"لا تزر غدراس"، قالها صديق، "فالطريق إليها وعرة وساكنها في شبه اقامة جبرية. ومن يدري فقد تصبح متهماً بعد الزيارة، اذ ليس المطلوب ان تزور انت غدراس، بل المطلوب ان يخرج مَن في غدراس من لبنان". "لن يغادر لبنان"، قالها آخر مطّلع اعتزل العمل السياسي والحزبي مستعيضاً عنه بالعمل الاجتماعي. "واذا شئت ان تزور غدراس فأهلاً وسهلاً بك، لكن "الحكيم" يرفض الحديث الى الصحافة في هذه الأيام. غدراس قرية كسروانية صغيرة تربض على تلة فوق كازينو المعاملتين الشهير قرب جونية. اختارها الدكتور سمير جعجع قائد "القوات اللبنانية" سابقاً، او الرئيس السابق ل "حزب القوات اللبنانية" المنحل، مقراً له. وقد تحوّلت منذ اقل من شهر جبهة عسكرية وسياسية مفتوحة على كل الاحتمالات. تطوّع "المطّلع" لايصالي، على مسؤوليتي، الى مقر جعجع. وما ان بدأنا نتسلّق تلال كسروان المزروعة بالفيلات الفخمة حتى أوقف سيارته وفتح صندوقها ليتأكد من عدم وجود أي شيء مشبوه فيه. فهو عاش الحرب كلها هنا ويعرف بعض الاحتياطات. اذ بعد قليل سيخضع للتفتيش على أكثر من حاجز للجيش. "ومن يدري، ربما دسّ احدهم في الليل شيئاً ممنوعاً في السيارة. وفهمك كفاية". "هويات. اوراق السيارة. من أين انتم والى أين ذاهبون؟" سأل جندي عند أحد الحواجز. "الى فوق"، ردّ الصديق. "افتح الصندوق"، أمر الجندي، بينما كان جندي آخر ينهمك بتسجيل اسمينا نقلاً عن بطاقتي الهوية، ورقم السيارة، وساعة المرور، ثم يلتفت ويسأل: "وماذا تعملون انتم؟" ردّ الصديق: "في مؤسسات اجتماعية وانسانية". حاجز ثانٍ، ثم ثالث. عربات مدرّعة وآليات عسكرية وفوهات مصوّبة، كأنها خطوط تماس اخرى. ثم حاجز أخير، ليستدرك الصديق: "انهم حرس الحكيم". لم يختر سمير جعجع هذا المكان مصادفة، فابن بلدة بشري حيث نشأ وترعرع جبران خليل جبران اختار قبل غدراس بلدة القطارة في جرود بلاد جبيل يوم استحالت عليه بشري ووادي قنوبين. وبين بشري والقطارة وغدراس قاسم مشترك تاريخي أكثر مما هو جغرافي. هادىء ونحيل على عتبة المبنى المتواضع جداً يلتفت الصديق نحو التلة التي تشرف على المكان ويقول: "الحكيم محاصر من كل الجهات. لقد استقدموا قبل ايام 100 مغوار من الجيش تمركزوا على قمة التلة". وسط هذا الجو بدا جعجع هادئاً أكثر من اللازم ولكن مع نحول واضح. كتب دينية وفلسفية وسياسية غير مرتبة على طاولة كبيرة. انها قاعة للقراءة اكثر منها للاستقبال. لا مظاهر رخاء او بذخ. لا سجائر. النوافذ مقفلة على العالم الخارجي بمستوعبات حديدية. "لست في وارد اعطاء اي حديث صحافي في هذه المرحلة. الوضع دقيق والشرق الاوسط على ابواب لحظات تاريخية. والحكمة ضرورية حالياً، لذلك لن اتحدث في السياسة". قال جعجع لكنك في قلب المعركة، ويقال ان الهدف من كل ذلك هو ارغامك على مغادرة البلاد. يصمت قبل ان يجيب: "لنتحدث في مواضيع اخرى. انا باقٍ هنا. أهلاً وسهلاً بكم، تستطيعون زيارتي متى