وسط دمار غير مسبوق.. اللبنانيون يستعجلون العودة لمنازلهم    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    التدريب التقني تمنح 63 رخصة تدريب لمنشآت جديدة في أكتوبر الماضي    استقرار الدولار الأمريكي قبيل صدور بيانات التضخم    الأمم المتحدة تدعو إلى تحرك دولي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني    الشتاء يحل أرصادياً بعد 3 أيام    عامان للتجربة.. 8 شروط للتعيين في وظائف «معلم ممارس» و«مساعد معلم»    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    وصول الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    أمير الرياض يطلع على جهود "العناية بالمكتبات الخاصة"    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    اكتشاف كوكب عملاق خارج النظام الشمسي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    مبدعون.. مبتكرون    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    الرياض الجميلة الصديقة    سيتي سكيب.. ميلاد هوية عمرانية    المملكة وتعزيز أمنها البحري    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    أكد أهمية الحل الدائم للأزمة السودانية.. وزير الخارجية: ضرورة تجسيد الدولة الفلسطينية واحترام سيادة لبنان    هؤلاء هم المرجفون    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحسن العلاقات بين بغداد ودمشق يثير مخاوف "مجتمع العراقيين في لبنان". سجين عراقي سابق ل"الحياة": اجل شاهدت اسرى كويتيين وحفظت أسماءهم ووجوههم
نشر في الحياة يوم 04 - 05 - 2001

بينما كان احد الصحافيين اللبنانيين يهم بالصعود الى الطائرة التي أقلته من عمان الى بيروت، لمح وجهاً يعرفه جيداً، كان صاحبه متجهاً الى الطائرة نفسها المستعدة للانطلاق الى بيروت. انه ضابط الاستخبارات العراقية الذي تولى خلال زيارة الصحافي اللبناني بغداد العام الفائت، مرافقته الى الأماكن التي زارها، وحدد له الصور التي يُسمح بالتقاطها في العاصمة العراقية. الضابط كان متوجهاً الى بيروت بثياب مدنية طبعاً، ويبدو ان الصحافي توجس لسبب ما من إلقاء التحية عليه اذ شعر انه قد يحرجه، خصوصاً ان رحلة الضابط الى بيروت أثارت في الصحافي شكوكاً وريبة، زادتا من تردده. ثم ان ما كتبه هذا الأخير عقب عودته من بغداد لا يشجع على معاودة الاحتكاك بأحدٍ من الذين رافقوه في بغداد.
الواقعة نفسها تكررت مع صحافي آخر في بيروت، اذ صادف مرافقه السابق في بغداد وهو ضابط استخبارات، في احد فنادقها ضمن وفد رجال أعمال عراقيين كانوا يزورونها لعقد صفقات تجارية.
هذا النوع من الوجود العراقي في لبنان بدأ يتضاعف بعدما تحسنت العلاقات السورية - العراقية، وبدأ يشكل مصدر قلق فعلي للعراقيين المقيمين في بيروت، فأضيف الى أوضاعهم عنصر اضطراب جديد، وراحوا هم يفسرون قرارات الأمن اللبناني بملاحقتهم في ضوء هذا المستجد.
ففي لبنان يقيم بضعة آلافٍ من العراقيين الذين غادروا بلادهم في مراحل متفاوتة. والإقامة العراقية في لبنان أنواع. فثمة مقيمون منذ سنوات كثيرة، وبعضهم حاز الجنسية اللبنانية، ومعظم هؤلاء من المسيحيين الكلدان، اذ احتاجت الحكومة اللبنانية أثناء اصدارها مرسوم التجنيس الى اعداد اضافية من المسيحيين من أجل التوازن مع اعداد المجنسين المسلمين. فاستفادت عائلات عراقية من هذه المعادلة ونالت جنسيات وهي تقيم اليوم في حواضر مسيحية. وثمة من يقيمون متمتعين برعاية مكتب الأمم المتحدة للاجئين، وتتفاوت اعدادهم بين ألفي لاجئ والفين وخمسمئة، اذ يتولى المكتب تسفير اعداد منهم الى دول مختلفة، منها الولايات المتحدة الأميركية وكندا وسويسرا، علماً ان اقامة هؤلاء في لبنان تعتبر في نظر السلطات اللبنانية غير شرعية، خصوصاً انهم دخلوا اراضيه خلسة، وعبر مافيات التسفير المشتغلة عبر طريق بغداد - دمشق. ومعظم المصنفين في هذه الخانة دخلوا لبنان في السنوات والأشهر الأخيرة. أما النوع الثالث، فهو الذي يضم آلافاً غير محددة من العراقيين المقيمين في لبنان بطريقة غير شرعية، وتقدموا بأوراقهم الى مكتب الأمم المتحدة ولم ينالوا بطاقات تعريف تخفف من عدم شرعيتهم، شأن مواطنيهم أبناء الفئة الثانية.
