اقترحت "الوسط" على مجموعة من الادباء والاديبات العرب، من مختلف الاجيال والاقطار والحساسيات الفنية، أن يفتحوا لقرائها غرفهم السرية، متجهين من على صفحاتها الى مبدع عربي أو عالمي كبير، يدينون له بالشرارة الاولى التي فتحت أمامهم دروب الكتابة. وبعد رسائل نجيب محفوظ الى المنفلوطي، جمال الغيطاني الى بن أياس، إميلي نصرالله الى جبران، محمد بنيس الى الكنوني وعباس بيضون الى يانيس ريتسوس، ننشر في هذه الحلقة الثانية والاخيرة مساهمات إدوار الخراط، غادة السمان، الفريد فرج، يوسف القعيد وعلي اللواتي متقدمين بالشكر الى هؤلاء الكتاب والكاتبات الذين قبلوا أن يتجاوبوا مع هذه "اللعبة" الادبية، التي تسلط بعض الأضواء على تجربة كل منهم. أليس الادب في أساسه لعبة قائمة على الخيال وعلى استعادة أطياف الذاكرة؟؟ إدوار الخراط الى سلامة موسى : محراث العقلانية والتسامح أستاذي سلامة موسى، هل كنت انت لتوافق على أن كتاباً واحداً أو مفكراً واحداً باستطاعته تغيير حياتك، أنت من علمنا - من جملة ما علمت - أن الذين أسهموا في تكوين وعيك كثر: من روسو الى غاندي، من تولستوي الى بريستد، ومن الجاحظ الى فرويد...؟ وأناپبدوري، كم من الكتاب والمفكرين والشعراء والروائيين تركوا بصماتهم عليّ ولعبوا دوراً ما في تغيير حياتي. أجد نفسي عاجزاً اليوم عن حصرهم، عن تبين الضفائر التي جدلوها فكونت - من بين أشياء كثيرة - نسيج حياتي الفكرية والادبية. ولكنني أذكر بقوة، الفرحة والدهشة وروعة الاكتشاف التي عرفتها عندما قرأت كتبك، وأنا صبي في الرابعة عشرة من العمر: "مصر أصل الحضارة"، "نظرية التطور وأصل الانسان"، "الاشتراكية"... ومقالاتك في "المجلة الجديدة" و"الهلال" التي كنت أشتري أو أكتري أعدادها القديمة من بائع يفرش بضاعته على الارض في شارع صلاح الدين، تحت مبنى شركة "ليبون" في الاسكندرية. أذكر روعة اكتشاف قوة العقل وسطوة اللاوعي معاً، وتأكيد كرامة الشك في مقابل ذلك الاذعان أمام العقائدية الجامدة المتحجرة. كان ذلك ما تفتح وعيي عليه بفعل كتاباتك، وما دفعني بعد ذلك الى ارتياد اصقاع الفكر وخوض غمار الاسئلة دون وجل. أعرف أن البلاغة العصرية عندك، هي الدقة حتى درجة التعرية الكاملة، والضبط حتى درجة اللغة التلغرافية. أما عندي فقد كانت دائماً نزعة وحشية وشاعرية، تأبى النسك اللغوي وتجنح نحو البذخ. ولكنني تغيرت، لأنني طرحت جانباً ونهائياً بفعل دعواك كل القوالب الانشائية والصيغ الجاهزة المكرسة. وعرفت - كما كانت طاقة كامنة في دخيلتي تعرف دائماً وإن كانت غير مفصح عنها - أن اللغة هي بعد آخر من أبعاد الروح، بل من أبضاع الجسد وأن جدتها هي نفسها حيويتها، وبلاغتها العصرية بل المستقبلية. وهكذا مهدت أنت تربة روحي في فجر الصبا الباكر. وكان الزلزال الذي ابتعثته أنت من أغوارها، أول الزلازل التي عصفت بأبنية أقامتها نزعة عقائدية مكرسة، جاهزة. صحيح أن زلازل أخرى كثيرة أعقبت ذلك، منها كشوف الرواية الروسية والرومنطيقية الانكليزية والسريالية الفرنسية وفتوحات الافكار المتحررة التي تغازل الفوضوية، عواصف الحب والحبوط وأمجاد التحقق ولجج الكتابة التي ما أزال أغوص فيها وأطفو، وأخوض غمارها بلا مرسى. هذا صحيح. ولكنك أنت يا سيدي كنت حرثت هذه الارض بمحراث العقلانية والتسامح، والاعتزاز بكرامة كامنة في وسط أهلي وبهم، وفي وطني وبه. ألم تقل لي دون تردد إن مصر هي أصل الحضارات؟ ألم تقل لي دون تردد إن العربية لغة قادرة ومطواعة؟ فلعلك أومأت اليّ بارهاص عشقي لهذه اللغة، كما رويت أغراس عشقي لهذا الوطن. أي تغيير في حياتي اعمق، وأبكر، وأخصب من هذا الذي أذنت به؟ فيا ليتني في كل ما كتبت - وما أقلّه - أنجح في أن أجعل قارئاً واحداً فقط يرفع رأسه في كبرياء، ولو بمقدار أنملة، ليقول: ها قد عرفت، ولو قليلاً، ما معنى الحرية، والعدالة، والكرامة. يوسف القعيد الى شهرزاد : أعذب ما في الدنيا هو الحكي عزيزتي شهرزاد، لأنك سيدة الحكايات في لساننا العربي، سأتجرأ في حضرتك، وأحكي لك أيضاً عما فعلته حكاياتك بي. في أوائل الستينات، تحول أبي من التجارة الى الزراعة. ولما كنا لا نملك أرضاً، فقد استأجر أرضاً في عزبة قريبة من بلدتنا، وذهبت مع أبي الى هناك، الى عزبة الحاج عبدالقوي سمك. في العزبة كان ثمة مكتب مهجور، والاماكن المهجورة تثير خيالنا وتخطفنا من الاماكن الآهلة بالناس. هكذا كان موعدي مع مفاجأة العمر: مكتبة فيها أعداد من صحف قديمة، وكتب لا تُعرف عناوينها لأن التراب فوقها أشبار. انشغل والدي بعمله وكان ينتظرني وقت فراغ، فرحت أنفض تراباً عمره سنوات من فوق الكتب. وكنت تسكنين الكتاب الاول الذي وقعت بين صفحاته، أي أنني وقعت في دائرة فتنتك منذ اللحظة الاولى. كان الكتاب هو الجزء الاول من الليالي، الذي طبعته "دار الهلال" في سلسلة "كتاب الهلال". التقيت بك في كتاب لم تكن له صفحة أولى ولن تكون له صفحة أخيرة ابداً. خرجت من دنيا الواقع المحددة، التي كنت أعيش فيها كالاسير أو الرهينة، ولم أعد من يومها حتى الآن ولا أرغب في هذه العودة ولا أحبها. لو رسمتُ لك صورة، سيكون لسانك أكبر ما فيها. وان جلست اليك، ستكون أذني أهم ما في ملامحي، لأنني منذ ذلك اليوم البعيد تعلمت بين يديك أن أعذب ما في الدنيا هو الحكي، وأنه الموهبة التي تسبق أي موهبة أخرى لمن يريد أن يكون كاتباً. قصصك علمتني أن أتوقف أمام أي قصة وأقول: أي قص؟ شرط القصة المتعة الصافية تلك الفرصة التي تعيد للعين بهجة القراءة. معذرة يا أميرتي لأن حكاياتنا تصل الى قرائنا - إن وصلت اليهم - عبر آلة اسمها المطبعة. وفوق شيء اسمه الورق. تعلمت بين يديك يا سيدتي، أن القصة لا بد أن يسكنها بشر من لحم ودم، يشبهون أولئك الذين نقابلهم في الحياة اليومية، علاوة على أن القصة لا بد وأن تقول لنا شيئاً يجعلنا ننطلق الى الحياة ونحن أكثر معرفة بها ووعياً بقوانينها الداخلية، أي أن القراءة هدفها تغيير من يقرأ الى الأفضل والى الأحسن. معذرة سيّدة الحكي العربي، فقد كنتِ تعرفين لمن تحكين، كان مستمعك هو جلادك، وقد اشتريت الف ليلة وليلة من عمرك بحكاياتك. كنت تعرفين الثمن، أما نحن فنحكي للمجهول، لا أحد فينا يعرف لمن يتوجه بحكاياته. نحن نحكي، ولكن الاسباب متنوعة. هناك من يحكي، لأن الحكي خلاص أخير له، وثمة من يحكي لأن الحكي فرصة للظهور أمام الآخرين، وثالث يحكي ليقول ما لا يستطيع قوله مباشرة. هل رأيت؟ كنتِ أفضل حالاً منا جميعاً. أنا نفسي لا أملك سوى الاستمرار في الحكي، لأني لا أعرف وسيلة أخرى أعبّر بها عن عصري، وعن زماني، سوى هذا الشيء المدهش الذي اسمه "الحكي". والحكي بالنسبة اليّ يا سيدتي متعتان: متعة عندما أقوله، ومتعة عندما أقرأه أو أستمع اليه. علي اللواتي الى إدغار آلن بو : القلق ميراثاً أوحد للحداثة عزيزي إدغار آلن بو، إليك، حيثما كنت، تحيتي ومعها صدى شوق قديم يأتيك من أول عهدي بقصصك واشعارك، إذ كنت مستلباً في ارتياد عالمك المحموم، ذات صيف، وكنت أسير من طفولة آمنة الى شباب أمسى بسببك، تسكعاً قلقاً أمام بوابة الشعر! ولْتصلكَ تحيتي فوق "جبال القمر" أو في "وادي الاشباح" هادئ القلب أخيراً، متأملاً وجه امرأة منفرجة الاسارير مطمئنة، بعد اختلاجات النزع، تلك التي ملأت بها رؤاك. لأنني أرجو فعلاً أن لا تكون عرفت موتاً شبيهاً بذاك الذي عشته وصورته في هذه الدنيا، وكان تيهاً لا يهدأ وراء جمال تكتنفه انفاس الفناء. إستوقفني آنذاك انجذابك الى المياه السفلية الهادرة التي تحمل قشرة الواقع المشققة، وتسعى فوقها رياح الاهواء والانفعالات، فخرجت من التجربة سالماً موحد الجنان، ولم يستهوِني السقوط كما استهواك في مستنقع "بيت آل أو شر". لقد أعلنت أن لا حسن سوى حسن الوجوه في نور الموت الاغبر، عندما تستعير صفاء الثلج وغيابه، فرافقت رؤى "بيرينيس" و"ليجيا" سهاد ليالي المراهق الذي كنت. ثم جاءت وجوه سمر ريانة بحب الحياة، فتنتني فأعتقتني من انخطافك المرضي الى الموت. ولكن شيئاً منك لازمني، فأجدني لا أزال أعدك في الاثيرين لدي وأدخلك في زمرة الذين أدين لهم ببعض من طلاسم الصورة التي شكلتها لنفسي عن العالم. لا أزال أراني، وقد استسلمت لغيابك الثائر، مصارعاً في محاولات طفولية، لترجمة "البئر والرقاص" وصفحات من "مغامرات غوردن بيم". ولكن الاخطر من ذلك كان سقوطي دون رجعة في فخ الشعر، والتيه أبداً وراء مزاعم الكلمات! لقد كنت قبلك أزجي الاماسي محاولاً نظماً فدللتني على الشعر، وأخذتني من جوار شهرزاد الآمن الى منفى "الليلة الثانية بعد الالف"، حيث الزمن منفلت من دورته الحكيمة، مفتوح لكل طارئ، مورث للخوف المستقر في قلب الحياة. ليس الشعر تمرين فصاحة، أو امتثالاً لشعرية متسلطة، بل طفرة وتمرد. ذاك ما أوحيت به للشعراء من بعدك، ففتحت لهم طريق المخاطرة. وكان بعض ما تعلمته منك أن القصيد خدعة "وأن قشرته غش" ومادته بطلان، وإنما الحقيقة التي لا تقوى أسمال الشعر على اخفائها هي قلق الحياة الساكن ابداً في الانسان. القلق الذي تركته ميراثاً أوحد للحداثة. وهو ما لم يفهمه آنذاك مواطنوك في أميركا المتزمتة، حيث حييت وانتهيت غريباً... لذا أعترف أنك، على نحو ما، غيرت حياتي. فانعم، عزيزي إدغار، بالراحة في حضن أمك التي افتقدتها كثيراً في الحياة الدنيا، ورسمت لها الف وجه! مع خالص الود للصديق القديم والإكبار للشاعر الملهم. غادة السمان الى سلمى رويحه : هدية سرية لجرحك عزيزتي سلمى رويحه، لقد سطرت لك آلاف الرسائل على صفحة العتمة، وسطور السقف في ليالي الأرق. ولكنها المرة الاولى التي أكتب لك فيها علناً، وأبوح بسري معك. فشهوة الحقيقة أقوى الشهوات لدى الكاتب. صلتي معك غريبة. فأنت الكاتبة المبدعة التي غيرت حياتي وسطورك كانت ملهمتي الاولى. ولكن حضورك الأدبي الطاغي المهيمن لم يبدأ في عمري الا بعد غيابك عني. ما أكثر