هل أنت شخص قلق؟ لا تسارع الى النفي، فالقلق طبيعي وعادي وله فوائد جمّة. انه رواسب غريزة الدفاع الحيوانية التي واجهت الخطر اما بالهرب او القتال، وهو يدفع المرء الى القيام بعمل وقائي ما، وقد يقوّي أداءه في موقف معيّن. الا انه، كالكآبة، قد يمنع من يعاني منه من تحقيق ما يريد، ويجبره على القيام بشيء آخر لا يرغب به. يشكّل القلق عنصراً اساسياً في جملة حالات مرضية تختلف ملامحها البارزة ولكن أسبابها تتشابه كعصاب القلق والمخاوف المرضية والهاجس العصابي واضطرابات الطعام. عصاب القلق: يصعب رسم خط ينتهي عنده القلق الطبيعي ليبدأ ذلك المرضي. ولا يمكن التمييز بين الاثنين الا من التأثير الذي يحدثانه على حياة المرء. وتتفق معظم الاحصاءات في بريطانيا على ان أربعة في المئة من السكان يعانون من هذا العصاب الذي قد يبدأ في أي وقت ولكنه يظهر غالباً في سن البلوغ. القلق هو اسم آخر للخوف. فقد يخاف الشخص شيئاً محدداً كالمرض أو الامتحان ولكن كثيراً ما يكون هناك أكثر من سبب للخوف الذي يعظّم الأمور الى درجة نسمع معها رنين الهاتف كأنه جرس انذار، أو ننظر الى أعمالنا اليومية كأنها واجبات هائلة، أو نرى في الآلام البسيطة مؤشرات الى امراض خطيرة. وللقلق وجه جسدي يبرز في التعرق وخفقان القلب وارتفاع الصدر وانخفاضه والعجز عن التنفس بعمق، الخ. نوبات القلق ولعصاب القلق نوباته التي تهاجم ضحيته في اي وقت ومكان. قد يكون الشخص في مقر العمل او وسيلة نقل عامة او زيارة اجتماعية وفجأة يبدأ قلبه بالضرب العنيف ويحس أنه على وشك الاغماء، ولا تنتهي النوبة الى بالهرب من المكان الذي حدثت فيه. وحتى اذا لم يتعرض الشخص للنوبات فانه يميل الى تفسير الاحداث الرتيبة بطريقة قلقة. ويعزو البعض هذه الحال المرضية الى الوراثة، والبعض الآخر الى حدث مؤثر في الطفولة كانفصال الوالدين، والأرجح ان الاثنين مسؤولان عنها، بالاضافة الى دور التركيب الكيماوي للدماغ: خلل في جهاز الارسال العصبي وخصوصاً "السيروتونين" تماماً كما في حال الكآبة. وتتسبب الضغوط النفسية بأمراض جمّة منها الربو والزائدة، ولكن ثمة آلاماً لا تطاق على الرغم من انها لا تجتمع في مرض محدد، كالصداع والاحساس بالضغط حول عظام الرأس وآلام الظهر والمعدة. المخاوف المرضية: يخاف الشخص شيئاً محدداً الحيّات او الخطابة مثلاً خوفاً لا يتفق مع موضوعه، وكثيراً ما يلجأ الى وسائل غير عادية ليتجنّب ما يثير خوفه. أكثر المخاوف شيوعاً الخوف من الأماكن سواء أكانت مغلقة ضيقة أم واسعة، وهو يصيب النساء أكثر من الرجال ويظهر للمرة الأولى قبل الخامسة والثلاثين. أبرز اعراضه التوتر وسرعة نبض القلب، ويواكبها الذعر والرغبة في العودة الى البيت، وتزداد الأعراض حدة في فترات القلق وقد تلزم الضحية البيت هرباً من مواجهة ما يثير خوفها وتصبح معوقة بالوهم. ويؤدي هذا غالباً الى الاصابة بالكآبة او الادمان على المهدئات والكحول، وكلاهما وسيلة شائعة لمحاربة القلق لا يدوم مفعولها طويلاً. تحسّن مع مرور الوقت وهناك الخوف المرضي الاجتماعي ويلخّصه الهرب من تحديق الآخرين والتعرض لپ"تمحيصهم" سواء كان ذلك حقيقياً أو متوهماً لارتفاع الوعي الذاتي عند الشخص. ويتجنب المصابون بهذا الخوف التجمعات العامة منذ المراهقة، وهي الفترة التي يبدأ المرء فيها بالخروج الى العالم الأوسع. وهم يبدون متحفظين ويتمسكون بالصمت في الاجتماعات خشية ان يتفوهوا بحماقات قد لا تكون كذلك في الواقع. ولكن المصاب بهذا الخوف يتحسّن مع مرور الوقت