ويبدو ان بيروت أصبحت مدينة يأمل معظم العراقيين الذين يغادرون بلادهم لأسباب تتفاوت بين سياسية واقتصادية وأمنية، بأن تكون محطتهم. ففيها مكتب ناشط للأمم المتحدة يدرس ملفات اللاجئين ويرسلهم الى أوروبا وأميركا. وفيها أيضاً بيئة طائفية يمكن ان يأتي اليها أبناء الطوائف العراقيين، فيجد الشيعي العراقي في الضاحية الجنوبية مؤسسات ونوادي حسينية للمعارضة العراقية. ويجد فيها الكردي العراقي أحزاباً كردية لبنانية قد تؤويه أو تتعاطف مع قضيته. وللكلداني والآشوري مؤسسات يمكنه ان يلجأ اليها.
والطريق الى بيروت من بغداد وعبور الحدود وتجاوز المراكز الأمنية... أمور أصبحت شائعة ومعروفة ولها قواعدها الراسخة. فعلى الراغب في عبور هذه الطريق من العراقيين ان يدفع ما بين 300 دولار و500. وهذا المبلغ يعد ثروة بالنسبة الى عراقي، ولكي يؤمنه عليه ان يبيع منزله ربما. يتولى عناصر "المافيا" العراقيون ايصاله الى سورية. حيث يقوم زملاء لهم في دمشق بتهريبه الى لبنان عبر طرق معروفة. وكثيراً ما تتعرض قافلات التهريب لمكامن يكون ضحاياها من الهاربين العراقيين. فقد أفاد أحد مسؤولي "حزب الدعوة" العراقي، وهو مقيم في بيروت أن سيارة كانت تقل متسللين عراقيين عبر الحدود اللبنانية - السورية تعرضت، قبل اسابيع، لاطلاق نار، قتل على أثره عراقي وجرح ثلاثة آخرون. ولم تعرف الجهة التي اطلقت النار. فالجرحى بقوا أحراراً ولم يبادر احد بالتحقيق معهم كمتسللين، ما يؤكد ان ليس للسلطات اللبنانية علاقة بذلك.
المشكلة ان تحسن العلاقات السورية - العراقية، وما رافقها من انفراج في العلاقات اللبنانية - العراقية، أدى من جهة الى تزايد عدد اللاجئين بسبب تخفيف اجراءات الحدود وأتاح للكثيرين من العراقيين دخول لبنان في شكل شرعي عبر تأشيرات دخول تجارية، لكنها من جهة اخرى زادت من احتمالات ملاحقة السلطات، سواء في لبنان أو سورية للعراقيين واعادتهم الى بلادهم عبر الحدود. وهذا ما يعتبر بالنسبة الى العراقي الهارب موتاً محققاً. السلطات اللبنانية تنفي ان تكون سلمت العراق لاجئين غير شرعيين. وتقول إنها تعيدهم من حيث جاؤوا، أي تسلمهم الى السلطات السورية. وتقول مصادر المعارضة العراقية إن السلطات السورية تخير احياناً اللاجئ العراقي بين وضعه على الحدود أو ارساله الى شمال العراق، أي الى مناطق الحكم الذاتي الكردي. وتؤكد ان للاستخبارات العراقية نفوذاً في أوساط الحزب الديموقراطي الكردستاني يمكّنها من تسلم اي عراقي يصل الى الشمال. وتشير الى ان عراقيين كثراً أدى ابعادهم من لبنان الى سورية ومن ثم الى شمال العراق الى دخولهم السجون العراقية.
