رسمياً، ان سياسة الادارة الاميركية المسماة "الاحتواء المزدوج" لكل من ايرانوالعراق مستمرة باعتبار الدولتين مصدر خطر على المنطقة يستوجب استمرار التواجد العسكري الاميركي فيها لضمان أمن الأصدقاء والمصالح الاميركية الحيوية. عملياً، تطورت سياسة "الاحتواء المزدوج" بصورة "داروينية"، فتم استبدال احتواء العراق الذي عولجت فيه مسألة أسلحة الدمار الشامل بسياسة اسقاط نظامه ورفض التحاور معه تحت أي ظرف كان. وتم استبدال احتواء ايران بالتوجه الى حكومتها لاقناعها بالحوار والتعامل الرسمي مع الولاياتالمتحدة على رغم تضاعف قلق الادارة الاميركية من تطوير طهران اسلحة الدمار الشامل ومما تسميه واشنطن بتشجيع الارهاب وتقويض العملية السلمية في الشرق الشرق الأوسط. منطقياً، لا منطق لهذه السياسة. واقعياً، انها سياسة الواقعية - السياسية التي تضع المصالح الآنية في أعلى سلم الأولويات. وعلى رغم هذا فإن واشنطن قد تخطئ في حق مصالحها اذا بالغت، كما تبالغ، بقطبين بميزان اساليب الادارة الاميركية هما: أولاً ان الافراط في زج واشنطن في زاوية ضيقة برفضها القاطع التعاطي مع بغداد تحت أي ظرف كان يجعلها لا تبالي بأي تطور في المواقف الجوهرية. وثانياً، ان استدراك خطأ التزمت في سياسة "الاحتواء المزدوج" التي قننت ايران "عدواً" جاء مثقلاً بقيود سياسة الاحتواء ذاتها، فجعل واشنطن تخاطب طهران بلسانين متناقضين، احدهما "يعلك" التعالي بخضوع والآخر التوسل بكبرياء. بعض دول منطقة الخليج يتلاقى مع السياسة الاميركية بشطر منها ويختلف معها بشطر آخر. البعض يبصم على السياسة الاميركية والبعض الآخر يحتج على نواح منها. انما في نهاية المطاف، لا يوجد طرح متكامل لدول الخليج يساهم في فرض مراجعة جذرية على أسس السياسة الاميركية نحو المنطقة. وهذا التغيب عنصر رئيسي في ارتجالية أقطاب ادارة بيل كلينتون لكثير من السياسات نحو المنطقة في السنوات السبع الماضية. النقاش في ما اذا كانت سياسة "الاحتواء المزدوج" لبت أهدافها مستمر. هناك مدرسة تصر على ان هذه السياسة نجحت لأن احتواء كل من العراقوايران حدث وان كان لبضع سنوات، وهناك مدرسة تصر على ان تلك السياسة فشلت تماماً لأن ايران خرجت من عزلتها وكسرت طوق "الاحتواء" اقليمياً ودولياً. بغض النظر عن صحة أو خطأ هذه النظرية أو تلك، ان مجرد تشعب سياسة "الاحتواء المزدوج" نحو تطوير احتواء العراق الى خانة استبدال نظامه وارتقاء احتواء ايران الى خانة التحاور والتعامل معها يعني انتهاء سياسة الاحتواء "المزدوج" نجحت أو فشلت، هذا قابل للنقاش. الواضح انها انتهت أو تعطلت أو كما يقول صاحب هذه السياسة اثناء عمله في مجلس الأمن القومي مساعد وزيرة الخارجية الاميركية مارتن انديك، "تطورت" بالمعنى "الدارويني". انديك، في محاضرة له امام "مجتمع آسيا" في واشنطن الاسبوع الماضي، أكد ان "لا مشكلة لنا في الوقت الحاضر" مع امتلاك وقدرة العراق على تطوير اسلحة الدمار الشامل "لأننا عالجنا هذه المشكلة بمختلف الاجراءات"، منها ما قامت به اللجنة الخاصة التابعة للامم المتحدة المكلفة إزالة الأسلحة المحظورة في العراق "أونسكوم"، ومنها العمليات العسكرية الاميركية التي بدأت منذ عشرة اشهر في اعقاب انسحاب المفتشين الدوليين والرقابة البعيدة المدى من العراق. فالخوف من العراق في مجال أسلحة الدمار الشامل ليس قائماً