الجماعات الاسلامية الراديكالية، وأصوليات التمرد الاسلامي، و "الاخوان المسلمون"، كلها عناوين لنظام "الموضة" البحثية والكتابية في مؤسسات الاستشراق، والسلطات الكتابية الرسمية في الاعلام والاكاديميا. والموضوع اصبح تعبيراً عن الفوضى والاضطراب والتشوش، وحقلاً للغموض العلمي مبعثه نصوص الهجاء وبلاغة نصوص التابعين للجماعة، وشارحي نصوصها، والمتنطعين والطفيليين الساعين الى الاستثمار المادي لانتاج الظاهرة وتجلياتها السياسية والدلالية والاجتماعية. فكيف يمكننا السيطرة على حقل سائل بلا حدود، بين حدود التبجيل وبلاغة الاطناب، وثرثرة السرد التاريخي والبطولي والهجاءات والسجالات بين الرسميين والمعارضين والمسكونين بالرعب من خطاب الاصول الاسلامية وتأويلاتها؟ وكيف السبيل للدخول الى صلب الجماعة وخلاياها الفكرية والدلالية، واستنطاق اساليب حركتها، ومواطن ازمتها؟ ومن المعروف ان تلك الازمة مرتبطة بأزمة اكبر منها تتجاوزها، هي ازمة الدولة والمجتمع في عالم متفجر دوماً محكوم بانهيار الاصول الحديثة، والسعي الى ما بعدها في سياق من المعاني والرموز والمؤسسات والتقنيات والنظريات المثيرة للالتباس، والتي يطغى عليها غياب المعنى... هكذا فإن تحديد موقع "الاخوان" في اطار القوى المختلفة، وسياساتهم ومكامن قوتهم وأزماتهم في سياق ازمة الدولة المصرية، يدخلنا الى قلب الواقع الراهن، الى جغرافيا الاحزاب والمعاني والاساطير المسيطرة على الجسد المصري المعاق باعتلالات هيكلية وبنائية ممتدة في الزمان الحديث. منذ الانتقال من السجون والمعتقلات الناصرية، وبدء سياسة التوظيف الرمزي والسياسي لخطاب الاصول الاسلامية في مواجهة راديكاليات اليسار والناصرية بهدف التوازن، استفاد "الاخوان" من هذا الموقع والدور، لإعادة بناء الجماعة، في سياقات محلية واقليمية مواتية معتمدية على عائدات النفط وقيادات الشتات الموسرة. وأعيد طرح ادبيات الجماعة في واجهة السياسة والثقافة المصريتين، وفي استقطاب بعض ضحايا نظام الانفتاح ومشرديه في الجامعات والمدن المصرية، عبر آلية "الجناح الاخواني" في "الجماعة الاسلامية" في الجامعات والمنابر الاعلامية. كما لجأ هؤلاء الى المناورة مع الساداتية التي ارادت تأميم "الاخوان" لمصلحة الخطاب الرسمي، او على الاقل كطرف مساعد وكمعاون رمزي للنظام الساداتي. لكن التمرد والصدام أعقبا مرحلة التعاون في ظل تقليدية خطاب "الاخوان" وأساليب حركتهم، ما حد من قدرتهم على موكبة الاجيال الجديدة الغاضبة من الفئات الوسطى الصغيرة في المدن وفقراء الريف الذين يتعلمون في الجامعات والمعاهد والمدارس المتوسطة. فتلك الفئات بدأت تعطي تأييدها للقوى الاسلامية الراديكالية الجديدة المسلمون، السماوية، الجماعة الاسلامية، الجهاد، والشوقيون.... وأخذ "الاخوان" يركزون على اتجاه "الاسلمة من الوسط"، عبر المؤسسات المالية والمضاربة على العملة، والتواطؤ مع عمليات توظيف الاموال، والانطلاق الى مواقع القوى المهنية عبر