وتلاحظ مصادر المعارضة أن انفراج العلاقات اللبنانية - العراقية سمح بنوعٍ آخر من الوجود العراقي في بيروت. فكثيرون من التجار والوسطاء العراقيين المعروفين بعلاقتهم بالنظام العراقي، يقيمون اليوم في بيروت. منهم من أقاموا مكاتب اتصالات هاتفية ومحال لتبديل العملة العراقية، وهم يلبون دعوات السفارة العراقية في بيروت ويقيمون علاقات مع موظفيها. وتلفت المصادر الى ان هؤلاء يقيمون في مناطق نفوذ المنظمات الشيعية الموالية لإيران وسورية، أي الضاحية الجنوبية، من دون ان تبدي هذه المنظمات أي حذر حيالهم. ويقيم قسم آخر منهم في مدينة جونية شمال بيروت، علماً ان أصواتاً لبنانية كثيرة بدأت تنادي بالتعامل مع العراق كسوق للسلع اللبنانية في مقابل كميات من النفط عرضتها بغداد بأسعار مغرية. وترافق ذلك مع زيارة قام بها نجل رئيس الجمهورية اللبنانية النائب اميل لحود للعراق، اجتمع خلالها مع نجل الرئيس العراقي عضو مجلس الأمة عدي صدام حسين.
الحكايات التي ينقلها العراقيون معهم الى بيروت عن بلدهم تقارب الخيال، فيضيفون اليها حكايات "مافيات" التسفير التي تعدهم بمستقبل زاهر لهم في بيروت، وما أن يتجاوزوا الحدود السورية - اللبنانية، حتى تكون في انتظارهم وقائع اخرى، تنتهي بهم في أحسن الأحوال الى الوقوف في صف طويل أمام مكتب مفوضية الأمم المتحدة للاجئين.
وفي مجتمع اللاجئين يختلط الفقر بالمرض، وتتقاطع أنواع المخاوف من الأجهزة الأمنية التي اضيفت اليها اخيراً الاستخبارات العراقية. أما سكن معظم اللاجئين فهو في غرفٍ مرتجلة في ضاحية بيروت الجنوبية حيث نشأ اخيراً ما يسمى بمجتمع اللاجئين العراقيين.
والحكاية التي نوردها هنا، فهي لعراقي كانت بيروت محطة انتقاله الى دولة اخرى، واشترط عدم نشرها الا بعد مغادرته لبنان.
اعتقلت في العام 1991 في مدينة الحلة في محافظة كربلاء، جنوب العراق، بعد الانتفاضة التي أعقبت حرب الخليج الثانية. كان عمري 16 سنة. وفي مدة اعتقالي الأولى أعدم شقيقان لي، وكان والدي سبقهما الى حكم الإعدام في العام 1986. أما الشقيق الوحيد الذي بقي حياً بين أشقائي فاكتشفت لاحقاً أنه معتقل مثلي، وقد زج في السجن نفسه حيث سجنت.
تنقلت خلال مدة اعتقالي التي دامت نحو عشر سنوات في ثلاثة سجون، أقمت في الأول نحو شهر وفي الثاني شهراً أيضاً، وفي الثالث أمضيت بقية المدة. لا أعرف لهذه السجون أسماء أو عناوين باستثناء الأول الذي يقع في منطقة الحلة، وهو معروف، أما الثالث فكل ما أعرفه عنه انه في بغداد، وأعرف أيضاً معلومة أخرى ترافقت معرفتي لها مع مأساة فظيعة سآتي على ذكرها في هذا العرض.
