قال اعلامي خليجي كان مضطراً للسفر مباشرة عقب انتهاء اعمال القمة الخليجية الخامسة عشرة: "ان انتظار البيان الختامي لا يحدث فرقاً كبيراً لأن بيانات القمم الخليجية منذ عام 1981 متشابهة في مضامينها وربما حتى في عباراتها والفاظها". وعلى رغم ان هذا الانطباع قد يكون فيه بعض الصحة، وأرجعه مسؤول خليجي الى "ثبات مواقف دول المجلس"، فان الواقع الذي يعرفه كثير من المراقبين المختصين في شؤون مجلس التعاون الخليجي هو ان "جديد" القمة الخليجية لا يظهر في بيانها أساساً وانما في "مؤشرات مادية" أخرى يبرزها مثلاً نمط الاتصالات الثنائية بين القادة الستة، وكذلك ترتيب أولويات القضايا المثارة داخلها والتي عادة ما تأخذ التكهنات في شأنها مساراً مناقضاً تماماً لما يحدث في أروقة القمة التي يصعب الوصول الاعلامي الحقيقي اليها. فما هو جديد القمة الپ15 للمجلس؟ هناك مستجدات ابرزتها قمة المنامة تتمثل في الآتي: - التوفيق بين أولويات مختلفة: كان لافتاً "إقرار" التصريحات الصحافية التي أدلى بها معظم قادة دول المجلس لدى وصولهم الى المنامة لحضور القمة… وكذلك البيان الاختتامي للشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين ورئيس القمة بوجود خلافات واضحة بين دول المجلس وبالحاجة الى مواجهتها وتذليلها. توازن المصالح هذه الواقعية الخليجية الجديدة وعلى هذا المستوى السياسي كانت وراء بروز نهج واضح في القمة عكسته طروحات الوفود كما عكسته أيضاً عناصر البيان الختامي وقرارات القمة، وهو التوفيق بين الأولويات السياسية المختلفة لدول المجلس وأهدافها المتباينة التي تتوخاها من القمة، الأمر الذي سمح بنوع من التوازن بين مصالح الدول الأعضاء وخروج كل منها بشعور انها حققت هدفها أو أهدافها الأساسية من القمة. وعلى سبيل المثال لا الحصر فسلطنة عمان التي باتت تعطي اهتماماً متقدماً لمواجهة التطرف الديني في الخليج نجحت في ان تحصل من القمة على اهتمام واضح بهذه القضية التي تقدمت في شأنها بورقة محددة سواء على مستوى محادثات القادة أو على مستوى البيان الختامي الذي تضمن للمرة الأولى في تاريخ قمم مجلس التعاون فقرات واضحة عن مواجهة ونبذ التطرف والغلو والتعصب الديني والسياسي. وحصلت قطر التي تدعو الى استجابة خليجية أكبر للخطوة العراقية بالاعتراف بحدود وسيادة الكويت على لهجة أقل حدة من لهجات البيانات الخليجية تجاه بغداد منذ حرب الخليج الثانية، واستخدمت عبارة "الجمهورية العراقية" بدلاً من "النظام العراقي". كما حصلت مطالبها باضافة فقرات جوهرية على الاتفاقية الأمنية الجماعية على موافقة القادة. وتلقت الامارات مساندة قوية لأولوياتها السياسية الحالية المتصلة بنزاعها مع ايران على الجزر الثلاث في الخليج، ليس في صورة تأييد تام لحقوقها وسيادتها على هذه الجزر لكنه أيضاً لتطوير مساعيها الرامية الى استعادة هذه الحقوق والسيادة بما في ذلك كما قال مصدر خليجي لپ"الوسط"، امكانية اللجوء الى الأممالمتحدة أو طلب تدخل الأمين العام للمنظمة الدولية في النزاع. وفازت المملكة العربية السعودية بتأييد هدفها الرامي لتوفير آلية سياسية لحل الخلافات الخليجية بين دول المجلس من دون تدخل خارجي وكذلك من دون تأثيرات وسائل الاعلام، اذ بني البيان الختامي وقرارات القمة أساساً على مقترحات ذات ثلاثة توجهات سياسية واقتصادية وعسكرية وردت في تقرير قدمه الملك فهد للقمة. - تحسين الأجواء المتوترة بين بعض الدول: ليس جديداً ان القمة الخليجية انعقدت في ظل احتقان الأجواء بين بعض دول المجلس لأسباب حدودية أو سياسية، وليس سراً القول ان اليوم الأول