حتى من دون علاج. ومن الناس من يخاف شيئاً محدداً كالأفاعي، وهذا النوع من الخوف أسهل علاجاً من غيره. كثيرون ينفرون من رؤية عنكبوت مثلاً في غرفة النوم، وهذا أمر عادي، ولكن غير المألوف والمرضي ان يبتعد الشخص ساعات عن الغرفة ولا يدخلها الا بعد ذهاب العنكبوت. ومن المخاوف العصرية الخوف من السفر جواً، وهو مزيج من الاحساس بفقدان السيطرة عما يحدث للشخص والعجز عن فهم "الطيران" وتوقع سقوط الطائرة في أي لحظة. اما الخوف المرضي من المدرسة فلا يعني ان التلميذ كسول، ويجب البحث عن أسبابه في المدرسة العلاقة مع المعلم والتعرض للمضايقات والبيت التعلق بالأهل، الخوف من انفصال الأبوين او مرض احدهما. الهاجس العصابي: الهواجس أفعال وأفكار ثابتة لا يمكن التخلص منها مع انها تبدو غير ضرورية في أفضل الأحوال ومضحكة في أسوئها. من الهواجس البسيطة التأكد مراراً من ان باب البيت مقفل، ومن أكثرها تعقيداً الاغتسال وغسل اليدين تكراراً في اليوم الواحد. وتتعلق الهواجس بالجنس والعنف والاتساخ، وقد يخشى المصاب بها ان يطعن أطفاله فيخبئ السكاكين والآلات الحادة في البيت، ولكن نادراً ما ينفذ ما يخشاه. الغسل والاستحمام من أكثر الهواجس العصابية شيوعاً، اضافة الى التحقق مرات عدة من أمرٍ ما. ان يتحقق الشخص مرتين من أنه أطفأ جهاز التلفزيون لا يعني انه مصاب بهاجس ما، ولكن تكرار الفعل عشرات المرات برغم معرفته بأن الجهاز مطفأ يشير الى اصابته بهاجس لا يستطيع الفكاك منه. ويرتبط هذا برقم يحدّده الشخص بنفسه لأمر ما كأن يقضي أربعين دقيقة وهو يغتسل أو يتأكد من أن مفتاح الغاز مقفل ثمانين مرة. ويعدّ البعض حتى رقم محدد قبل أن ينهض من الفراش، او يؤدي طقوساً معينة على المنوال نفسه كل يوم، كأن يترك السرير من الجهة نفسها كل يوم ويفتح الباب باليد اليمنى فقط ويغتسل بعشرين رشة من الماء ثم يترك المغطس ويدوس الأرض برجله اليسرى قبل اليمنى. واذا حدث خطأ ما يعود المصاب الى سريره ويكرّر الأفعال نفسها بما فيها الاستحمام. يصاب بالهاجس العصابي شخص بالغ من كل خمس مئة، ويعيش هذا حياة معذبة وسرّية ويعتقد أنه سيجن لا محالة وانه حالة فريدة، لذلك يخجل من الحديث عن مصابه. ولكن معظم المصابين يشفون وان كانوا يتعرضون للانتكاس. ولا تعرف أسباب الاصابة بالهاجس العصابي، وقد تعود الى ميول وراثية او شخصية او انحراف الارسال من الدماغ، وهنا يلام السيروتونين مجدداً. اضطرابات الطعام: وهي تشمل الانوركسيا، أي قلة الشهية المرضية تبدأ احياناً في العاشرة عند بعض الفتيات والبوليميا أي الشره المرضي، وكلاهما يتعلق بالوزن والطعام والشكل. وزن المصاب بالأنوركسيا ينخفض الى درجة مذهلة، اما وزن المصاب بالبوليميا فقد يكون عادياً او مرتفعاً او حتى منخفضاً. وبينما يهتم الأول بوزنه فقط يشكل هذا جزءاً من مشكلة الثاني الذي يحار دائماً في ما سيأكل وكيف يبدو. وغالباً ما يعاني الشخص نفسه من المشكلتين فيشكو من قلة الشهية في مرحلة المراهقة ثم يصاب بالشره في العشرينات من عمره. لنأخذ مثلاً امرأة يجب ان يكون وزنها ستين كيلوغراماً قياساً الى طولها لكنها تزن فقط أربعين كيلوغراماً وتحس انها بدينة وقد لا تتوقف عن محاولة خفض وزنها على الرغم من هزالها المخيف. هنا تتوقف الهورمونات التي تنظم الدورة الشهرية عن العمل فيتوقف الحيض الرجل الهزيل جداً يصاب بالعجز، وتختفي الملامح المميزة للجنسين فيبدو كلاهما هزيلاً أول الأمر ثم طفولي المظهر ثم مريضاً. ولا تكتفي المصابة بقلة الشهية