في السجن الثالث، وضعت في زنزانة تقع في الطبقة الرابعة تحت الأرض من المبنى، إذ هو سجن كبير مؤلف من ثلاثة مبان. وما إن أدخلوني الزنزانة، حتى عرضوني على السجناء المقيمين فيها، وكانت الاجراءات تقضي بألا يعرف السجناء بعضهم بعضاً قبل دخولهم السجن، وفي حال صرح أحد نزلاء الزنزانة انه يعرف القادم الجديد، ينقل هذا القادم الى زنزانة أخرى، وربما الى طبقة أخرى من السجن.
مساحة الزنزانة لا تتجاوز الأمتار الأربعة طولاً والثلاثة عرضاً. وحين دخلتها كان عدد السجناء 18، لكن هذا العدد كان يكبر أحياناً ليصل الى نحو 40 سجيناً. وككل معتقل أو سجين كانت مدة الاعتقال الأولى التي يتخللها التحقيق من أصعب مراحل السجن. ولكن في السجن العراقي أيضاً يمتد التعذيب على طول مدة الاعتقال أيضاً.
أنا اليوم شاب من دون أي احساس جنسي، فقد صعقوا تلك المنطقة من جسمي بأدوات التعذيب الكهربائية خلال التحقيق. وهذا فكي مكسور كما ترى وقد أعيد ترميمه بطريقة خاطئة، إذ راح المحقق يرفسني بقدمه عليه الى أن تحطم، ثم ان هذه التشوهات في يدي هي آثار أعقاب سجائر، والملاقط الكهربائية المستعملة أثناء التحقيق. لم أعد أشعر أن ترداد هذه الوقائع أمر مجد ومفيد، وأشعر أيضاً انه ينزع عنها وقعها أو يحولها كلاماً، في حين هي وقائع ثقيلة، وصور وحقائق.
الزنزانة صغيرة وعلينا، لكي ننام، أن يفسح نصفنا للنصف الثاني، فيقف رجال وينام رجال، ثم نتبادل الأدوار، وكان أول ما لفتني وما شعرت بوقعه وقسوته بعد تقنيات التحقيق، هو الطعام. كانت الوجبة الوحيدة للرجال العشرين عبارة عن صحن رز صغير، ومرقة جزر أو سلق. وعلى الزنزانة كلها أن تأكل هذا الصحن الوحيد، وفي الليل كنا نعطى كسرات خبز قليلة. وندرة الطعام كانت تدفع السجناء الى الطرق على أبواب الزنزانات، ليس من باب التذمر والاحتجاج، بل بدافع تصرف مرضي سببه الآلام والضيق الناتج من الجوع. وكان الجواب يأتي على شكل كسراتٍ قليلة من الخبز، أما من لا تكفيه هذه الكسرات فيستمر في الطرق على الباب. كانوا يجرعونه دواء يسهل معدته، فيجف جسمه ويموت. كان الموت قريباً جداً وتآلفنا معه، وصارت جثث المساجين الذين يموتون لأسباب كثيرة، سأورد بعضها هنا، أمراً مألوفاً، يمكن أن أتحدث عنه من غير عناء كبير. ثم اننا تعودنا نوعاً آخر من الموت، هو الغياب الذي قد يكون موتاً وقد لا يكون، لكننا كنا نحسبه كذلك. فلطالما استدعي كثر من زملائنا في السجن الى التحقيق من دون أن يعودوا نهائياً الى زنزاناتهم، وهذا النوع من الغياب مختلف عن الاعدامات التي كنا نعرف مواعيدها والناس التي تنفذ بهم. لكنني لاحقاً اكتشفت مصائر من يغيبون وسأذكر بعضها في موقع آخر.
من كانت تنفذ فيهم أحكام الإعدام وهي ليست أحكاماً قضائية طبعاً كثيراً ما يكونون سجناء حديثي الاعتقال، وكانوا يُطلبون من زنزاناتهم في موعد ثابت، هو السابعة صباحاً، وكانت ثمة اشارات اخرى نحسها ولا ندركها تشعرنا باقتراب إعدام هذا السجين أو ذاك. وكثيراً ما كانت تصدق مشاعرنا.