النقابات، باعتبارها مناطق تمركز العافية والحيوية السياسية للفئات الوسطى كلها. هذه السياسة كانت نقطة انطلاقها السيطرة على القوى الوسيطة، بهدف احتواء الدولة والانتقال الى هياكلها الفوقية البرلمان - البيروقراطية عن طريق التحالفات السياسية بدءاً من الوفد، وانتهاء بالعمل والاحرار، كل ذلك تمهيداً لتأسيس حزب سياسي قائم بحثاً عن موقع ضمن حدود شرعية مؤسسات الدولة ونظامها السياسي. وتحقق بعض اشكال التعبير والتمثيل الرمزي في اطار حدود أخذت في التقلص، كان له ان يصب في سياسة الدولة القائمة على الاحتواء والتوظيف السياسي لمواجهة عنف الراديكاليات الاسلامية المتمردة بالقانون والنار. والسؤال المثار دوماً ما الذي حققه "الاخوان" طوال عقدين ويزيد قبل ان ندلف الى صلب الازمة الحالية: "سلسبيل"، ونقابة المحامين وعمليات القبض التحذيري بين الحين والآخر على بعض كوادرها؟ الاستمرارية الانجاز الأكبر الانجاز الأكبر هو استمرارية الجماعة كأحد مفاتيح السياسة المصرية منذ نهاية عقد العشرينات، مروراً بكل الانظمة السياسية ورموزها وايديولوجياتها وأزماتها واضطراباتها. وهذا ما يشير الى ان هناك في تركيبة الثقافة والسياسة والاجتماع المصري ما يحمل هذه الجماعة على الاستمرار، ويضفي عليها المشروعية. فهي تجد بلا شك في بنياتها وقادتها قدرة على البقاء في قلب المشهد السياسي كطرف من اطراف المعادلة والصراع. بل أن عجز منظرين وقادة الجماعات السياسية التي ترافع رايات الحداثة - أياً كان لونها - عن اضعاف فكر "الاخوان" ووجودهم السياسي والاجتماعي، يعكس اعطاباً هيكلية في منظومات هذه الجماعات التي تحمل قيم الحداثة المبتسرة وأفكارها وقيمها ورموزها. ومن ناحية ثانية، استطاع "الاخوان" بسيطرتهم على النقابات الامساك بأحد اعصاب السياسة المصرية، ومنابع النخبة التكنوقراطية. وكانت قمة الانجاز وقوع نقابة المحامين بكل تقاليدها الليبرالية العتيدة في أيدي الجماعة، بما يعكسه ذلك من دلالة فريدة على تآكل الليبرالية والعلمانية والحداثة القانونية على النمط الغربي. ولعل نقابة المحامين كانت الاطار الامثل للمراوغات، والمناورات والوساطات والعلاقات مع أجيال جديدة من شباب الحركة الاسلامية الراديكالية الغاضبين، ضحايا اساطير الانفتاح وايديولوجيات الحداثة الليبرالية والتعددية المجهضة في المنابع وعند القمة. ومن ناحية ثالثة: استوعبت الجماعة في هياكلها الوسيطة - ثم العليا - بعض الكوادر الغاضبة، والمعتدلة ودمجتهم في تيارها العريض، واعطتهم الفرص في الظهور وتحقيق المكانة إزاء جمود هيكلي في تكوين نخبة الحكم والدولة، واحزاب المعارضة الهامشية وأزمة جيل طاحنة تعصف بمؤسسات الدولة والاحزاب والبيروقراطية كافة. كل ذلك اعطى مساحة لتدريب هذا الجيل الوسيط، واكسابها بعضاً من مهارات العمل السياسي والنقابي، على رأسها القدرة على الحوار - المحدود نسبياً - مع أطراف النخبة الهرمة والمسنة. فضلاً عن أهلية المناورة المبتسرة على مسرح السياسة والاعلام