منذ أن تسلمت الحكومة السودانية الحالية السلطة في الخرطوم في 30 حزيران يونيو 1989 تحولت الحملة العسكرية على جنوب البلاد الى شبه تقليد صيفي. ولا تخرج المعارك الدائرة حالياً عن هذا الاطار. فعلى رغم رهان حكومة الخرطوم على خيار التفاوض، لم يطرأ تغيير كبير على الحملات العسكرية. واستعان الجانبان بنتائج القتال لتعزيز التفاوض، كما حصل أثناء المفاوضات في أبوجا في أيار مايو 1992 عندما كانت أخبار حملة "صيف العبور" تصل الى أروقة المفاوضات بعد أن استهلت الحملة العسكرية "انتصاراتها" باستعادة مدينة فشلا في ولاية أعالي النيل، عبر الأراضي الاثيوبية. ولعل خطورة الحملة هي في ميل كفة المعارك لمصلحة الجيش السوداني، لا سيما ان الامدادات العسكرية التي كانت تصل الى قوات العقيد جون قرنق من أوغندا لم تعد ممكنة، لأن أوغندا واحدة من دول منظمة "ايفاد" التي تضم كينياواثيوبيا واريتريا، المعنية برعاية المفاوضات بين الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان، اضافة الى ان استعادة الجيش السوداني بلدة كايا الكينية عام 1993 مكنه من كشف كل المعابر التي تستخدم لنقل الامدادات الى قوات قرنق عبر الأراضي الكينية. من هذا المنطلق اكتسبت زيارة السفير الأميركي في الخرطوم دونالد بيترسون لمواقع الحملة العسكرية في الجنوب أهمية خاصة نظراً الى أن العقيد قرنق ليس حالياً في موقع عسكري يحسد عليه. والجديد في المشهد السياسي السوداني أمران: الأول دخول "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض في "غيبوبة" بعد لقاءات في مجلس اللوردات البريطاني رعتها البارونة كوكس رئيسة "جمعية الحقوق والعدالة". والثاني، وقد يكون الأهم، الحملة المنظمة المنطلقة في نيروبي وأسمرا وأوغندا بهدف تعطيل مساعي لجنة ايفاد. تصدع المعارضة حالة الغيبوبة التي انتابت "التجمع الوطني الديموقراطي" بدت أعراضها قبل فترة غير قصيرة. وكانت "الوسط" توقعت تصدّع المعارضة السودانية بعدما عجزت عن التوصل الى موقف موحد من مسألة حق تقرير المصير لجنوب السودان ومناطقه المهمشة. ولم يكن غياب الموقف الواحد من مبدأ حق تقرير المصير السبب الوحيد لأزمة المعارضة، انما تضافرت ظروف موضوعية مع الظروف الذاتية عندما أعلن بونا ملوال، عضو لجنة التنسيق العليا ووزير الاعلام السوداني السابق في عهد الرئيس جعفر نميري، في مجلس اللوردات انها ماتت موتاً طبيعياً بصورة مفاجئة أذهلت زملاءه داخل "التجمع". ولم تكن عملية الفرز القسري الى شمال وجنوب داخل المعارضة نتيجة فشلها في اتخاذ موقف موحد من مبدأ حق تقرير المصير فحسب، بل محصلة اجتماع مهم شهدته القاعة "دبليو 2" في مجلس العموم البريطاني، قبل 24 ساعة من لقاء أحزاب المعارضة في مجلس اللوردات. اجتماع مجلس العموم البريطاني دعت اليه جمعية "النور والأمل" السودانية التي يرأسها الدكتور ناجي فهمي والأسقف ديك رودجرز بمعاونة البارونة كوكس والأسقف ليتشفيلد والنائب البريطاني طوني وورثنغتون. ولوحظ ان الجمعية دعت فصيلي الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق ورياك مشار من دون بقية فصائل المعارضة، كما لوحظ ان مستوى التمثيل البريطاني الرسمي كان أرفع في لقاء جمعية "النور والأمل" منه في الذي رعته البارونة كوكس وتركزت لقاءات وفدي الحركة الشعبية على التعريف بأهداف كل فصيل وتعزيز الثقة. عندما أعلن ملوال "موت التجمع" كان جنوب السودان ينضوي في جبهة واحدة تشمل فصيلي الحركة الشعبية وحزب المؤتمر السوداني الافريقي وكل القيادات الجنوبية المستقلة، بمن فيهم آلدو آجو، نائب المجلس