في نيسان ابريل 1955 نشرت المجلة المرموقة التي تصدرها "رابطة السياسة الخارجية الأميركية" مقالة حذرت فيها من أن الخيار الذي يواجه الشرق الاوسط لم يعد "الاختيار ما بين الشرق والغرب وإنما الاختيار ما بين التحالف مع الغرب أو معارضته". وشرحت المقالة ذلك بقولها: "هناك طريقة حياة تستند الى التقاليد القديمة، وهي تقاليد جميلة ورومانسية لكنها تمثل مفارقة تاريخية في العالم الحديث - وترفض المؤثرات الغربية على أساس أنها غريبة وماديّة. أما طريقة الحياة الأخرى فتستند الى المفهوم الذي كان بناة تركيا الحديثة هم أول من طوّروه، وهو أن أفضل أسلوب لمقاومة التدخل الأجنبي هو اللحاق بالغرب من خلال تبنّي نمط حياته وتقليده". إن قراءة هذا التحليل اليوم، أي بعد أربعين عاماً تقريباً من كتابته، لا بد من أن تؤدي الى الشعور بنوع من الذعر لدى كل من له يد في صناعة سياسة الشرق الأوسط. فخلال بضعة أشهر من ظهور تلك المقالة اهتز الغرب المتقاعس المتعجرف بسبب قوة منافسة الحرب الباردة في الشرق الاوسط اثر صفقة الأسلحة التشيكية التي عقدتها مصر في عهد عبدالناصر. فالتفكير المغرور المتغطرس الذي يقول ان لا فائدة من تحدّي الغرب، وما يعيده هذا التفكير من أصداء الماضي، هو خير وصف للقوة الدافعة التي تقف وراء السياسة الجديدة التي أعلنتها ادارة الرئيس كلينتون ازاء العراقوايران، وهي سياسة "الاحتواء المزدوج". إذ يقول أنطوني ليك مستشار الأمن القومي الأميركي ان العراقوايران "خارجتان على القانون وهما تسعيان الى حجر نفسيهما عن اتجاه عالمي شامل لأنه ليست لديهما القدرة على ما يظهر للتكيف معه". لهذا ليس من المستغرب ان يخطىء السحرة الذين يديرون السياسة الخارجية الأميركية، وان تكون اخطاؤهم رهيبة في بعض الأحيان. ولكن من الأمور المذهلة ان نتذكر ان القضية الأساسية التي تثير شعوب الشرق الأوسط ودول المنطقة وتبعث النشاط فيها هي الكفاح من أجل العثور على أفضل طريق للتحديث، لا تختلف كثيراً هذه الأيام عمّا كانت في الأيام المبكرة من الحرب الباردة. اذ ان الحسابات المختلفة للسياسة الاميركية خلال هذه الفترة، من حلف بغداد، الى مبدأ نيكسون ثم الى تعاون ريغان "الاستراتيجي" والى سياسة "الاحتواء المزدوج" هذه الأيام - لم تعط حلاً مقبولاً للنقاش المستمر لأفضل السبل واكثر الطرق أصالة من أجل ضمان تحقيق التقدم والازدهار والرخاء لشعوب المنطقة. دافع استراتيجي ربما لم تكن تلك السياسات تهدف أصلاً الى ايجاد ذلك الحل. لكن أي مراقب موضوعي يدرس أثر السياسات الأميركية يستطيع ان يدرك وجود دافع استراتيجي أساسي تهتدي به الولاياتالمتحدة ونتائج تنسجم مع هذا الدافع. فهذا الدافع الضروري هو الذي شرحه ليك في المقالة الأخيرة التي نشرها في مجلة "الشؤون الخارجية" أي "المصلحة الأميركية الحاسمة في ضمان أمن أصدقائنا وفي التدفق الحر للنفط بأسعار ثابتة". أما النتائج المحتومة التي تنسجم مع هذه السياسة الأميركية فهي مبيعات الأسلحة بكميات تزداد باضطراد وبمستويات متزايدة من التقدم التكنولوجي وما يرافق