للقمة والجلسة الافتتاحية لها عكست هذا الاحتقان بصورة لاحظها المراقبون. ولكن كان واضحاً منذ اليوم الثاني الذي شهد لقاءات ثنائية بين جميع القادة في مقار اقامتهم حدوث انفراج ملحوظ وبروز تحسن ملموس في المناخ السياسي للقمة ظهر جلياً في حفل العشاء الرسمي الذي اقامه أمير البحرين للقادة وأعضاء الوفود. تبديد الغيوم وقال مصدر خليجي لپ"الوسط" انه من الخطأ تماماً القول ان الخلافات الحدودية بين قطروالبحرين أو قطر والسعودية تم حلها في القمة أو حتى تضييق الهوة بخصوصها، ولكن القمة نجحت في تبديد جزء مهم من السحب والغيوم التي لبدت العلاقات بين بعض دول المجلس قبل القمة وأدت الى انسحاب قطر من بعض اجتماعاتها، وأصبح تناول الخلافات الآن في جو معتدل ومنفتح - وهو أمر لا غنى عنه لتقدم أي محادثات أو مفاوضات - متاحاً للدول الخليجية. ولاحظ المصدر في هذا الصدد كيف قبلت هذه الدول المقترح السعودي بضرورة حل النزاعات الثنائية العالقة بين دول المجلس خلال عام واحد في اطار المجلس نفسه على رغم ان بعض هذه النزاعات، كالنزاع البحريني - القطري، معروض بالفعل على محكمة العدل الدولية، وكانت هناك توقعات بقرب حسمه في اطار هذا المسار الدولي. ولكن يبقى ان استمرار هذا المناخ السياسي المحسن الذي أضفته القمة على العلاقات الخليجية سيتوقف على المدى الذي يستطيع فيه المجلس الوزاري وأجهزة المجلس الأخرى ايجاد "آلية عملية" لحل النزاعات بصورة تتضمن عناصر الحياد والنزاهة من ناحية وتتمتع بسلطة الحسم والفصل في النزاعات من ناحية اخرى. - انتقال التركيز الى قضايا الأمن الذاتي: نموذج آخر على حدوث مستجدات في القمة لا يعكسها بيانها بالضرورة بالوضوح نفسه، وهو ما يبدو من التفات أكبر الى قضايا الأمن الذاتي أو الاستقرار الداخلي. مصدر خليجي قال لپ"الوسط" ان هذا طبيعي، فإذا كانت حرب الكويت خطفت أفكار ومجهودات وثروات دول المجلس لمواجهة الأخطار الخارجية فانه يصبح منطقياً بعد أربع سنوات من تحرير الكويت واعتراف العراق الأخير بحدودها وسيادتها ان تتحول دول المجلس الى مناقشة قضايا الأمن الذاتي والاستقرار خصوصاً ان هناك ظواهر مقلقة بدأت تنمو خلال السنوات الأخيرة وتبين ان الأخطار المحتملة على الاستقرار الآتية من الداخل هي على القدر نفسه من أهمية الأخطار الآتية عبر الحدود. الاتفاقية الأمنية وأشار المسؤول الخليجي الذي فضل عدم ذكر اسمه الى ظاهرة التطرف الديني التي برزت بعض مؤشراتها في معظم دول المجلس، بوصفها ظاهرة جماعية وليست ظاهرة فردية تختص بها دولة خليجية فقط… مضيفاً انه لم يكن غريباً ان تشدد دولة مثل عمان على ضرورة اعطاء هذه القضية أولوية متقدمة في أعمال القمة ولم يكن غريباً ان ينتهز القادة الخليجيون أول فرصة يجتمعون فيها لتسجيل قلقهم من هذه الظاهرة والدعوة الى مواجهتها وتخصيص فقرة كاملة في البيان تحت عنوان ظاهرة "التطرف والعنف". وهناك مظهر آخر من مظاهر الانتقال النسبي في هذه القمة للتركيز على تحديات الداخل هو ان القمة انجزت التصديق على الاتفاقية الأمنية الخليجية الجماعية التي ظلت لمدة 12 سنة كاملة موضع أخذ ورد وخلاف بين دول المجلس وهو تصديق لم يكتف بتوقيع 4 دول عليها قبل القمة في اجتماع وزراء الداخلية ولكن أيضاً حرص على ضمان انضمام الدولتين الأخريين اللتين لم توقعا قطروالكويت اليها في أسرع وقت. وفي هذا الصدد أخذت في الاعتبار ملاحظات واضافات طلبت قطر ادخالها على نص الاتفاقية، من بينها كما قالت مصادر خليجية نص يطالب "بضرورة توفير معلومات من جميع دول المجلس عن المواطنين مزدوجي الجنسية خصوصاً ان في قطر