يعرض الفنان المغربي المعروف فريد بلكاهية مجموعة من أعماله على الجلد في "معهد العالم العربي"، الى جانب أعمال عدد من أقرانه الافارقة والعرب. كما تستضيف "غاليري شاور" بعض أعماله الاخرى، وبينها مجموعة منحوتات معدنية هي آخر ما انتجه هذا المبدع التشكيلي الذي يمثل تجربة رائدة وفريدة على الساحة التشكيلية العربية. تستضيف العاصمة الفرنسية هذه الايام، مجموعة من النشاطات الفنية المتمحورة حول الفنان فريد بلكاهية وأعماله، أبرزها المعرض الذي تخصه به "غاليري شاور" في باريس، والذي يستمر حتى أواسط أيار مايو الحالي. في هذه الصالة المختصة بالفن الافريقي والعربي يعرض هذا التشكيلي المغربي البارز مجموعة من رسومه على الجلد، وأعمالاً أخرى على الورق. ويعرض أيضاً 15 منحوتة فولاذية من أحدث انتاجه، يجمع بينها عنوان مشترك: "الساعة العاشرة من شهر نيسان في حديقة رجائي"، وهي منحوتات نفذها بلكاهية في الدار البيضاء من وحي وضمن مناخات المدينة المتوسطية. في منحوتاته هذه يلعب بلكاهية على المساحات المسطحة، يدمجها ويزاوج بينها لخلق أحجام وفضاءات. وتعيد تلك المساحات التي تتقاطع مع فراغات تخترقها، الى الذهن أشكالاً واشارات مختلفة نقع عليها في رسومه، حيث تتكرّر كأنها أبجدية خاصة به. يحفر بلكاهية أوشامه في المعدن، أو ينقشها على الجلد، وهي مأخوذة احياناً من أحرف الابجدية الطوارقية نسبة الى الطوارق. وفي معهد العالم العربي، يشترك بلكاهية في معرض "لقاءات افريقية" الذي يستمر حتى 28 آب/ اغسطس المقبل، وهو معرض جماعي يضم أعمالاً لفنانين عرب أفارقة مصر، تونس، المغرب، الجزائر وفنانين من افريقيا السوداء. والمعرض قائم على فكرة دينامية وطريفة، إذ كُلّف فريد بلكاهية باختيار أعمال زملائه الافارقة من غير العرب، فيما عُهد الى الفنان المالي عبدلاي كوناتيه بمهمّة اختيار أعمال أقرانه العرب. الجلد والحناء... في المعهد يعرض بلكاهية خمس جداريات تنتمي الى الأسلوب المعهود الذي قامت عليه فرادته. وبين هذه الرسوم على الجلد بالحنّاء ومواد تقليدية أخرى، ما هو معروف وذائع الصيت: ال "يد" التي تمثل كفاً عليها محناة، و"تحية الى غاستون باشلار"، الكاتب الفرنسي الذي وضع دراسات نقدية حول الأدب والمخيلة وعلاقتهما بالعناصر الأربعة. ويعرض أيضاً عملين جديدين حسب الاسلوب نفسه أصباغ تقليدية على الجلد المشدود الى الخشب، وهما تحية الى الصومال. أعمال فريد بلكاهية تأتي لتذكر أن قسماً كبيراً من العالم العربي موجود في القارة الافريقية، وأن لهذا المعطى الجغرافي والحضاري انعكاساته الخصبة على الثقافة العربية. والتأثيرات الثقافية الافريقية امتدت كما هو معروف لتصل الى الجزيرة العربية، بحكم الجوار والعلاقات التجارية وغير التجارية عبر تاريخ طويل وصاخب أحياناً. وتجربته الخصبة والفريدة، تسلط الضوء على ميل سائد في العالم العربي اليوم الى تجاهل الثقافة الشعبية بعفويتها وأشكالها الخام، باعتبارها "فولكلوراً" أو رافداً ثانوياً إن لم يكن ارثاً ميتاً! عودة خجولة الى التراث؟ فحين تقدم هذه الثقافة الشعبية، يكون ذلك بشكل "مشذب" يفقدها حيويتها، ويساهم في تحجيمها وقتلها أكثر فأكثر. والأمثلة كثيرة على تجاهل النخبة والطليعة لغنى هذه الثقافة التي حضنتنا، والتي تشكل اطاراً ما تزال تحيا فيه الأغلبية الساحقة في المجتمعات العربية، بمعزل عن الانتماء الطبقي أو الثقافة الطاغية. ولسنا هنا في معرض الدفاع عن هذه الثقافة او انتقاد سلبياتها، أو حتى تقويمها، لكن يجب الاعتراف بأنها - بما تتضمنه من معتقدات - لا تزال عميقة التأثير فينا، أفراداً وجماعات، على جميع مستويات العلاقة مع الذات ومع الآخر. ويشهد العالم العربي عودة لا تزال خجولة نحو التراث الشفوي والمرئي الذي حجب طويلاً لصالح الكتاب والنص المكتوب. فهل صار بوسعنا الكلام عن انبعاث ثقافة تتمحور حول الجسد، وحول كل ما له علاقة بالحواس، سمعاً وبصراً؟ أعمال فريد بلكاهية في انطلاقها من صميم الذاكرة الشعبية، تشكل مشروع اجابة عن هذا السؤال. فمن ضمن هذا العالم المقنّن يعثر الفنان على مصادر الهامه، ويستثمر الاحتمالات الممكنة. وفي قلب هذه المادة المتوارثة والغنية التي تعبر عن روح الجماعة، يشق طريقه فاتحاً آفاق رحبة. بين انفلات المخيلة وعراقة الذاكرة، ينطلق بانياً عالمه الفني الخاص الذي يستند الى مفردات وإشارات سائدة أعيدت صياغتها. ف "التراث مستقبل الانسان" حسب بلكاهية، ولا يمكن التعامل مع الحاضر الا من خلال معرفة الذات، وهذه الرؤية وحدها تمنح المستقبل ملامحه واحتمالاته. هكذا انتقل بعد النحاس الى العمل على الجلد، فرسم عليه مستعملاً الحنّاء والألوان الطبيعية المصنوعة من الأعشاب أو من التربة. لكن أعمال بلكاهية، لا سيما أعماله على الجلد، تمثل تجربة متميزة في سياق الحركة التشكيلية العربية. فهو يعتمد لغة تشكيلية خاصة ولو أن بعض مفرداتها مستمد من التراث، ويبتكر في الوقت نفسه شكلاً جديداً للوحة، كاسراً اطارها ومخترقاً قواعد الفن التشكيلي الغربي. هكذا يتفادى بلكاهية مطب التقليد والتحنيط والفولكلور، ويخرج من اطار "الحِرَفيّة" التي عرفها الفن الشرقي والاسلامي.