ذلك من وجود عسكري أميركي واستخباري متعاظم باضطراد. وسياسة "الاحتواء المزدوج" تسير على هذا النهج. إذ أن ليك جدد التأكيد ان استراتيجية واشنطن تظل التركيز على النفط الرخيص. والواقع ان وكالة الطاقة الدولية تقول ان هذا الواقع الاستراتيجي سيستمر خلال القرن المقبل. وهي تتوقع مضاعفة انتاج النفط في الشرق الأوسط ليصل الى 45 مليون برميل في اليوم بحلول العام 2010 بدلاً من المستوى الحالي وهو 20 مليون برميل. ومع ان مبيعات الأسلحة الى أصدقاء الولاياتالمتحدة كانت تُبرّر عادة على أساس انها وسيلة لتأمين ما كان يصفه الرئيس دوايت أيزنهاور ب "أكبر دفاع ممكن بأقل مال ممكن" وتقليل احتمالات التدخل الاميركي، مثلما حدث في مبدأ نيكسون وايران، فان حرب الخليج ومبدأ "الاحتواء المزدوج" الذي نجم عنها يؤيدان الاستنتاج المعاكس. ولكن دعوة ادارة الرئيس كلينتون الى توسيع نطاق الوجود العسكري الأميركي المباشر في المنطقة كوسيلة "لاحتواء" ايرانوالعراق تأتي في وقت تشهد موازنة الدفاع تقلصاً، كما أنها تناقض رفض الادارة الواضح توسيع نطاق التزاماتها العسكرية الأجنبية. وفي هذا الصدد قال المحلل السياسي المعروف انطوني كوردسمان في ندوة عقدت أخيراً في الكونغرس: "مع أنه ربما كانت لدينا الاستراتيجية الصحيحة فاننا لسنا مستعدين على ما يبدو لدفع تكاليفها". ولكن هل "الاحتواء المزدوج" هو الاستراتيجية السليمة أم هل هي، كما وصفها ناقد اسرائيلي، مجرد "وصف لغوي للواقع الحالي" وتصوير ذلك أنه سياسة؟ ففي هذا الوقت الذي تحتاج واشنطن الى التفكير في سبل صياغة عهد ما بعد الاحتواء، كيف ومتى تخفف العقوبات المفروضة على نظام صدام حسين وكيف تدير عملية المصالحة مع ايران، نجد أنها تتطلع الى الأمام من خلال النظر الى الوراء. بمعنى أنها تجمع مجموعة من الظروف الناجمة عن حالات من الفشل والحماقات والفرص الضائعة وتجسّدها كسياسة جديدة. أين الاجماع؟ فهناك قيود وعوائق أخرى تقف في وجه استراتيجية "الاحتواء المزدوج" ومنها العيوب والنواقص المتصلة بهذا المفهوم وبسبل تطبيقه. فالاحتواء المزدوج، مثل "حلف بغداد"، ينطلق من فكرة بسيطة بل، في رأي بعضهم ساذجة، ويحاول أن يجعل منها مبدأ. ففي الخمسينات كان هناك اتفاق على الأقل بين واشنطن وحلفائها الاقليميين على ان "العدو" هو موسكو وان الأساس الذي يقوم عليه التحالف بينهم هو اقامة دفاع في وجه السوفيات. اما استراتيجية "الاحتواء المزدوج"، فمع أنها أقل طموحاً من "حلف بغداد"، تفتقر الى ضرورة أساسية وهي عنصر الاجماع. اذ لا يوجد هناك اجماع عربي ازاء العراق، مثلما ليس هناك اجماع دولي ازاء ايران. ومن غير المحتمل ان تنجح فكرة مثل "الاحتواء المزدوج" في تحقيق أيّ من هذين الاجماعين. وهناك أيضاً حوار مستمر وواسع بين ايرانوتركيا ودول الخليج. كما أن أوروبا واليابان تتحديان ازدواجية واشنطن التي تحاول خنق ايران اقتصادياً وفي الوقت نفسه تسمح لشركاتها بالمتاجرة مع طهران. فهذه العلاقات المستمرة تشير الى وجود مصلحة مشتركة مستمرة مع ايران والى رغبة أصيلة منطقية