والنقابات. ومن ناحية رابعة: تم تهجين خطاب الجيل الوسيط ببعض مفردات ومفاهيم سياسية حديثة - اضفت مزيداً من الغموض والتشوش على بنية خطاب "الاخوان" - مكنهم على نحو ذرائعي من امكان التلاعب بالمصطلحات والقيم على مسرح الاستهلاك الرمزي والدلالي في ظل التشوش السائد في حقل السياسة المصرية. ومن ناحية خامسة: برهنت الجماعة عن ديناميكية في استيعاب الصدمات السياسية والامنية، وقراءة الرسائل وفك شيفرات ومعاني السلوك السياسي لنخبة الحكم، والتعامل المرن نسبياً معها. كما أثبتت قدرتها على التقدم والانقضاض الناجح نسبياً ايضاً في بعض القضايا والازمات السياسية، وكان ابرزها الرقابة على المصنفات الفنية، وقضايا الختان والحرية الجنسية في مؤتمر السكان، وفرض قائمة اولويات، وتحديد قضايا السجال السياسي مع الدولة والاحزاب المعارضة. ومن ناحية سادسة: نجح "الاخوان" في استيعاب الغضب على السياسة الرسمية لدى بعض رموز المؤسسة الاصولية الرسمية - الازهر - فقاموا بدعم خطابها السني المتمرد على الدولة. ودعم كل طرف للآخر، كما ظهر في الاعوام الاخيرة، يشكّل نجاحاً كبيراً في مواجهة الدولة التي استطاعت السيطرة وتأميم خطاب الاصولية السنية الازهرية منذ دولة محمد علي حتى اوائل عصر السادات. هكذا اصبح الازهر ينزع نحو اكتساب هاشمه الخاص المستقل عن خطاب الدولة والسياسة الرسمية، وتظهر معارضاته بين الحين والآخر في تماس مباشر مع خطاب "الاخوان" أو دعم غير مباشر لهم. هذه بعض أبرز انجازات "الاخوان" في السياسة المصرية، ووجيزه انهم يمثلون احد مفاتيح السياسة المصرية بلا نزاع وانهم الحزب السياسي المحجوب عن الشرعية الذي استطاع اختراق حدود السياسة والنظام واسواق الاستهلاك السياسي والرمزي والاقتصادي والتلاعب داخل وسط السوق وعلى مقربة من قمته. ترويض واحتواء والسؤال الآن: أين الدولة ونخبة الحكم، طالما ان حزب الدولة الاداري غائب في حياة المصريين اليومية، شأنه في ذلك شأن المعارضات الهامشية والمهمّشة! الموقف من "الاخوان"، معارضة او تحالفاً، هو اللعبة الاكثر بروزاً في الساحة الحزبية المصرية، فالتحالف يعني امكان الوصول الى البرلمان، وضمان الاستفادة من المزاج الديني - السياسي السائد الذي يشكل كتلة تصويتية تتراوح بين 15 و30 في المئة. اما معارضة "الاخوان" فمعناها امكان الوصول الى البرلمان عبر الوفاق مع السلطة السياسية وحزبها. كان السادات يحاول توظيفهم في معاركه الرمزية ازاء الماركسية والناصرية، ثم اصبح التوظيف ذا مضمون مغاير في ظل حكم الرئيس مبارك. وهو يتمثل في بعض الاحيان في ترويض واحتواء "الاخوان"، واتاحة الفرصة للمتابعة السياسية والامنية، ل "الجماعة" والفصل بينها وبين الحركة الاسلامية الجذرية الجهاد والجماعة الاسلامية لاعطاء مشروعية في المواجهة الامنية الدامية خلال العامين الماضيين. لكن الدولة ما ان سكنت نسبياً نيران العنف الراديكالي، حتى استدارت للسيطرة على عملية تمدد "الاخوان"، عبر آلية تشريعية - القانون الجديد للنقابات المهنية - لضبط العمل داخل النقابات، وعبر سياسة القبض والاعتقالات الانذارية، وهي عمليات محدودة من حيث العدد ولكنها شاملة من حيث الدلالة والمعاني الانذارية بالقبض على عناصر من اجيال عدة، وفي مواقع مختلفة من المحافظات. ولدى السلطات الامنية خبرات تاريخية في التعامل مع "الاخوان"، يعطيها ميزة نسبية، على خلاف الوضع مع "الجهاد" و "الجماعة الاسلامية"، فضلاً عن ان التكوين الاجتماعي ل "الجماعة" يساعد على ذلك، ولأن معظم اعضائها من الفئات الوسطى المالكة التي تعمل في التجارة او المهن المعروفة، ما يجعلهم يعملون في الظاهر، الأمر الذي يسهل امكان المتابعة الامنية والسياسية لهم. وبين القبضة الحديدية وغض النظر السياسي احياناً، لأهداف اخرى، تدور سياسة النظام ونخبة حكمه إزاء "الاخوان". ولكن يبقى الغائب دوماً هو البعد المعنوي - أو الاسطورة اذا فضلنا لغة الانتروبولوجيا - الذي يضفي على حركة الجهاز الامني للدولة القمعي "المشروع" يعمل ويتحرك من دون غطاء سياسي، ولعلها ملاحظة هيكل الصائبة التي قيلت يوماً ما. سيف عدم الشرعية وثمة سيف عدم الشرعية القانونية ل "الاخوان" يشهره الحكم غالباً في مواجهة تجاوزات "الاخوان" للخطوط الحمراء في اللعبة السياسية الداخلية، اذا ما استشعر ان هناك تحركات تتجاوز المسموح ترتبط بحركة العنف الرمزي والايديولوجي والامني. وفي ظل هاتين السياستين المتعارضتين ل "الاخوان" والدولة أين مواطن الازمة الحقيقية وراء سياسة الضربات الانذارية والتمدد والانقضاض "الاخوانية"؟ يتمثل جوهر الازمة الراهنة في ان هياكل النظام ومواثيقه ومفاهيمه ومرجعياته أصابها تكلس بنائي، مرجعه التناقض بين عملية التحول نحو اصلاح وتحرير اقتصادي وهي تعبيرات ايديولوجية ذائعة الآن وبين مفهوم للدولة وقواعد للعمل السياسي والحزبي، وغير ذلك من قيم تتمركز حول تقاليد وخبرات الدولة المركزية، والدولة التسلطية التي تهيمن على حقول السياسة والرموز والمبادرات. فانتاج الاساطير والقيم والمعاني والرموز والمبادرات. فانتاج الاساطير والقيم والمعاني والرموز والمبادرات يتم من القمة، ويعاد توزيعها في الوسط، وترويجها للاستهلاك في اسفل البناء الاجتماعي والسياسي. لكن عملية التخصيص الاقتصادي لا تستقيم من دون تجانس هيكلي مع التخصيص السياسي والرمزي، والسماح للمبادرات السياسية، والاصوات الخاصة بالتعبير عن ذاتها. هذا التناقض الكبير لا يجد صياغة تأليفية تستطيع حله ولو عند الحد الادنى، في ظل اتساع فجوات ازمة التوزيع الاجتماعي الطاحنة وأزمة جيلية بالغة الحدة، بحيث اصبحت النزاعات السياسية تدور بين نخبة حاكمة، وقوى اخرى تريد الحلول محلها بالقوة الاسلام الراديكالي او عبر التسلل الى الهياكل الوسيطة والدولة الاخوان. ذلك هو جوهر الازمة الآن، والذي نعتقد بأنه سيتفاقم في ظل المبادرات الشرق الاوسطية للتعاون الاقليمي، بكل انعكاساته الراديكالية على البنيات السياسية والفكرية الجامدة في