في تلك المرحلة، كنت من السجناء الملتزمين أوامر عناصر الأمن والمحققين. فلم أشارك يوماً في الطرق على الأبواب لطلب المزيد من الطعام، وكنت أتحاشى أي حديث يدور على أسباب سجني أو سجن غيري. كنت صامتاً الى درجة الخرس وملتزماً وخاضعاً بالكامل لإرادة أصغر سجان. كانت تجربة التعذيب كافية لإفهامي ضرورة ذلك، فضلاً عن أن الخوف الداخلي، الخوف الحقيقي، الذي تولده معاينتنا اليومية لموت زملاء لنا واعدامهم بسبب اقترافهم البوح والكلام والتصادق والحميمية، كان سبباً اضافياً لمنعي من أي مبادرة حيال أي كان، خصوصاً أن الألم وشدة المعاناة كانا يدفعان بسجناء كثر الى أن يتحولوا مخبرين لضباط الأمن في السجن.
بقيت على هذه الحال حتى العام 1997، وهي مدة طويلة، إذ كثيراً ما كانت تنقلب أحوال غيري بعد مدة قصيرة، فيفقدون الأمل من جدوى الصمت والالتزام، ويكونون بذلك عرضة لأنواع مختلفة من العقاب. في أحد أيام العام 1997، السنة وحدة قياس الوقت لدينا في السجن وليس اليوم والشهر اللذين كنا نجهلهما تماماً قرع رجل أمن باب زنزانتنا في التاسعة صباحاً، وطلبني بالاسم. لم يكن الوقت، وقت إعدام، ثم انني أمضيت سبع سنوات، وهذا ما أبعد الاحتمال المذكور عني. شعرت بخوف كبير عندما قال لي إن الضابط أرسل في طلبي. لاح الاعدام مصيراً وحيداً أمام ناظري. دخلت غرفة الضابط المحقق، وكانت ثيابي وسخة، خصوصاً ان بزة السجن هي نفسها التي في حوزتي منذ اعتقالي، وكانت رائحة جسمي منبعثة مقززة بفعل العفونة والرطوبة، وكان الجرب أصابني ففرغ مساحات من جلدي.
صرخ المحقق برجل الأمن وأمره بأن يخرجني من الغرفة ويتيح لي أن أغسل جسمي ويعطيني ثياباً جديدة. قبل ذلك كان دخول الحمام مرتين في النهار، على السجين أن يقضي حاجته خلالهما في ثوان قليلة، وإلا اقتحم السجانون الحمام وأخرجوه وانهالوا عليه بالضرب. فهم كانوا يخافون أن يقدم السجين على الانتحار في الحمام مستعملاً القساطل والصنابر، وهو أمر حصل أكثر من مرة.
بعدما غسلت جسمي ولبست ثوب السجن الجديد، وكنت قبلا استبعدت احتمال الاعدام، دخلت غرفة المحقق الذي أكد لي أنهم يراقبونني منذ دخول السجن وهم أعجبوا بحيادي وصمتي والتزامي "قانون" السجن، وقرروا ضمي الى فرقة السجناء الذين يوزعون الطعام، ويبلغ عدد أفرادها نحو عشرين سجيناً بينهم ستة يعملون في المطبخ. قال المحقق ان السجين الذي سأحل محله أعدم لأنهم اكتشفوا انه يطيل الأحاديث مع السجناء، وأكد لي أنهم اختاروني لهذه المهمة لما أتمتع به من صفات تناسبها، وهي الصمت والحياد والبرود حيال القضايا غير الساخنة، وطلب مني أن أحافظ على هذه الخصال وإلا كان الموت نصيبي، فالمهمة التي أوكلت إليّ لا يمكن التهاون بقوانينها، ووقعت تعهداً خطياً بذلك، ما زاد من شعوري بالخوف والحذر.
