بالعملية العسكرية اللبنانية - السورية التي ادت الى ازاحة عون. عين جعجع وزيراً مرتين في حكومات الجمهورية الثانية: الأولى برئاسة عمر كرامي وقد اعتذر وعين مكانه روجيه ديب احد المقربين منه، والثانية برئاسة رشيد الصلح ورفض المشاركة فيها. وافق على قرار حل الميليشيات ونزع سلاحها وحوّل المؤسسة العسكرية الى "حزب القوات اللبنانية". لكنه فشل في انتزاع زعامة حزب الكتائب من الدكتور جورج سعادة وقاطع الإنتخابات النيابية صيف 1992 ولم تسجل علاقاته مع سورية اي تحسن فعلي على رغم لقاءاته مع العميد غازي كنعان رئيس جهاز الأمن والإستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان وزيارته للقرداحة للتعزية بالرائد باسل حافظ الأسد. بعد اتهام "القوات" بمتفجرة كنيسة سيدة الزوق اعتبر جعجع المسألة مجرد "ضغوط سياسية" ثم التزم الصمت الى يوم استدعائه للتحقيق. والسؤال المطروح ماذا سيحكي جعجع وماذا ان حكى كل شيء؟