تشاؤون". قد لا نستطيع زيارتك، فالرجل الثاني في "القوات" فؤاد مالك معتقل. - فؤاد بريء. لماذا التحدث في هذه المواضيع. القضية في يد القضاء ونحن في انتظار حكم المحكمة، فهو الذي يبرىء او يدين. القرار الظني قد يصدر غداً او بعد اسبوع. لكننا ننتظر المحاكمة، وآمل الا يطول الأمر". المفاوضات ويسأل جعجع: "هل من اخبار جديدة عن استئناف المفاوضات العربية - الاسرائىلية؟" كأنما يربط بين انتكاسة الوضع اللبناني وهذه المفاوضات، من دون ان يذهب بعيداً في التفسير. طريق العودة من غدراس "وعرة" ايضاً. والجنود الذين استوقفونا في الذهاب يستوقفوننا في الاياب ويقارنون الاسماء للتحقق من الوقت الذي امضيناه "فوق". ومع عبور آخر حاجز، على بعد مئات الامتار من مقر جعجع، يقول لك الصديق: "هنا بيت كريم". ليزداد المشهد السياسي اللبناني سوريالية وغموضاً، ذلك ان المحامي كريم بقرادوني، المقيم هنا قرب جعجع، هو أبعد الناس عنه بعدما كان أقربهم. لكن لذلك قصة اخرى اصبحت من التاريخ، فيما الحاجز الطاغي هو لغز متفجرة كنيسة سيدة النجاة. يتطوّع "قواتي" سابق اضطلع بمسؤوليات قيادية قبل حلّ الحزب ليفك، حسب قوله، لغز المتفجرة. وهو قبل ان يدخل صلب الموضوع يسألك: "هل سألت عامة الناس؟ هل سألت بالتحديد أخصامنا العونيين والكتلويين رأيهم في متفجرة الكنيسة؟" وعندما يدرك انك فهمت قصده وهو الإشارة الى "الشكوك" الواسعة لدى الرأي العام، خصوصاً مع التأخير في صدور القرار الظني، يواصل طرح الاسئلة بدلاً من الاجوبة: "لماذا حلّت الحكومة حزب القوات اللبنانية قبل ان يقول القضاء كلمته؟ لماذا أوقفت الحكومة بثّ نشرات الاخبار في الاذاعات والتلفزيونات الخاصة؟ لماذا صمت البطريرك الماروني نصر الله صفير فترة حوالي اسبوعين بعد انفجار الكنيسة ثم استأنف انتقاده السلطة؟ لماذا ارجأ البابا يوحنا بولس الثاني زيارته للبنان؟ لماذا يريدون ترحيل جعجع؟..." وعندما نقول له ان كل هذه الاسئلة - التساؤلات تلقي شكوكاً لكنها لا تبرىء "القوات" يردّ بحدّة: "ومَن اتهم القوات؟ ألم يقل المدعي العام منيف عويدات في حديث الى صحيفة محلية انه لم يثبت شيء لا ضد القوات ولا ضد فؤاد مالك، مستغرباً تصريحات وزير الدفاع محسن دلول التي اتهم بها القوات؟ صحيح ان عويدات ظهر طويلاً في اليوم التالي على شاشة تلفزيون الدولة ليوضح ما جاء في حديثه - القنبلة، لكنه مع ذلك لم يدن "القوات" ولا فؤاد مالك. كل ما قاله ان المتهمين ليسوا مدانين وليسوا ابرياء قبل صدور الحكم، مع ان ألف باء القانون هو أن كل متهم بريء حتى يدان. ثم لماذا امتنع القاضي عويدات عن إحالة الصحيفة التي نشرت حديثه على القضاء بتهمة الكذب او بتهمة تحريف كلامه؟" ويمضي "القواتي" السابق قائلاً: "صباح يوم 23 آذار مارس الماضي، اي في اليوم نفسه الذي اصدرت الحكومة قراراً بحلّ "القوات" زار صحافي معروف الدكتور جعجع وقال له إن أحد كبار المسؤولين المطّلعين