اليوم، باعتراف انديك، لكن بقاء الرئيس العراقي صدام حسين في السلطة يشكل مصدر الخوف في امكانية استعادة العراق قدرات تطوير الأسلحة المحظورة، "نحن نعرف من تجربة مرة، انه سيعود فوراً الى تطوير هذه الأسلحة وتهديد جيرانه" اذا بقي صدام حسين في السلطة بلا حصار أو احتواء. أما في ما يتعلق بايران فإن الخوف ليس نظرياً كما هو نحو العراق لجهة احتمالات وامكانات استئناف برامج امتلاك أسلحة الدمار الشامل. ان القلق، حسب انديك، عائد الى "سعي ايران المستمر لتطوير اسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية الضرورية لها، والى الجهود المستمرة للحصول على أسلحة نووية وكيماوية وبيولوجية، على رغم توقيعها على اتفاقات منع انتشار الأسلحة ذات الصلة". مرة أخرى، بغض النظر ان كانت الادارة الاميركية تسوق آراءها في شأن امتلاك ايران هذه القدرات أو الغايات للاستهلاك أو باقتناع، فإن جوهر النقاش هنا هو وسيلة التعاطي مع الفكرة. فإذا كانت الادارة الاميركية، كما أوضح انديك، استنتجت ان العراق بات خالياً من أسلحة الدمار الشامل فيما ايران في صدد تطويره، لماذا ترفض اطروحات فرنسا وروسيا والصين التي تعيد الرقابة البعيدة المدى على برامج التسلح في العراق لمنعه من استعادة قدرات تطوير هذه الأسلحة وترفض اي حوار مع بغداد يؤمّن هذه الأهداف؟ ولماذا. في الوقت ذاته، فيما تقول الإدارة الاميركية ان لدى ايران برامج امتلاك هذه الاسلحة وانها ناشطة في امتلاكها، ترى واشنطن ان وسيلة المعالجة مع طهران هي في الحوار والتعاطي الرسمي بين الحكومتين الاميركية والايرانية، بما يؤدي الى إزالة فكرة "الاحتواء" لايران في سياسة "المزدوج"! مارتن انديك يقول مستخدماً تعبيراً اميركياً: "ازدادت المياه تحت الجسر بما لا يسمح لنا حتى النظر" في احتمالات التحاور أو المصالحة مع صدام حسين... "ونحن مصممون على دعم جهود الشعب العراقي لاستبدال النظام في العراق، وليست لنا وجهة النظر ذاتها نحو الحكومة في ايران"... و"صدام حسين مجرم حرب وسنجد وسائل لمحاكمته... ولن نتعاطى معه أبداً واطلاقاً". هكذا، وبمثل هذه الاعلانات القاطعة، وحسب تعبير اميركي آخر "ترهن" الإدارة الاميركية نفسها في زاوية. فتحسم وتسحب من نفسها الخيارات. ولو كانت لديها استراتيجية عملية لتحقيق هدف اطاحة النظام في بغداد، لكان الأمر أكثر قابلية للفهم والمنطقية. أما وانها مبعثرة على حبال معارضة عراقية متضاربة وبيئة مترددة في جيرة العراق، فإن المواقف القاطعة والمطلقة تتجاهل الوقائع إما بلامبالاة أو عمداً لغايات ليست لها علاقة ببلد يسمى العراق. فإذا كان الهدف، كما قال وزير الدفاع الاميركي وليام كوهين، "إبقاء صدام في الصندوق" فالمواقف الاميركية القاطعة والمطلقة نحو بغداد تضع الولاياتالمتحدة في "صندوق" داخله "صندوق"، يرتهن المواقف العربية، الحكومية والشعبية وللتأكيد، فإن الفارق الرئيسي بين المواقف الاميركية والعربية له علاقة بالعراق البلد وليس بالعراق النظام. وعلى أي حال ان "صندقة" اميركا لنفسها اليوم نحو العراق توازيها محاولتها الخروج من "صندقة" نفسها نحو ايران بصعوبة كبيرة. فالمؤسسة الاميركية الفاعلة والمؤثرة على الادارة الاميركية تدفع منذ حوالى سنتين نحو اعادة النظر في السياسة نحو ايران وتعمل من أجل فك طوق الاحتواء عن ايران ليتحول "الاحتواء