كنا نوزع الطعام على أكثر من طبقة، يرافقنا خلال ذلك عناصر أمن السجن. واكتشفت خلال مهمتي الجديدة أن ندرة الطعام وشحه سببهما شراهة السجانين ورغبتهم في سرقة كميات من الطعام المخصص للمساجين، فكنا نطبخ أقل من ربع كمية الرز المخصصة، وحين نُزود دجاجاً لإضافته الى المرقة، كان عناصر الأمن وضباطهم يستولون على أكثر من 90 في المئة منه. لكنني أنعشت وضع زنزانتي فضاعفت كميات الطعام المخصصة لرفاقي فيها، وهو أمر كان يمكن أن يتغاضى عنه رجال الأمن الذين يتيح المزيد من الاحتكاك بهم بعضاً من الراحة، ولكن المحدودة والخاضعة لشروط كثيرة.
أمر آخر طرأ ما إن باشرت العمل في توزيع الطعام. فقد اكتشفت في احدى الطبقات ان شقيقي نزيل احدى الزنزانات. شاهدته وشاهدني لكننا لم نتبادل كلمة واحدة. كنا نسترق النظر أحدنا الى الآخر من دون أي إشارة. كل ما في الأمر انني أصبحت أتعمد تعهد توزيع الطعام في هذه الطبقة، وضاعفت كميته للزنزانة التي يقيم فيها. بقيت نحو سنة وأربعة أشهر على هذه الحال، كل يوم أشاهد شقيقي ولا أكلمه، نتبادل نظراتٍ بعيدة وأحياناً يصدف أن يتاح لي امكان التحدث معه، فلا أفعل. كان صمتي هذا جزءاً من أسباب الأمان الذي لا بد للسجين إذا رغب فيه من أن يتصرف على النحو الذي تصرفت. وكنت أنوي أن أرفسه في حال مبادرته هو بالحديث معي. هكذا كانت تقضي قوانين سجننا في بغداد.
بعد مدة قصيرة استدعاني الضابط المسؤول عن الطعام، وكان جيد الطباع الى حدٍ ما، وقال لي إن ثمة من وشى بي وأوصل الى الضابط انني أزيد الطعام لزنزانة محددة غير زنزانتي، فنفيت للضابط الأمر، وعدت وقلت له إن بين نزلائها من هم مسنون. لم يصدق الضابط ذلك ووعدني بأنني اذا قلت الحقيقة لن يعاقبني، فسألته ان يعطيني الأمان ففعل. صارحته بحقيقة وجود أخي فيها، وأكدت له انني لم أكلمه يوماً وان كل ما فعلته انني ضاعفت كمية الطعام المخصصة للزنزانة. كادت عينا الضابط تدمعان لولا كبحه مشاعره واشاحة وجهه عني. وعدني بأن يتيح لي سلاماً سريعاً لشقيقي، وفعلاً وفى بوعده. كانت ثمة غرفة صغيرة قريبة من الحمام، يستعملها الضباط أحياناً، فانتظر الضابط شقيقي ليخرج من الحمام برفقة رجل الأمن، ورفسه ما إن وصل الى موازاة باب الغرفة، فسقط شقيقي على أرض الغرفة، وأمر الضابط الجندي بالابتعاد، فدخلتها مفتعلاً مصادفة مروري من هناك. لم نجد أنا وشقيقي كلمات كثيرة نتبادلها، وانتهى اللقاء في شكل غامض. أما الضابط فنبهني الى ضرورة عدم تكرار نزولي الى زنزانة شقيقي لأن المساجين لاحظوا ذلك.
في السجن كانت ثمة طبقة نسميها طبقة الأجانب، أي للسجناء غير العراقيين. وكلفت توزيع الطعام فيها. كان بين النزلاء، كويتيون وفلسطينيون، وأربعة سجناء أجانب، بينهم طيار أميركي سأتحدث عنه لاحقاً، وآخر لا أعرف جنسيته أصابه الجنون. كانت كميات الطعام التي يطلب منا توزيعها هناك أكثر قليلاً من التي نوزعها على المساجين العراقيين، خصوصاً ان معظم زنزانات تلك الطبقة افرادية. أذكر يوماً انني بينما كنت أوزع الطعام هناك، قال رجل الأمن المرافق، ان لجنة تفتيش تابعة للاستخبارات حضرت الآن فجأة، وكان علينا في وضع كهذا أن ندخل فوراً أي زنزانة قربنا، وأن تقفل الأبواب علينا. كنت أنا في محاذاة زنزانة السجين الأميركي، فأدخلني اليها رجل الأمن وأقفلها من الخارج. كان وحيداً فيها، ويبدو أنه تعلم أن يتحدث بالعربية قليلاً. قال لي أنت سجين موقت، فكثيراً ما يفرج عن أولئك الذين يختارون لمهمة توزيع الطعام. وقال انه طيار أميركي اعتقل بعدما اسقطت طائرته خلال حرب الخليج، وسألني هل أرغب في إيصال رسالة الى قيادته بعد الإفراج عني، فرفضت حتى التحدث معه وبقيت صامتاً الى أن فتح باب الزنزانة، وأخرجني الضابط منها وفتشني في شكل دقيق، وسألني هل حدثني هذا الأميركي في أي أمر فنفيت، ليس من باب الحرص عليه وإنما خوفاً من أن يرتابوا في أمري.