على التحقيق في متفجرة الكنيسة قال امامه انه اصبح ثابتاً عدم علاقة "القوات" بالمتفجرة وستشهد الازمة انفراجاً اذ سيُترك للقضاء مهمة تحديد الجهة الفاعلة. وما نقله الصحافي كان أحد المحامين نقله عن قاضٍ كبير مساء 12 آذار، الامر الذي أشاع ارتياحاً في غدراس. وما هي الا بضع ساعات حتى كان تلفزيون لبنان الرسمي يبث بياناً، مع اذاعة خاصة، قيل انه صادر عن قاضي التحقيق يسمي متهمين بالمتفجرة ويقول انهم ينتمون الى جهاز أمن "القوات". وبعد نصف ساعة كانت الحواجز العسكرية تنتشر على كل الطرق الممتدة من بيروت الى جبيل. الثالثة والنصف تنتشر وحدات عسكرية اضافية في محيط غدراس بشكل قتالي. الرابعة والنصف خبر اذاعي عاجل عن القبض على فؤاد مالك. وفي المساء صدور قرار عن مجلس الوزراء بحل حزب "القوات"، ليصل بعدها صديق لجعجع ناقلاً رسالة من أحد كبار المسؤولين يقترح فيها على قائد "القوات" تأمين وصوله الى المطار والسفر الى الخارج من دون ان يتعرّض له احد "وهذا كل ما استطيع ان افعله" يقول المسؤول في رسالته". نصائح ومنطق آخر ويروح "القواتي" يتذكر تلك اللحظات في مجلس "الحكيم". قال: "انهالت النصائح على سمير من جديد. كلها تدعوه الى السفر واتخاذ قرار سريع بذلك. وكان يصغي من دون ان يجيب. بعد منتصف الليل وصل صديق آخر يحمل رسالة اخرى من مسؤول كبير آخر يقول فيها "السفر الآن افضل منه بعد اليوم لأنه سيصبح متعذراً". لكن جعجع كان له منطق آخر، قال "القواتي" الذي رافق كل عهود الميليشيا المسيحية منذ بشير الجميل وحتى الآن، "فهو اعتبر ان سفره اتهام له. ومع انه كان مدركاً مخاطر بقائه في لبنان، الا انه فضّل غدراس على باريس او غيرها، متّعظاً بالذين سبقوه الى المنفى". ويصرّ محدثنا على العودة الى قضية المتفجرة فيقول ان في اتهام "القوات" من "الثغرات" ما هو أكثر من الشكوك التي يتحدث عنها الرأي العام، خصوصاً اتهام الغائبين في استراليا وكندا، فهؤلاء "سيقدمون قريباً جداً وثائق رسمية تثبت عدم مغادرتهم البلدان التي يقيمون فيها، فمن سيصدّق الرأي العام، الوثائق الاسترالية والكندية ام الوثائق اللبنانية؟" ويتذكر السياسي الستيني "ثغرة" اخرى فيتساءل: "المعروف ان صحيفة محلية نشرت صورة عن نشرة حزبية كتائبية تتضمن قرار تعيين المتهم جرجس توفيق الخوري مسؤولاً عن الطلاب في اقليم صور الكتائبي. وتعيين والده الجندي السابق توفيق الخوري رئيساً لمكتب الحشد في الاقليم نفسه. ويحمل القرار تاريخ 24 كانون الثاني يناير 1994، فلماذا لا يقال ان المتهم كتائبي بدلاً من القول انه عضو في القوات؟ ولماذا لا يذهب التحقيق في هذا الاتجاه ايضاً؟ انا لا اقول ان حزب الكتائب متهم بل لأدلل الى الانحياز". ويصمت محدثنا بعد ان يقول: "الناس تعرف كل شيء، لكن المشكلة هي اخراس الاذاعات الخاصة. ثم هناك الخوف". الخوف ممن؟ لا يرد، مغيراً اتجاه الحديث: "وما اخبار اعمار الوسط التجاري؟"