في 18 أيار مايو الماضي ألقى ناطق باسم ادارة الرئيس بيل كلينتون، هو مارتن انديك من مجلس الأمن القومي خطاباً في اجتماع نظمته احدى الجماعات الموالية لاسرائيل في واشنطن، حدد فيه الخطوط العامة للسياسة الاميركية الجديدة تجاه ايرانوالعراق. ولخّص انديك هذه السياسة بعبارة "الاحتواء المزدوج". أما الهدف المعلن لهذه السياسة الجديدة فهو أن الولاياتالمتحدة لن تلعب بعد الآن لعبة "توازن القوى" القديمة، أي دعم العراق او ايران لكي توازن كل منهما الدولة الاخرى. ونحن نعرف بالطبع أن الولاياتالمتحدة تخلّت عن هذه السياسة منذ عاصفة الصحراء. اذن لا بد من التساؤل: ما الجديد في هذه السياسة؟ الواقع ان السياسة الجديدة لا تمثل ابتعاداً جذرياً عن الممارسات السابقة، لكنها تشير فعلا الى حدوث تغييرات في مجالات عدة، كما انها تثير الكثير من الاسئلة من دون الاجابة عنها. فالعناصر الجديدة في هذه السياسة هي ما يأتي: * على النقيض من التصريحات التي صدرت عن كلينتون قبل أن يتولى الرئاسة بفترة قصيرة، نلاحظ ان السياسة الحالية تعتبر نظام صدام حسين نظاماً لا سبيل الى اصلاحه، كما انها تعد بزيادة التأييد الاميركي لعناصر المعارضة داخل العراق. وتدل الهجمات الاخيرة على العراق على ان ادارة كلينتون ستكون صارمة في تعاملها مع صدام حسين مثلما كانت ادارة بوش. لكننا لا نعرف هل لديها استراتيجية للمجيء بنظام بديل او هل تنوي زيادة دعمها للمؤتمر الوطني العراقي على سبيل المثال، اذ ان بعضهم يطالب بتسليح الاكراد في شمال العراق، او بفرض المنطقة الآمنة في جنوب البلاد على نحو يضمن الحماية الفعلية للشيعة، أو تشجيع تشكيل حكومة عراقية في المنفى. لكن الادارة لم تدرس اياً من هذه الخطوات دراسة جدية حتى الآن. وهكذا نجد ان السياسة الحالية تجاه العراق لا تختلف عن تلك التي انتهجها بوش وبيكر اي مواصلة الضغط على صدام حسين الى ان "يحدث شي ما". * أما السياسة التي ستنتهجها ادارة كلينتون تجاه ايران، تبعاً لما شرحه انديك، فلن تكون على غرار سياسة بوش - بيكر. فنحن نذكر ان بوش قال ان واشنطن ستقابل اي تحرك ايجابي من ايران نحو الولاياتالمتحدة بتحرك مماثل. لكن السياسة الحالية كما استمعنا ستكون اكثر تشدداً وصرامة. فهي تنتقد السياسة الايرانية في خمسة مجالات: رعاية الارهاب، معارضة عملية السلام في الشرق الاوسط، تقويض استقرار الدول الصديقة، الحصول على الاسلحة الهجومية، وتطوير اسلحة الدمار الشامل بما في ذلك الصواريخ والاسلحة النووية. ومع ان ادارة كلينتون لا تدعو الى اطاحة الحكومة الاسلامية في طهران فانها تصر على انه لا يمكن تطبيع العلاقات مع ايران الا اذا حدث تغيير شامل في السياسة الايرانية في كل تلك المجالات. والى ان يحدث ذلك ستواصل واشنطن ممارسة ضغوط اقتصادية قوية على طهران. إذن ما الذي دفع ادارة كلينتون الى استنباط هذه السياسة من "الاحتواء المزدوج"؟ الواقع ان بعض اعضاء ادارة الرئيس بوش كان يستخدم اصطلاح "الاحتواء المزدوج" حتى قبل ان يدخل كلينتون البيت الابيض، في معرض وصف هؤلاء سياسة واشنطن آنذاك لمعارضة كل من العراقوايران. ولهذا يمكننا القول ان كلينتون ورث الى حد ما سياسة الاحتواء المزدوج، ولكن من دون ان تكون لها اصول وتفسيرات واضحة. وهذا هو بالضبط ما خرج به بعض اعضاء فريق الشرق الاوسط الجديد في ادارة كلينتون وفي مقدمهم انديك الذي سلط الاضواء على ايران كخطر جديد بسبب امكاناتها العسكرية