مصر، والمنطقة. والسؤال المطروح هو أين نضع أزمة "الأخوان المسلمين" مع الدولة في الفترة الاخيرة، لا سيما قضايا "سلسبيل"، ونقابة المحامين وحتى عمليات القبض والاعتقالات التحذيرية الاخيرة؟! انقلاب المنطقة نحن إزاء العاب للمسرح السياسي المصري، قبل البدء في الاعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة، وفي اعداد السوق السياسي والاعلامي وهياكل الدولة، وقيم البيروقراطية للانقلاب الكبير الذي يتم في المنطقة. هناك "الشرق الأوسطية" واعداؤها المحليون، وعلى رأسهم التيار الاسلامي وفي قلبه "الاخوان"، والقوى الاسلامية الراديكالية. وهما عدوا الاتفاقات السلمية، والتعاون بين اعداء الأمس. وتحطيم هياكل القوى الاسلامية المتمردة على التسوية واعداد ارضية التعاون، يمثل اولوية سياسية يدركها الجميع، ومن ناحية اخرى فان الدولة ترمي الى ترويض وكبح التمدد "الاخواني" لا سيما بعد انكسار الموجة الطويلة الثانية للعفن السياسي ل "الجماعة الاسلامية" و "الجهاد". وهذه الموجة تلتها فترة هدوء نسبي، قبل عودة الموجات القصيرة للعنف اخيراً. ويمكننا ان نرصد مجموعة من الاختلالات في سياسة "الاخوان" في أزمتي "سلسبيل" ونقابة المحامين. الازمة الاولى، كشفت هياكل "الجماعة" وشبكاتها الداخلية عن سعة امام جهاز الامن، لكل عناصر التغير، وهو ما جعل هذه القضية تمثل اداة ضغط إزاء "الاخوان" اثناء المواجهة الدامية بين الدولة و "الجماعة الاسلامية" و "الجهاد"، ونجحت الدولة هنا في ضبط حركة "الاخوان" في المواجهة، وتحييدهم، واستجاب "الاخوان" بخبراتهم التاريخية لذلك، وهو ما ظهر في حركتهم السياسية وخطابهم الاعلامي السياسي. والازمة الثانية هي الاكثر خطورة، لأن مسرحها هو نقابة المحامين وهي انفجرت بعد واقعة القبض على المحامي عبد الحارث مدني ووفاته. والواقعة اثيرت شبهات جنائية عليها من قبل جماعة المحامين لا سيما "الاخوان"، ومشايعي الاسلام الراديكالي في النقابة من الاجيال الشابة. ويمكننا ملاحظة ظاهرة ابرزتها الازمة تتمثل في التصعيد السياسي والسلوكي اثناء الازمة من قبل عناصر مقاومة تنتمي الى "الاخوان"، وفي محاولة لاقامة جسر من الوفاق مع القوى الراديكالية، او توظيف هذا التعاون في ازمة عبد الحارث مدني لبناء مواطن قوى سواء داخل "الجماعة" وهيكلها القيادي الاعلى، او ازاء الدولة، او في وسط المحامين لاعتبارات انتخابية. وهذا السلوك يفتقر الى الحنكة السياسية، ويحاول القفز فوق موازنات الواقع وتعقيداته، ازاء العلاقة المضطربة بين الدولة و "الجماعة"، كما انه يفتقر الى تحليل عميق للحالة السياسية المصرية. ولعل السلوك التصعيدي، من الدعوة الى الاضراب العام امام المحاكم، ثم الاعتصام والخروج بمسيرات وتظاهرات واصدار بيانات سياسية قوية النبرة، ليس فقط دليلاً على نقص الخبرة لدى بعض قياديي الجيل الوسيط في "الجماعة"، بل انه يسلّط الضوء الآليات النفسية وظروف مسرح الازمة التي خضع لها هؤلاء من دون محاولة التعامل