باتباع الحمية وحساب السعرات الحرارية التي تدخلها جسمها، بل تمارس التمارين الرياضية وتجبر نفسها على التقيؤ وتتناول احياناً مئة حبة مسهّل في النهار الواحد للتخلص مما أكلته، وقد تستهلك ايضاً حبوب خفض الوزن التي تجعلها تشعر بالشبع لكي لا تأكل. ولأنها تعيش في حال جوع مستمر يطلب جسدها الغذاء ولا سيما منه النشويات من حين الى آخر. ويبدو ذلك لدى البعض ردة فعل طبيعية على الحرمان و"شهوة" نفسية لدى البعض الآخر، ويصبح في الحالين مزيجاً من قلة الشهية والشره مع غلبة الاخير. هذا الهجوم على الطعام تشحذه عاطفة ما كالشعور بالتعاسة او الوحدة او الغضب، وقد تبعث عليه رؤية صنف معين من الطعام او تذوق لقمة منه. وتأكل المرأة بنهم لا تستطيع ضبطه اذ تجد نفسها منساقة الى ما تحتقره، اي الخضوع للحاجة الى الأكل، ويتزود جسدها بكمية كبيرة من السعرات الحرارية، فغالباً ما تنصب الرغبة على النشويات من خبز وبسكوت وشوكولا ورقائق البطاطا. ويلي ذلك شعور كبير بالذنب واحتقار الذات اضافة الى التقيؤ. ويلخّص نمط الأكل في الشره العصابي بدائرة مفرغة من الشراهة والتقيؤ، ولكن القاسم المشترك بينه وبين قلة الشهية المرضية هي شعور المرء بأنه بدين ولو كان وزنه منخفضاً. وتواظب المصابة بالشره العصابي على عد السعرات الحرارية في الطعام الذي تتناوله، وقد تمتد الهواجس الى مجالات أخرى في حياتها فتهجم على الكحول من وقت الى آخر وتستهلك كمية كبيرة منها أو تسرق الاطعمة من المحلات او تحاول الانتحار. وكلا الشره وضعف الشهية العصابيين خطر، لأن التجويع يؤدي الى سوء التغذية والأمراض، أو التقيؤ واستهلاك المسهلات فيجرّدان الجسم من البوتاسيوم الضروري للحفاظ على توازن نبض القلب. وكثير من المصابين بالشره يموتون فجأة بعد توقف قلبهم عن الخفقان للسبب المذكور. الأسباب ما هي أسباب الأنوركسيا؟ يشير بعضهم الى تشجيع حضارتنا على نحول الجسم، ويذكر آخرون ان الانشقاق العائلي يدفع احد الأولاد الى خفض وزنه لاسترجاع شكله الطفولي واستعادة الأيام الخوالي الجميلة. وقد تعود الرغبة بالشكل الطفولي الى الخوف من مسؤوليات البلوغ الاجتماعية والجنسية، وتلي في بعض الحالات التعرض للتعذيب الجنسي. ويرى البعض أن ضعف الشهية يعبّر عن علاقة الامومة - البنوة، وان رفض تناول الطعام تعبير رمزي عن رفض الرضاعة. البوليميا ترتبط بالرغبة في الكمال، فشكل الجسد يعبّر عن صورة الذات وكراهيتها تؤدي الى كره الجسد نفسه. محبو الكمال يفكرون دائماً في اطار الشيء ونقيضه: أسود أو أبيض، كامل أو مثير للاشمئزاز، مثالي الشكل أو بدين بشكل مشين، التجويع او الاقبال بشراهة على الطعام. ربما كان أهم عنصر في علاج القلق التحدث عما يقلق من يعاني منه واستشارة اخصائي لمعرفة الحلول العملية. وتستند هذه الى علاج سلوكي يشمل الاسترخاء في اشراف ممرضات مدربات وسماع الموسيقى ورؤية مناظر ريفية، والتعرض التدريجي للمواقف التي تثير قلق المصاب مع زيادة حدة الموقف تدريجاً لكي يعتادها ويخف قلقه حيالها، وخفض عدد المرات التي يقوم فيها الشخص بالسلوك الاجباري، كالطلب منه ان يغسل يديه عشرين مرة بدلاً من ثلاثين ثم خمس عشرة مرة وهكذا. لكن الهاجس العصابي قليل التأثر بالعلاج، لذا جربت معه طرق يائسة عدة، وآخر ما توصل اليه طب النفس الجراحي هو قص جزء صغير من الدماغ يعتقد انه المسؤول عن القلق. ولكن هذه الجراحة نادرة ولا يلجأ اليها الا في الحالات الخطيرة من الهاجس العصابي وبعد الحصول على موافقة المريض التامة.