عدداً لا بأس به من المواطنين الذين يحملون اضافة الى الهوية القطرية جوازات سفر لدول مجاورة". ولهذا لم يكن مفاجأة ان يعلن الأمين العام لمجلس التعاون الشيخ فاهم القاسمي بعد القمة ان "قطر ستنضم الى الاتفاقية الأمنية خلال أسبوع أو عشرة أيام"، وحسب مصادر خليجية فإن الاتفاقية الأمنية تتضمن نصوصاً عدة تقوي من قدرة أجهزة الأمن في دول المجلس على ملاحقة المجموعات والعناصر المتطرفة والمثيرة لعدم الاستقرار بما في ذلك تبادل المعلومات وحقوق التعقب داخل الحدود في الدول الخليجية الأعضاء في الاتفاقية. الاقتصاد والبطالة المصادر الخليجية نفسها اعتبرت التركيز الواضح في البيان على الجانب الاقتصادي مؤشراً آخر الى الاتجاه نفسه الخاص بالاهتمام بالأمن الذاتي ومكافحة العناصر الداخلية ولفتت النظر في هذا الاتجاه الى ان أول قرار للقادة في المجال الاقتصادي تضمنه البيان الختامي كان تكليف اللجان الوزارية المعنية بدرس موضوع البطالة "النظر في الامكانيات المتاحة لاستيعاب الزيادة المستمرة في عدد طالبي العمل من مواطني دول المجلس في جميع القطاعات الانتاجية والخدمية". والمعروف ان أحداثاً بعضها وقع أخيراً في بعض دول المجلس أظهرت وجود ارتباط بين التوجه نحو المعارضة أو حتى التطرف والصعوبات التي تواجهها بعض الفئات أو الطوائف في الحصول على عمل. ولا يخرج هذا التوجه عن عنصر آخر لا يقل حساسية ودقة، وهو اضطرار دول المجلس، تحت تأثير انخفاض عائدات النفط وارتفاع العجز في الموازنات، الى اجراء خفض كبير في الانفاق الحكومي الذي هو المحرك الأساسي للاقتصاد في الدول الخليجية. وستتبع ذلك عملية تقشف وعصر للنفقات قد تؤثر على ما اعتاد عليه المواطن الخليجي من خدمات مجانية ومستويات معيشية مرتفعة. - الاقتراب من خلق آلية للتنفيذ: متغير رابع لم ينضج تماماً ولكنه بدأ في القمة الخليجية الخامسة عشرة، وتمثل في ادراك قادة دول المجلس انه آن الأوان لوقف الايقاع البطيء للمجلس. وعبّر هذا الادراك عن نفسه كما قال مسؤول خليجي حضر القمة في تركيز المحادثات الخاصة بالتكامل والتنسيق بين الدول الأعضاء على ايجاد "آلية" للتنفيذ وعلى تحديد "مواعيد حاسمة" لانجاز الملفات والمهام وعلى اصدار "توجيهات محددة" وغير عامة للجان الوزارية بدل الاتجاه السابق الذي كان يركز على تفاصيل الاتفاقيات. وأرجع المسؤول ذلك الى عدم الرضا العام حتى من الرسميين في دول المجلس عن بطء مسيرة المجلس، من ناحية، والى حقيقة ان الاتفاقات موجودة والأهداف معروفة والمواضيع قتلت بحثاً وان المطلوب هو التنفيذ والتنفيذ السريع المبرمج. وقال المسؤول الخليجي لپ"الوسط" ان دول المجلس التي أدركت ان التغيرات العالمية السريعة وعقد اتفاقية الپ"غات" والمتغيرات الكاسحة التي تحملها عملية سلام الشرق الأوسط على الاقتصاد الاقليمي لدول المنطقة تقتضي الاسراع بانجاز ما تأخر المجلس في تحقيقه أكثر من عقد كامل، وهو تحويل نفسه الى مجموعة اقتصادية اقليمية ذات اتحاد جمركي فعال تنساب فيها بحرية تامة جميع عناصر الانتاج وتستطيع التفاوض مع المجموعات الاقتصادية الأخرى بندية تضمن تحقيق مصالحها. وحتى على المستوى السياسي الشائك وضعت القمة الأساس لوجود "آلية سياسية" وربما قانونية لحل النزاعات الحدودية بين بعض دول المجلس وحددت تاريخاً قاطعاً لا يزيد عن سنة لكي تنجز هذه الآلية، وهذا الحل الذي اذا تم سيخلص المجلس من معظم المعوقات التي كبلت حركته وقللت من فاعلية اجهزته في تحقيق تكامل أمني واقتصادي تتوافر له ظروف وامكانات نادرة غير متاحة حتى لأنجح التجمعات الاقليمية الفاعلة في عالم اليوم.