الوطني الانتقالي، الذي انشق حديثاً عن الحكومة السودانية وطلب اللجوء السياسي في بريطانيا. وبدا ان لقاء مجلس اللوردات استكمل ما بدأه لقاء واشنطن لجهة توحيد كلمة الحركة والجيش الشعبيين حول مطلب حق تقرير المصير للجنوب ومناطقه المهمشة. كما بدا ان توحيد الجنوب في جبهة واحدة كان أبرز نتائج لقاءات لندن. وإذا كان موقف ملوال أحدث "زلزالاً" داخل المعارضة، فإن التساؤلات تتزايد عن مصير "التجمع"، لا سيما ان انشغال العقيد قرنق بمتابعة سير المعارك في الجنوب زاد بلبلة المعارضة. فهل قرر قرنق التخلي عن عضوية حركته داخل "التجمع"؟ وهل ان موقف ملوال، الذي تلا كلمة الحركة في لقاء لندن، ملزم لقرنق؟ وما مصير "التجمع"، وهل سيتحول الى تكتل يقتصر على الأحزاب الشمالية؟ وكيف ستتعاطى العواصم الغربية والعربية المناوئة للحكومة السودانية مع التجمع الوطني في حلته الجديدة؟ انفصالات افريقية حين عهدت الادارة الأميركية الى دول مجموعة "ايفاد" متابعة الملف السوداني ووضعه على سكة الحل السلمي، اعتبر كثيرون ان هذه المهمة هي بمثابة "الهدية المسمومة" بعد أن مهدت إدارة كلينتون لطلبها بالاعتراف للجنوب ومناطقه المهمشة بحق تقرير المصير، أي بكلام آخر حق الانفصال. وإذا كانت لقاءات لندن عززت مضامين اعلان واشنطن ووحدت الجنوبيين في جبهة واحدة، فإن دول منظمة "ايفاد" أصبحت أمام معضلة حقيقية ستؤدي الى ارتفاع نبرة المطالبين بالانفصال في بلدانها، فلكل من كينياوأوغندا وأريتريا وأثيوبيا قضايا ساخنة مشابهة للمأزق الذي يواجهه السودان في أقاليمه الجنوبية، وان يكن اشتعال النزاعات الداخلية في دول "ايفاد" مؤجلاً حالياً. فالاقليم الشمالي في كينيا، ويعرف تاريخياً باسم الصومال الكيني، كان جزءاً من الصومال وغالبية سكانه من المسلمين تتحدث اللغة الصومالية لهجة من لهجات اللغة السواحلية. وهو يعاني تاريخياً من مظالم شتى أبرزها عدم تمثيله في المؤسسات الدستورية على رغم عدد سكانه البالغ قرابة ثلاثة ملايين نسمة. وكانت بريطانيا منحت هذا الاقليم الى كينيا عندما انسحبت منها. ويذكر التاريخ الوسيط لمنطقة القرن الافريقي ان سجالاً ديبلوماسياً ساخناً نشب بين الصومالوكينيا على هذا الاقليم الذي يطالب سكانه بالحكم الذاتي أو الانفصال اذ لم تحسم قضية عودته الى الصومال. لذا فإن التعاطي الكيني مع مطالب السودانيين الجنوبيين الذين انضووا في جبهة واحدة تطالب بحق تقرير المصير هو بمثابة قنبلة موقوتة لا تعرف نيروبي كيف ستتعاطى معها. دولة العفر ومشاكل الدولة الفتية في اريتريا لا تقل خطورة عن مشاكل زميلاتها في منظمة "ايفاد". فقبائل العفر في غرب دولة اريتريا بدأت تحركاتها تقلق حكومة اساياس افورقي ولدى قبائل العفر في كل من اريتريا واثيوبيا وجيبوتي طموحات معلنة باقامة دولة العفر الكبرى عبر اقتطاع المناطق التي يعيشون فيها في اثيوبيا واريتريا وجيبوتي. وأثناء انعقاد المؤتمر العام للجبهة الشعبية لتحرير اريتريا الحاكمة في أسمرا قبل ثلاثة أسابيع تلقى المؤتمرون بدهشة بالغة برقية جريئة بعث بها عقلاء قبيلة بني عامر، وهي عربية الأصول، يطالبون رئيس الحكومة أفورقي بإعادة الاعتبار الى اللغة العربية وتدريسها في المدارس الرسمية وعدم منع الدعاة المسلمين من القيام بواجباتهم في الدولة الفتية. كما بعث عقلاء قبائل الرشايدة ببرقيات مماثلة. ولوحظ ان القبائل ذات الأصول العربية أبدت استياء من تفرد "الجبهة الشعبية" بالسلطة بعد أن قاتلت نظام منغستو هيلا مريام طويلاً في أديس أبابا بحجة أنه أقام نظاماً توتاليتارياً واضطهد المسلمين