رافقت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني الى الخرطوم التي تمت يوم 10 شباط فبراير الجاري واستمرت 10 ساعات، دعوات اطلقتها قيادات سياسية سودانية معارضة لنظام الرئيس عمر حسن البشير لحدوث تدخل اجنبي في جنوب البلاد. وقد تميزت زيارة البابا للخرطوم بلقاء استمر 20 دقيقة مع البشير دعا خلاله الرئيس السوداني الى احترام حقوق الانسان في بلاده. ورد البشير مدافعاً عن حكومته قائلاً ان وضع حقوق الانسان في السودان افضل من دول اخرى. وفي الوقت نفسه اكد البشير تمسك السودان بالتوجه الاسلامي. واعترضت شخصيات سودانية على زيارة البابا هذه وقال الصادق المهدي رئيس الوزراء السوداني السابق ان هذه الزيارة "ضارة وستترك اثراً على تماسك المجتمع السوداني". زيارة البابا هذه تمت في وقت يطرح المراقبون السؤال الآتي: هل يقف السودان حالياً على مشارف تدخل اجنبي في اقاليمه الجنوبية لحماية اقلياته العرقية والمذهبية من الحرب الشعبية لتحرير السودان منذ العام 1983؟ واذا حدث تدخل اجنبي في جنوب السودان، هل يستطيع نظام الفريق عمر حسن البشير، المتحالف مع الجبهة القومية الاسلامية ان يصمد؟ هذه التساؤلات اثارتها تصريحات قيادات سياسية سودانية، شمالية وجنوبية، في الوقت الذي بدأ الفرع الاوروبي للأمم المتحدة في جنيف بحث ملف حقوق الانسان في السودان بحضور فاعل للمعارضة السودانية، ممثلة بالتجمع الوطني الديموقراطي. فهل تكون مقررات اجتماع جنيف المستند السياسي والقانوني للتدخل الخارجي الذي تطالب به علانية قيادات سياسية سودانية؟ أكد بونا ملوال، وزير الاعلام السوداني السابق في عهد الرئيس نميري والمثقف الجنوبي البارز من قبيلة "الدنكا"، ل "الوسط" ما دعا اليه في افتتاحية صحيفة "الفجر الجديد" السودانية المعارضة في عددها الاخير للشهر الجاري ومفاده: "ان قبول فكرة التدخل الاجنبي في السودان بات حتمية ضرورية لانهاء معاناة الاقليات العرقية والمذهبية وهي الاقليات المهمشة فيه" وعن نتائج قبول فكرة التدخل الاجنبي لحماية "الاقليات المهمشة"، حسب تعبيره، لجهة اطاحة نظام الفريق البشير قال بونا ملوال ل "الوسط": "بقاء النظام السوداني الحالي او سقوطه ليس هو همي بقدر ما هو معاناة هؤلاء الناس الذين يتعرضون لحروب ابادة حقيقية". وفي هذا السياق علمت "الوسط"، نقلاً عن مصادر المعارضة السودانية في لندن، ان فاروق أبو عيسى، وزير الخارجية السوداني السابق والأمين العام لاتحاد المحامين العرب عضو لجنة التنسيق العليا في التجمع الوطني السوداني المعارض، بعث برسالة الى رئيس الدورة 49 للجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة ومقرها جنيف اتهم فيها النظام السوداني بارتكاب "أكبر مذبحة ضد قبائل النوبة" جنوب غربي السودان في مطلع العام الجاري. واتهم فاروق ابو عيسى نظام الفريق عمر حسن البشير بإبادة 6 آلاف مواطن في جبال النوبة وإصابة ألفي مواطن بجروح. وادعى أبو عيسى ان النظام السوداني استعان بمرتزقة من جنوب افريقيا. ونفت مصادر سودانية رسمية هذه الانباء. وفي السياق نفسه قال بونا ملوال ل "الوسط": "ناشدت اخواني في التجمع الوطني الديموقراطي قبول فكرة الدعوة الى تدخل عسكري في السودان تحت اشراف الأممالمتحدة". وكان ملوال قال في افتتاحية "الفجر الجديد"، في عددها للشهر الجاري، "لقد استغلت جماعة وحيدة مبدأ السيادة لابادة جماعة اخرى من دون ندم، ما يجعل التدخل الخارجي الطريقة الوحيدة لانقاذ حياة الجماعات المهمشة في السودان"، وبالتالي يكون بونا ملوال اول زعيم سوداني يدعو علناً الى حل مشكلة الاقليات العرقية في السودان، ومنها قبائل الدنكا ونوير وشلك في الجنوب، عن طريق التدخل العسكري الاجنبي. وكان العقيد جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان المناهضة لنظام الفريق عمر حسن البشير طالب الأممالمتحدة، اواسط تموز يوليو الماضي باقامة ممرات آمنة في جنوب السودان لاغاثة السكان فيه من نتاج الحرب الدائرة هناك منذ العام 1983. فهل ثمة علاقة بين رسالة أبو عيسى، التي اعتمدت كمستند رسمي في وثائق الأممالمتحدة، كما علمت "الوسط"، وبين مطالبة بونا ملوال بالتدخل الاجنبي لحماية اقليات السودان المهمشة؟ وما هو موقف الاحزاب السودانية العريقة الممثلة داخل التجمع الوطني الديموقراطي، وأبرزها الاتحادي الديموقراطي بزعامة السيد محمد عثمان الميرغني، والامة بزعامة الصادق المهدي، رئيس الوزراء الذي اطاحه الفريق البشير في 30 حزيران يونيو 1989؟ ممثل الحزب الاتحادي الديموقراطي في بريطانيا سيد احمد عبدالهادي قال ل "الوسط": "ان الحزب الاتحادي الديموقراطي لم يطلب من اية قوة اجنبية دخول السودان لاطاحة النظام. نحن نتمسك بحتمية ان يتولى الشعب السوداني تغيير النظام. ونقبل المساعدة من الاخوة والاشقاء اذا كانت غير مشروطة لما هو في مصلحة السودان والمنطقة. في الصومال يختلف الامر عما هو عليه في السودان. فلو وصلت الامور في السودان، انسانياً، الى درجة من التردي مماثلة لما جرى في الصومال، فان الاتحادي الديموقراطي قد يعيد النظر في مواقفه من فكرة التدخل الاجنبي". احمد عقيل ممثل حزب الامة داخل التجمع الوطني في لندن ذكر ل "الوسط" "ان فكرة قبول التدخل الاجنبي ليست قضية سهلة. ولم تتم مناقشة المسألة داخل اطر التجمع. فالغالبية في التجمع قد تجنح الى قبول الفكرة، اذا طرحت. وأي تدخل اجنبي في الجنوب سيطيح النظام في الخرطوم". والجدير بالذكر ان زعيم حزب الامة الصادق المهدي انتقد علانية تجربة التدخل الاجنبي التي قادها حزبه انطلاقاً من ليبيا في حزيران يونيو 1976 لاطاحة نظام نميري. ويبدو الصادق المهدي، حتى الآن، ميالاً الى الاخذ بمنهج التغيير السلمي او على الطريقة الساندينية من خلال صناديق الاقتراع. وان بدا لكثير من انصاره وأصدقائه على شيء كبير من الرومانسية، بعد ان احكم السودان قبضته على مقاليد الامور. ويقول احمد عقيل ل "الوسط" ان تحويل قضية حقوق الانسان في السودان على الاممالمتحدة مسألة مهمة تؤشر على ان الرأي العام العالمي يتابع مجريات الامور في السودان. ونحن اكثر ميلاً الى التوصية بخيار العقوبات الاقتصادية وترك الشعب السوداني يغير مصيره بيده". واذا كان اقطاب التجمع الوطني الديموقراطي المعارض 11 حزباً و51 نقابة وضباط موالون لنميري في الخارج ومستقلون غير متفقين على قبول فكرة التدخل الاجنبي في السودان لاحداث التغيير المرجو فان الدول المحيطة بالسودان تبدو غير متفقة في ما بينها ايضاً على فكرة منح تسهيلات لقوة خارجية راغبة في التدخل في السودان لانقاذ "اقلياته المهمشة" كما يقول بونا ملوال، الا اذا صدر قرار صريح عن مجلس الامن ينص على ضرورة التدخل في السودان. وكانت كينيا وأوغندا صوتتا لصالح قرار ادانة السودان في الأممالمتحدة في 4 كانون الاول ديسمبر الماضي في حين امتنعت كل من مصر وأفريقيا الوسطى وأثيوبيا وتشاد، الا ان كينيا وأوغندا عمدتا الى توجيه رسائل ذات "لهجة اعتذارية" الى حكومة الفريق البشير زعمتا فيها ان ضغوطات شتى مورست عليهما كي توافقا على التنديد بالسودان وبانتهاكه حقوق الانسان. وتتخوف الدول المحيطة بالسودان من تنامي نفوذ الخرطوم لدى الجماعات الاسلامية المتطرفة في هذه الدول، على رغم قبول اوغندا التنديد بالسودان في الأممالمتحدة. فقد وصل الدكتور علي الحاج، وزير التخطيط الاقتصادي والاستثمار في السودان، الى كمبالا في الخامس من الشهر الجاري على رأس وفد حكومي للاجتماع الى ممثل عن العقيد قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، تلبية لمبادرة وساطة يقوم بها حالياً الرئيس الاوغندي يوري موسوفيني. وفي هذا السياق قال جوزف لاغو، زعيم اينانيا - واحد - التي خاضت الحرب الاهلية في جنوب السودان ضد الخرطوم منذ العام 1955 وحتى 1972، ل "الوسط": "ثبت ان الخرطوم والحركة الشعبية غير قادرتين لوحدهما على التوصل الى حل ينهي الصراع الدائر في جنوب السودان. لذا فأنا اواصل نصح الجانبين بتوخي وساطة الأممالمتحدة او منظمة الوحدة الافريقية. لقد اشارت دعوة بونا ملوال للتدخل الاجنبي في السودان الى بعض الوقائع. اما التدخل، كفكرة، فلا احب ان اتناوله علناً، سلباً او ايجاباً". وحول فكرة التدخل الخارجي قال ياسين محيسي، رئيس المنظمة السودانية لحقوق الانسان، فرع لندن، ل "الوسط": "المنظمة تضع في صدر قائمة مهامها المطالبة بعودة الوضع الديموقراطي الى السودان والسماح بكل الحريات والحقوق، ولا تقحم المنظمة نفسها في اقتراح الوسائل او السبل التي يمكن ان يتم بها ذلك".