مستمرة في التعاون معها. وهذا ما لا يمكن ان ينسجم مع سياسة "الاحتواء المزدوج". ولهذا ليس من المستغرب ان تستقبل المنطقة "الاحتواء المزدوج" إما بصمت مطبق وإما بانتقادات هادئة. ففي تشرين الأول اكتوبر الماضي مثلاً أبلغ الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي صحيفة "الحياة" قوله: "إن ما يهمنا هو أن هذه السياسة لا تعكس وضعنا وأن دولنا لن تتأثر بها". وحتى اسرائيل، وهي أشد الدول دعوة الى احتواء ايران، تخالف قواعد ليك بمواصلتها الاتصال مع كوريا الشمالية، وهي دولة اخرى تعتبرها واشنطن خارجة على القانون، واجراء محادثات معها من أجل وضع نهاية لمبيعات الصواريخ الى ايران في مقابل استثمار رؤوس الأموال في كوريا الشمالية. والديبلوماسية العربية - الاسرائيلية التي ترعاها أميركا انطلقت في الواقع من التفكير نفسه الذي أدى الى صياغة "الاحتواء المزدوج". وسورية هي المفتاح الأساسي في هذه الدوائر المتقاطعة، بصفتها الشريك الاستراتيجي الأساسي في المصالحة العربية - الاسرائيلية المأمول فيها وبصفتها أقوى حلقة وصل بين القوميتين العربية والايرانية. ولهذا فان واشنطن واسرائيل تسعيان الى قطع هذه الصلة واجتذاب دمشق الى احضانهما ما سيزيد من عزلة ايران. ففي الفترة الأخيرة قال مارتن انديك أحد كبار المسؤولين في مجلس الأمن القومي الأميركي: "اذا نجحنا في تحقيق سلام فعلي بين سورية واسرائيل فان هذا سيعزز موقفنا الاستراتيجي في المنطقة في مواجهة العراقوايران". والواقع ان المعارضة الايرانية لديبلوماسية مدريد أقل عنفواناً وأقل تأثيراً مما تتظاهر به واشنطن. ومن المفارقات انه لو قامت واشنطن بجهد أكثر جرأة لبناء حوار رسمي مع رجال الدين فانها ستقلل من الاستقطاب في المنطقة وربما عززت امكانات المصالحة العربية - الاسرائيلية. ولكن على رغم عيوب سياسة "الاحتواء المزدوج" فانها تمثل نوعاً من التقدم في نظرة واشنطن الى المنطقة. اذ ان نهاية الحرب الباردة أصبحت تعني ان الخطط الاميركية لم تعد تنطلق من التصور المبالغ فيه للخطر الخارجي. كذلك تحرص ادارة كلينتون على الاعلان ان معارضتها لايران ليست حملة ضد الاسلام، كما انها لا تنوي فرض حجر على ايران أو اطاحة النظام فيها. وهي طمأنة لا بد منها استناداً الى الخبرات السابقة. وقد تعمد المحللون الايرانيون للسياسة الأميركية الى إبراز الجانب الايجابي، فأعربوا عن ارتياحهم الى رغبة واشنطن في فتح الباب أمام إقامة "حوار - مسؤول" ووعدها بعدم زعزعة النظام. ففي الثامن من آذار مارس قالت صحيفة "طهران تايمز": "لقد دأبت ايران باستمرار على البقاء وفيّة ومخلصة لثورتها الاسلامية، وعلى ترك الباب مفتوحاً في الوقت نفسه امام امكان المصالحة مع الولاياتالمتحدة". ومن الواضح ان هذه العناصر كانت ستعطي الاشارة في عهد رئيس اميركي اكثر حيوية على المسرح العالمي، للبدء برسم الخطوط لرقصة ديبلوماسية معقدة بين واشنطنوطهران. وربما كانت ايران هذه الأيام قادرة على تسجيل هذا الاداء وقياسه، لكن ادارة كلينتون لسوء الحظ غير قادرة على ذلك.