الذين لم يسمعوا باسمك قبل اليوم، لكنك كنت ذات يوم - خلال حياتك - ملء السمع في سورية كأديبة. ويوم وفاتك في ريعان الصبا، أقيم حفل تأبيني كبير لك في مدرج جامعة دمشق، ورثاك الشعراء والخطباء بقصائد جميلة، وبينهم الشاعر الناشئ يومئذ نزار قباني وسواه. ومرّ الزمان وأهالوا عليك النسيان. أما حكايتي معك فكانت مختلفة، فقد تصادف أنك كنتِ أمي التي رحلت وأنا أصغر سناً من أن أفهم شيئاً مما يدور حولي. حين سألت أبي في ما بعد أين أنتِ، أشار الى نجمة في السماء وقال لي: هذه أمك. إنها نجمة الصبح التي تهدي البحارة والتائهين. ولكنه تستر على حقيقة عرفتها في ما بعد، وهي أنك كنت مشروع أديبة كبيرة لم يمهلها القدر. وفعل الجميع مثل أبي: احتفظوا بك سراً في صندوق محرم. وعلى الرغم من ذلك بدأت أعراض حمى الكتابة تظهر عليّ، وصرت أرتكب الابجدية سراً وأراودها عن نفسها. كان الصندوق العتيق المحرم المصدف يغريني بكسر القفل وكشف السر والاطلاع على صورك وأوراقك ومذكراتك ومخطوطاتك وكل ما أخفوه عني من أمورك... وغاراتي البريئة على الصندوق بعد سرقة مفتاحه جعلتني أتعارف واياك وأنا أتلصص عليك عبر ثقوب الزمن، وأطاردك في دهاليزه لألصق عبثاً فسيفساء لوحة حياتك الغابرة، ولأعرف الحقيقة... ولأتعرف على معالم وجهك من خلف حجابك الاسود الجميل، ولألتقي بروحك رغم الاسم المستعار الذي كنت به تكتبين. وأعترف أنني كنت أتجسس على الأدراج المغلقة كلها في بيوت الأهل والاصحاب، وكانت قراءاتي تلك أول جرس يقرع في عالمي الطفل عن الازدواجية. طالعت مذكراتك سراً، وتعلمت من عذاباتك أن على عقلي أن يسوس قلبيs لأنني مثلك جامحة العواطف. وتعلمت من روايتك غير المكتملة تقديم واجب متعة الكتابة على الواجبات النسائية كلها والاجتماعية. طالعت أوراقك سراً وذهلت بما تستطيع أن تفعله كليومترات عدة من الخط الرفيع المتعرج بحياة مخلوق آخر، وكيف يقدر نزفك الابجدي المبدع نصف الممحو على تبديل مصيري... لقد اخترقني حرفك بصدقه وحميميته، فتعلمت منه أهمية الصدق في الكتابة، حيث تتحول الكلمة الى صرخة تثقب قلب قارئها كما ثقبت حروفك قلبي. ونشأت صداقة سرية بيننا، وصار غيابك حضوراً مهيمناً. ولعل حياتي مع أم وهمية منذ طفولتي، كانت فاتحة لحياتي الحميمة مع أبطال رواياتي. وألفت صحبة الناس الوهميين الحقيقيين في آن، أكثر من كل العابرين حولي. وحين بلغت سن المراهقة، كنت أشبهك الى المدى الذي يخيف كل من عرفك. لكنني كنت أكثر قوة وشراسة، ربما بفضل والدي الذي حدس أنني أتأهب لحياة سبق وطحنَتْكِ، فأعدّني لها. ربما كنت قوية لرغبتي في الانتصار لك، كما ينتصر البطل في السينما للمظلوم وكنت مظلومة بطموحك في مجتمع نجح بمعنى ما في اسكاتك، راشياً ضميره بحفل تأبيني لائق وربما كنت قوية لأن أبي علمني تعويد النفس على مواجهة الشدائد.. من يدري؟ هل كنتُ أشبهك حقاً، أم كنت أتقمصك رويداً رويداً؟ هل كنتِ عبر حروفك تستولين على روحي، وتحلين في جسدي على الرحب والسعة، مزودة بخبرات قهرك في حياتك المريرة السابقة - غير المديدة -؟ وهل أنا حقاً غادة السمان أم أنني سلمى رويحه وقد عادت لتتابع حياتها الأدبية باسم جديد؟ وهل أنت حقاً سلمى رويحه، أم أنك أيضاً آلاف النساء العربيات الموهوبات اللواتي سحقتهن أقدارهن على طول عصور، قبل أن يبدأن بالعطاء؟ وهل أنا حقاً أنا؟... حينما كنت صغيرة، أردت أن أكون انتصارك على كل ما خذلك، وما زلت. وكل كتاب أصدره هو هدية سرية لجرحك، وكل حرف يُترجم لي الى لغة جديدة هو حياة اضافية لك في بلد لم تطأه قدماك من قبل. وما زلت أحاول - بمعنى ما - انجاز الرواية التي بدأتِ أنت بكتابتها واطلقتِ عليها اسم "الرواية المستحيلة"، ولم يمهلك الموت وقتاً كافياً لانجازها. فهل أفلح في كتابتي الثالثة لها أم أنها ستظل الرواية المستحيلة حقاً؟ ألفريد فرج الى توفيق الحكيم : أنا المريد وأنت الصديق عزيزي توفيق الحكيم، أول كتاب أدبي قرأته وأعجبت به لم يكن لك، بل كان "الايام" لطه حسين، فلما قرأت بعده "يوميات نائب في الارياف" لك وأنا في الصبا المبكر، سحرني ودفعني الى البحث عن توفيق الحكيم والى متابعته كظله: اذا كتب في "آخر ساعة" كنتُ من قراء "آخر ساعة"، وانتقل الى الكتابة في "أخبار اليوم" وأنا وراءه. قرأت مسرحيات "أهل الكهف" و"شهرزاد" و"المسرح الممنوع"، وبهرتني في الكتاب الاخير مسرحية "رصاصة في القلب". ومع أني بدأت بعدها قراءة الآداب الاجنبية، وعرفت برنارد شو وأوسكار وايلد من الانكليز في لغتهم، وعرفت موليير وهوغو وبلزاك وسارتر من الفرنسيين في لغتهم، وعرفت تشيكوف وتولستوي في اللغة الانكليزية وأحياناً في الترجمة العربية، فلم يجرِ لي ما جرى لبعض اصدقائي الشباب، حيث لم ينقص تعلقي بأدب الحكيم. وقد أعدت بعد ذلك قراءة طه حسين والعقاد والشاعر الكبير شوقي، ثم قرأت بكل عواطفي شعر علي محمود طه وابراهيم ناجي ومحمود حسن اسماعيل، ولكن ظلت مكانة الحكيم عندي كما هي. ولما دارت الايام واشتغلت في الصحافة والكتابة الادبية، ونازعتني نفسي هذا التعلق بأدب الحكيم، نقدتك نقداً لازعاً مرتين طمعاً في التخلص من تأثيرك الطاغي عليَّ، وطلباً للاستقلال عنك بمسرحي وأدبي. ومع ذلك كنتُ دائماً أكثر كتاب جيلي اقتراباً منك، واشتغالي في المسرح عرّفني أكثر بجوهر فكر وفلسفة وتقنيات توفيق الحكيم. والى ذلك كنت تريد لي دائماً أن أشعر أنك حفي بصداقتي، وأنني أقرب الكتاب المسرحيين اليك. وكنت في ذروة الحوار بيننا تتكرم علي بقولك: "أنت تكمل ما بدأته أنا، وتعوض ما أهملته أنا، بسبب ظروف المسرح البدائي الذي عاصرته في شبابي فتباعدت عنه عامداً". فكان حديثك هذا أرفع جائزة تلقيتها في حياتي. والى آخر يوم في حياتك كنتُ أتعامل معك من موقع المريد، وأنت تتعامل معي من موقع الصديق العزيز. ومن أغرب وأمتع الاوقات التي كنت أقضيها معك، تلك الاوقات التي كنا نتبادل فيها الاستفزاز، بأن أنهي اليك خبراً ثقافياً مستفزاً لأحفزك على التصرف، فتنهي اليّ خبراً ثقافياً أكثر استفزازاً. ونتصايح نحن الاثنان، الشيخ والشاب، كأننا محاميان في المحكمة ندافع عن مظلوم مجني عليه لنستفز مشاعر قاضٍ غير موجود أمامنا... أو كأننا نترافع في حضرة أجهزة تسجيل خفية نسجل فيها سخطنا أمام محكمة التاريخ، ثم يضبط كل منا الآخر وهو يصيح في غير المكان المقصود الصياح فيه، فنضحك معاً ونتبادل ما في جعبتنا من آخر النكات، أو آخر التشنيعات عمن نستثقل دمهم، أو من يحرجنا غباؤهم، ولا نستطيع أن نفصح عن رأينا فيهم، الا بين أربعة جدران صماء.