المزدوج" الى احتواء حصراً للعراق. الإدارة الاميركية رغبت بالتجاوب، ولكنها وجدت نفسها رهينة "صندقة" نفسها في سياسة "الاحتواء المزدوج"، اضافة الى "الصندقة" الطبيعية نتيجة العلاقة العضوية بين الولاياتالمتحدة واسرائيل. فإسرائيل مؤثر عميق في السياسة الاميركية الداخلية وتلك المعنية بالسياسة الخارجية، حتى وان كانت المصالح الاميركية في الميزان. ومع ايران، ان ناحية تطوير أسلحة الدمار الشامل، وحتى ناحية احتمالات التورط في تفجير "الخبر" الذي أدى بأرواح العسكريين الاميركيين في المملكة العربية السعودية، تتخذ المقعد الخلفي لناحية المواقف الاميركية في عملية السلام. مارتن انديك، في عرضه آخر مستجدات المواقف الاميركية من ايران، تحدث عن معالجة أسلحة الدمار الشامل في "اطار اقليمي" عبر "تحقيق السلام الشامل" في منطقة الشرق الأوسط بما يسفر عن "هيكلية جديدة"، معفياً اسرائيل، في هذه المرحلة من أي تدقيق في ترسانتها النووية وأي مطالبة بوضع منشآتها تحت رقابة دولية. فالعراق أمس، وايران اليوم، واسرائيل غداً ربما، انما حصراً بعد تحقيق السلام الشامل. وهذا السلام، حسب انديك، سيتطلب من ايران التوقف عن دعم قوى التطرف المعارضة لعملية السلام "ولقد أوضحنا لايران ان العقوبات الثنائية التي فرضناها لا يمكن لها ان ترفع، والعلاقات لا يمكن لها ان تتحسن، ما لم تتخذ ايران خطوات ذات معنى لإنهاء دعمها للارهاب والبدء بالتعاون في المعركة ضده". وهذا ليس فقط في اطار التحقيق في شأن تفجير الخبر وانما اساساً في شأن عملية السلام. لذلك قال انديك: "حتى ليبيا وسورية عدلتا سياساتهما نحو عملية السلام" في اجراءات دمشق نحو المعارضة الفلسطينية الموجودة في سورية وفي عمل ليبيا على "طرد" أبو نضال "وهذه ليست أمور صغيرة في هذه المرحلة في العالم العربي... فلماذا اهتمام ايران بالتدخل وتشجيع جهود تدمير عملية السلام؟". ايران، حسب رأي الادارة الاميركية، جعلت من تدمير عملية السلام شغلها، فيما العراق أوضح في اكثر من محفل ان عملية السلام "ليست من شغلنا". لايران نفوذ في التأثير على مجموعات ذات علاقة عملية بتعطيل عملية السلام، فيما العراق لا يفعل أكثر من تعابير عاطفية عابرة لتسجيل عدم تصديقه عليها. وعلى رغم ذلك، فإن واشنطن ترحب بالحوار مع ايران وقلب صفحة معها باجراءات في ميدان العقوبات ذات معنى لكنها ترفض قطعاً الحوار مع العراق أو اتخاذ أية اجراءات لرفع العقوبات أو تعليقها حتى اذا اقترن بذلك استعداد بغداد تسهيل نجاح عملية السلام. فرسالة العاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين التي لم تُسلم لم تكن اختراعاً بلا اساس على رغم نفي بغدادوواشنطن وعمان لوجودها. إنها لم تسلم لأن العنوان المقصود أعادها مغلقة رافضاً حتى الاطلاع عليها. انها "الصندقة" بأبلغ تعابيرها. والتعبير الموازي لسياسة "الاحتواء المزدوج" يجوز ان يكون "صندقة" الخيارات الاميركية. فقد يكون أقطاب الادارة الاميركية المعنيون باختراع تعبير "الاحتواء المزدوج" اخترعوا تعبيراً لامعاً باهراً بنابغة وطأة التعابير، الا انهم و ضعوا السياسة الاميركية في قيود كانت في غنى عنها. ذلك ان السياسة الماهرة هي تلك التي تترك دائماً فسحة لقليل من المطاطية والأخذ والعطاء واعادة النظر، اما سياسة "الصندقة"، مهما لمعت، فإنها ضيقة الآفاق والخيارات