التي يمكن ان تهدد بها اسرائيل ذات يوم، وبسبب تأييدها "حزب الله" وحركة "حماس" اللذين يعارضان اسرائيل وعملية السلام والزعماء العرب المعتدلين. ولا داعي طبعاً الى القول ان آراء انديك تعززت نتيجة زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين لواشنطن وزيارة الرئيس حسني مبارك بعد ذلك. اذ ان كلا منهما، لأسبابه الخاصة، ركز على الخطر الجديد الذي تمثله ايران، وهو خطر يثير من دون شك قلقاً فعلياً لديهماولو على المدى البعيد على الاقل. ولكن في وسع المرء ايضاً ان يستشف شيئاً من المبالغة المقصودة في تصوير الخطر الايراني كوسيلة لايجاد ارضية مشتركة بين الاميركيين والاسرائيليين والانظمة العربية المعتدلة. وفي هذا ما يذكرني بعهد الحرب الباردة عندما كانت الدول الاقليمية والاميركيون يبالغون في الخطر السوفياتي من اجل اعطاء الانطباع بأنهم جميعاً يواجهون عدواً مشتركاً. وهكذا يبدو أن بعض هذا المنطق يسود هذه الايام. ومع ان ادارة كلينتون استنبطت سياسة جديدة واعطتنا شعاراً يسهل علينا ان نتذكره وهو "الاحتواء المزدوج" فاننا لا نعرف كيف ستنفذ هذه السياسة. وعلينا ان نتذكر ايضا ان كلمة "احتواء" هي الاسم الذي اطلقته اميركا على سياستها تجاه الاتحاد السوفياتي بين عامي 1947 و1990. لكن الولاياتالمتحدة انتهجت تحت مظلة "الاحتواء" تلك سياسات كثيرة مختلفة بما في ذلك الوفاق والمواجهة. إذن ما الذي يعنيه "الاحتواء" فعلاً؟ ان هذه السياسة تعني في أدنى مفاهيمها معارضة التوسع الاقليمي بالقوة. ولكن من الواضح ان ايرانوالعراق ليسا في موقف يؤهلهما لمتابعة اي سياسات عسكرية توسعية، ولذا لا بد من ان يكون لهذه السياسة معنى آخر. وهذا المعنى الآخر هو الحد من النفوذ الاقليمي لكل من طهران وبغداد ومن امكان اثارتهما الاضطرابات والقلاقل. ولا يملك المرء الا ان يشعر بأن واشنطن خفضت من مكانة صدام حسين واخذت تنظر اليه نظرتها الى الزعيم الكوبي فيديل كاسترو. باختصار ستسعى الولاياتالمتحدة الى فرض عزلة على العراق ومعاملة قيادته على اساس انها منبوذة الى ان يختفي صدام كاسترو عن المسرح. اما احتواء ايران فهو مهمة اكثر تعقيداً. فعندما بدأت الولاياتالمتحدة باحتواء الخطر السوفياتي مثلا، حافظت رغم ذلك على نطاق واسع من الاتصالات مع موسكو بما في ذلك العلاقات الديبلوماسية والتجارية. كذلك كان الحال بالنسبة الى سياسة احتواء الصين بعدما فتح ريتشارد نيكسون الابواب الى بكين. ولهذا فان الولاياتالمتحدة لن تستطيع فرض عزلة على دولة اقليمية كبرى مثل ايران، مما يقتضي انتهاج سياسة حذرة. وفي اعتقادي ان واشنطن ستركز على جانبين من جوانب السلوك الايراني: تأييد الارهاب، ومحاولة امتلاك الصواريخ البعيدة المدى والاسلحة النووية. فاذا اظهرت طهران بعض الاعتدال في هذين المجالين فان العلاقات الاميركية مع ايران يمكن ان تتحسن بسرعة. اما اذا انتهجت ايران سياسات عدوانية في هذين المجالين فان وقوع صِدام بين واشنطنوطهران أمر محتوم على الأرجح. ومع ذلك فان ادارة كلينتون لم تواجه حتى الآن اختيارات صعبة في تطوير سياستها تجاه العراقوايران. اذ ان اصدار بيان سياسي مسألة سهلة جدا. لكن المرحلة الشاقة هي ترجمة السياسات العامة الى برامج حقيقية. وستكشف الايام لنا مدى مهارة فريق كلينتون في مواجهة هذا التحدي. * مستشار الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر وخبير بارز في شؤون الشرق الاوسط