ذوي الأصول العربية واستبعدهم عن السلطة. وبتأثير من التجربة الاسلامية التي تطبقها الحكومة السودانية، قد يتطور استياء القبائل العربية المسلمة في اريتريا فيتحول الى المطالبة بإقامة كيان منفصل لن يكون باستطاعة أفورقي احتواء تداعياته بسهولة إذا ما تعاطف مع مطلب السودانيين الجنوبيين المصرين على الاعتراف لهم بحق تقرير المصير. مشاكل أثيوبيا مع تجمعاتها العرقية دخلت مرحلة جديدة بعد سقوط نظام هيلا مريام في أيار مايو 1991 ووصول ملس زيناوي المنتمي الى قبائل تيغراي، الى السلطة. فالتيغراي ليسوا أكبر كيان قبلي في الامبراطورية العجوز، اذ يبلغ عدد قبائل الارومو قرابة 40 مليون نسمة يعانون من الاضطهاد التاريخي. وحديثاً مع هبوب رياح الديموقراطية أصيبت قيادات الارومو بهوس المطالبة باقامة دولة اروميا الكبرى، على غرار دولة العفر الكبرى. إلا أن سقوط نظام هيلا مريام لم يكن نهاية المطاف في حلم قومية الامهرة في اقامة دولتهم الكبرى التي ذاق قادتها متعة الحكم الامبراطوري مع الامبراطور هيلا سيلاسي. فالرئيس الاثيوبي السابق يتابع من منفاه في زيمبابوي حلمه المؤجل في العودة الى الوطن عبر التماهي مع مطالب الأمهرة القديمة المتجددة في أديس أبابا. وحملة الاعتقالات التي نفذتها حكومة زيناوي في مطلع العام الحالي بحق مجموعة من قادة الأمهرة وغيرهم الذين حضروا من الخارج للمشاركة في مؤتمر للمصالحة والحوار، تكشف عن متاعب حكومة زيناوي مع ذوي الأحلام المتجددة. وتعاطف زيناوي مع مطالب الجنوبيين في السودان سيمنح خصومه الأمهرة ورقة ضغط سياسي ضده. كذلك دعاة دولة اروميا الكبرى. أوغندا قد تكون، ظاهرياً، أكثر دول منظومة "ايفاد" استقراراً، غير أن قبائل الاشولي في شمال البلاد تشكو مظالم بحقها، وقد تكون في مستهل صياغة أوراقها السياسية تمهيداً للمطالبة بكيان منفصل يرضي طموحاتها. وجاءت استعانة الرئيس الأوغندي موسوفيني بميليشيات من قبيلة توتسي في بورندي بعد تعبئتهم على أساس ايديولوجي اشتراكي بحت، لتزيد شكاوى قبائل الاشولي. ولم يكن ملف جنوب السودان الشائك، أول الاشكالات التي تواجهها بلدان منظمة "ايفاد"، فقد حفل مطلع العام الحالي بأكثر من حدث سياسي مثير لفت الانتباه. ففي سياق الكلمة التي وجهها رئيس وزراء اريتريا الى "الأمة" وخاطب خلالها اعضاء السلك الديبلوماسي في أسمرا أعلن ان مجموعة من المتطرفين، من بينهم مواطنون من شمال افريقيا، عبروا الحدود السودانية - الاريترية ونفذوا هجمات مسلحة على عدد من القرى الاريترية سقط من جرائها عدد من القتلى والجرحى. وبعد أسابيع قليلة نشرت صحيفة "ستاندرد" الكينية في نيروبي، 20 كانون الثاني يناير الماضي، مقالة بالغة الجرأة ذكرت فيها ان طهران تخطط بمساعدة دولة في الجوار الاقليمي، "لفتنة أهلية" في كينيا تهدف الى زعزعة الاستقرار والأمن وضرب التعايش السلمي في البلاد. وتفاعلت الأمور الى درجة حتمت على النواب المسلمين في البرلمان الكيني مساءلة الحكومة عن حيثيات هذا المقال وظروف نشره. وفي الفترة نفسها أعلنت أوغندا عن ترحيل أحد أئمة المساجد في العاصمة كمبالا لأسباب لم تعلن عنها حتى الآن. وتشكل جميع هذه العوامل سبباً كافياً كي تمارس دول ايفاد سياسة الحذر والتمهل قبل أن تمضي في متابعة المهام التي انيطت بها من قبل الادارة الأميركية. ولربما كان الارتياح الضمني هو رد الفعل الحقيقي لتعذر انعقاد قمة "ايفاد" في 20 الشهر الجاري في نيروبي. ولا شك ان حكومة الخرطوم هي أول المستفيدين من تأجيل مساعي ايفاد ومحاولة تعطيل فعاليتها اضافة الى تصدع المعارضة السودانية.