معها، الامر الذي دفع جهاز الدولة الامني التدخل العنيف ضدها. ولعل النجاح الوحيد المتحقق، هو تقارير منظمات حقوق الانسان الدولية ازاء الازمة، واعتماد "الاخوان" على الدور السياسي الذي تلعبه هذه التقارير، يبدو أمراً مثيراً، للمدقق في موقفهم من ايديولوجية حقوق الانسان بكل مكوناتها، وتحفظاتهم على بعض أسسها الفلسفية والمعرفية. وقد تمكنت "الجماعة" من امتصاص صدمة نقابة المحامين، التي تلتها اشارة في اثناء عيد الأضحى بالقبض على بعض اعضائها اثناء توزيعهم منشورات تتضمن رأي "الاخوان" في الدولة الاسلامية، وفي استدعاء المرشد العام الاستاذ حامد ابو النصر لسؤاله امام النيابة العامة. مكاسب سياسية واعلامية والواقع ان "الاخوان" تمكنوا من استيعاب الرسائل السياسية والامنية بإبداء المرونة والاعتدال في خطاب القيادة. واستطاعوا، من ناحية اخرى، تحقيق بعض المكاسب على الصعيد السياسي والاعلامي في سجالات مؤتمر السكان الاخير في القاهرة، حيث فرضوا على الدولة ان تعدل سلوكها وموقفها ازاء بعض القضايا الحساسة في الاوساط التقليدية والشعبية، كالاجهاض والعلاقات الحرة والانجاب من خارج مؤسسة الاسرة والمثلية الجنسية إلخ. وقد فرض "الاخوان" والمؤسسة الاصولية الرسمية، بل والكنيسة القبطية والفاتيكان - لاحظ هذا التحالف - وجهات نظرهم على ساحة الحوار، والسجال حول المؤتمر. ووجدت الدولة نفسها محاضرة سياسياً وايديولوجياً ازاء الاصوليات الدينية كلها، وهي الفرصة التي حقق فيها "الاخوان"، ومعهم الاصوليات الرسمية كلها، انتصاراً سياسياً لا شبهة حوله، في حين حاولت الدولة الاستعانة ببعض "المثقفين" مع جهازها الاعلامي بحثاً عن توازن مع ضغوط "الاخوان" والازهر، ومباركة الكنيسة لهذا الاتجاه! وواكب انتصار "الاخوان" والازهر، انتصار آخر يتمثل في حجاب طالبات المدارس الذي كشف عجز صفوة الحكم عن ادارة السياسة العامة للدولة في مجال التعليم، لا سيما على صعيد المواجهة السياسية و "الايديولوجية" - بالمعنى السلبي للمصطلح. من هنا نستطيع وضع الضربات التحذيرية لجهاز الدولة القمعي "المشروع" ازاء "الاخوان"، في اطار اشكاليات الصفوة السياسية وازمة الدولة الحديثة وعدم القدرة على ادارة النزاعات السياسية والرمزية مع القوى المحجوبة عن الشرعية، وفقاً للتعبير الذي استخلصناه اثناء درسنا للقوى التي لا تتمتع بالشرعية القانونية في مصر. هل يعني هذا ان "نجاحات الاخوان"، و "نجاحات" الدولة في ملاحقتهم، ومحاولة وضعهم في حالة دفاعية واعتدالية، تصلح اسساً لسياسة قادرة على تحقيق اهدافها في ظل المتغيرات التي تشهدها مصر والمنطقة ويشهدها العالم؟ لعل اكثر التقديرات السياسية عمقاً وتفاؤلاً ينزع نحو احتمال تفاقم عوامل الازمة ودوافع الصدام لأسباب عدة. اول هذه الاسباب التزامن والزواج الذي يلوح الآن بين سياسة التحرير الاقتصادي، والتعاون الاقليمي الشرق الأوسطي، والاتفاق على مواجهة اعداء هذه السياسات، ممثلين في "الاخوان" و "حماس" و "الجهاد" و "الجماعة الاسلامية"... لاحظ تصريح بيل كلينتون في القاهرة عن حماس ودور عرفات ورؤية شمعون بيريز في كتاب الشرق الاوسط الجديد. ومن ناحية اخرى فان ذلك يزيد من اشكاليات الهوية والنزاع عليها، مصرياً وعربياً، وهنا يأتي انتفاض الاسلام السياسي ليلعب دوراً وظيفياً في التاريخ يتمثل في اعتباره وعاء واسعاً للمقاومة إزاء جروح الهوية والانكسارات امام القوى الخارجية. وهذا الدور لعبه الازهر حيناً، فيما ظهر "الاخوان" كتعبير عن تزايد التغريب والاحتلال الاجنبي والحرمان الاجتماعي. وهذا الدور محتمل الآن، وسيساعد عليه داخلياً احتقان الاوضاع الاجتماعية، نظراً الى اتساع الفجوة بين الاغنياء والفقراء. وكلما تزايد الحرمان الاجتماعي والاحباط السياسي يتزايد الالتزام الديني، كما يذهب ويل وديمبرلي وآخرون كثر في العالم الاجتماعي المعاصر. والامر الذي قد يؤدي الى انخراط فئات عدة في مجال العمل "الاخواني"، او تأييده في ظل استمرارية سياسة الخصخصة، وبيع المشروع العام، خصوصاً في ارتباط ذلك بفضل العمال. أشباح النصر تلك متغيرات الأزمة داخلياً، وقد يدفع هذا "الموقف الصعب" بعض الفاعلين في المسرح السياسي الى تقديرات بعيدة عن عناصر الواقع، وقد تمثل حركة هنا، او خطأ هناك اشعالاً لنيران سياسية لا قبل لأحد بها. فلا شك في أن هناك صعوبة في إبعاد وعزل "الاخوان"، كما حدث في مؤتمر الحوار الوطني بين القوى الحزبية الاخرى، من حضر منها ومن قاطع، باعتبار ان استبعادهم عن جغرافيا السياسة والقيم والاحزاب مسألة صعبة جداً. ومن ناحية اخرى، بين الحين والآخر وعلى اثر نجاحات صغيرة، ينتاب بعض قادة "الاخوان"، ولا سيما اجيالهم الوسيطة والشابة، حالة نفسية توحي كأنهم على مشارف الوصول الى السلطة، او هم فعلاً فوق قمتها. ولعل "أشباح النصر" هي ابرز ظواهر الخطأ في تقدير المواقف والسياسات والخصوم. فالدولة المصرية - أياً كانت الانتقادات الموجهة اليها والاختلالات البنائية التي تعتريها - لا تزال قادرة على العمل والمواجهة العنيفة بالقانون والنار. والاخطر ان قدرة بعض كوادر "الاخوان" على المناورات القائمة على الخيال السياسي الرفيع والخلاّق محدودة. وسرعة الوقوع في أسر خيال لذيذ مفاده ان الدولة الاسلامية في الافق المنظور، يؤدي الى الاخطاء القاتلة. اضافة الى ان الفرصة التي اتيحت لهم داخل النقابات جعلت البعض يتصرف بمنطق السلطة المسيطرة - تلك التي يهجوها خطاب "الاخوان" في الدولة - من دون عناية سياسية بالقوى الاخرى. وأهمل هؤلاء عقد تحالفات واسعة تحمي الغالبيات التي تحققت من سياسة الدولة في المواجهة والاحتواء، بل أنهم أبدوا نزعة في استفزاز القوى السياسية الاخرى، ما يؤدي الى اتساع الفجوة بين "الاخوان" وهذه القوى المدنية التي أخذت تشك في مشروع الاخوان برمته. ولعل ذلك اتاح للدولة ان تقتص في شباكها عناصر عدة من يساريين قدامى وليبيراليين ووجهاء أقباط من العاملين في السياسة او الثقافة او الاعلام، ما اعطى انطباعاً رصده جلال أمين، بأن تحالفاً قائم الآن بين بعض المثقفين العلمانيين، ان لم نقل قطاعات واسعة منهم وسلطة الحكم، ما فاقم من صدقية الخطاب العلماني السائد. غياب التجديد تبقى ظاهرة جمود الفكر السياسي ل "الاخوان"، وضعف الموارد الفكرية والضمور والتآكل في البنية الرمزية بفعل استهلاك وإعادة استهلاك السلع الرمزية والدلالية، نظراً الى غياب التجديد الاجتهادي ل "الجماعة" الام في المركز لمصلحة تجديدات الاطراف تونس، لبنان والسودان في بناء الجسور مع الحركة الاسلامية الراديكالية. ويمكن القول ان هذه الظاهرة المتمثلة في تآكل نظام انتاج الافكار والمعاني من "الاخوان"، هو لمصلحة الاطراف اقليمياً، ولمصلحة الاطراف الراديكالية في مصر، بينما اصبح النشاط الحركي الفعال في صعيد مصر لمصلحة "الجماعة الاسلامية". إن وقوع الانتاج الرمزي والدلالي ل "الاخوان" في مدارات اعادة انتاج الشعارات والوقوف عند تبسيطات خطابهم القديم، يشير الى أن الوهن اصاب موقعهم السياسي والرمزي، وأدى الى تآكل سطوتهم وهيبتهم الايديولوجية في المجتمع، لا سيما في ظل التحولات الصاخبة التي تجتاح الدنيا الجديدة. ولعل اخطر تبسيطات "الاخوان" تتمثل في الصور النمطية في العلاقة مع النظام الدولي وتحولاته المعقدة. ومن ناحية اخرى لا يزال موقف "الاخوان" من اشكاليات التكامل الوطني ازاء الآخر الديني تثير شكوك قطاعات واسعة من المصريين الاقباط وتصيبهم بالاحباط ولا يزال "الاخوان" في هذه الاشكالية يبتعدون عن اجتهادات جادة قدمت في الاطراف تونس - لبنان ازاء هذه المشكلة، ولا زالت اجتهادات طارق البشري وسليم العوا بعيدة عن القوى المؤثرة في الحركة عند القمة او في وسطها، فما بالنا بجماهيرها. مثل هذا الموضوع بالغ الحساسية في مصر، حيث لا يقتصر فقط على موقف ملايين الاقباط المصريين، وانما يطول قطاعات مدنية واسعة تأخذ مثل هذا الموقف "الاخواني" التقليدي على انه دلالة الى ان "الاخوان" ضد مبدأ المواطنة وقيم الدولة الحديثة. وصفوة قولنا ان عزل "الاخوان" بالقانون والنار وبناء تحالفات مضادة، قد يبدو ممكناً على ضوء تاريخ علاقتهم وأخطائهم مع السلطة المصرية. أما استبعادهم فهو أمر عصي على التحقيق، لأنهم جزء من نسيج مصر الثقافي والسياسي والاجتماعي والايماني، كما ان اقباط مصر جزء متفرد في نسيجها التاريخي والجماعي. أما خيالات النصر القريب بالوصول الى مقاليد الحكم، فليست لدى "الاخوان" اكثر من احلام يقظة سياسية، بعيدة عن الواقع، يعيق تحقيقها ما لاحظناه من اختلالات المشروع وأزماته وتقليديته في اطار متغيرات سريعة ومعقدة. إذاً ما العمل؟ في الافق المنظور لا عمل! من أزمة الى مزيد من الازمات! ومن خلل الى مزيد من الاختلالات! وفي مثل هذه الاوضاع، حينما تتعقد المواقف وتدلهم المشكلات يقول عامة المصريين ان العمل عمل ربنا. ولله الأمر من قبل ومن بعد. * رئيس وحدة البحوث الاجتماعية والقانونية في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.