الأسرى الكويتيون في سجننا كانوا عشرات، ومن أعمار مختلفة، وكانوا يعتقدون ان العراق ما زال محتلاً بلدهم، وكنت أسمعهم في أحيانٍ كثيرة يصرخون انهم يعترفون بأن الكويت محافظة عراقية وانهم مستعدون لتوقيع تعهدات على ذلك.
تعرفت خلال ترددي على طبقة الأجانب الى الكثيرين من المساجين الكويتيين. حفظت أسماء كثيرة ووجوهاً كثيرة، وشاهدت أيضاً مساجين لبنانيين من بينهم شخص يدعى طالب الخليل بحسب ما أذكر.
في العام 1998 تغير نظام السجن، إذ علمنا أن ضباطاً وعناصر من السجن أخذوا وثائق وصوراً ومعلومات عن الأسرى الكويتيين، وحاولوا تهريبها الى الكويت. لكن الأمن العراقي قبض عليهم على الحدود وأعدمهم جميعاً. ركّبوا بوابة الكترونية على مدخل الطبقة المخصصة للأجانب، لا تفتح إلا إذا أدخل الضابط المسؤول بطاقته فيها. أما بالنسبة الينا نحن، موزعي الطعام، فخصصوا اثنين بيننا، أنا وسجين آخر، لتوزيع الطعام هناك وأضافوا عنصراً جديداً لضمان عدم معرفتنا وجوه السجناء. فوزعوا أقنعة على المساجين عليهم أن يرتدوها فور دخولنا الزنزانات، وكان الجندي يستبق دخولنا بأن ينظر من فتحة في باب الزنزانة ليتأكد من وضع المساجين الأقنعة، وكان عقاب من لا يضع القناع حرمان الزنزانة كلها الطعام لمدة يومين. وأذكر ان كويتياً أصرّ أكثر من مرة على عدم وضع القناع، فجاء الضابط وأخرجه الى رواق السجن وراح يضربه على رأسه حتى مات.
كانت بين مهماتنا كموزعي طعام، تنظيف الغرف، ومنها غرف التحقيق التي لطالما نظفناها من جثث مساجين أو من بقايا أجسامهم ودمائهم. تحول الأمر عادياً بالنسبة الينا، وكنا نميز طريقة القتل من خلال الجثة. فمنهم من كانوا يضربون بحقن تيبس أجسامهم بعدها، ومنهم من يبالغ المحقق في تعذيبهم فيموتون من دون قصد منه، ومنهم من يموت خوفاً، فيتوقف قلبه من تلقائه. كان الموت عاماً وشائعاً ولا يقتصر على غرف المحققين، فكثيرة هي حالات الانتحار التي شهدها سجننا هذا، بينها ما أقدم عليه شاب كويتي راح يضرب رأسه بصنبور الحمام عشرات المرات وفي سرعة فاقت سرعة رجل الأمن الذي هب لمنعه من الانتحار. ف"فاز" الشاب الكويتي بالسبق ومات. ظاهرة أخرى غير الانتحار كانت متفشية، هي الاختلال النفسي والعقلي، وكانت تختلط فيها ادعاءات المساجين انهم وقعوا فيها، ما حال دون تقديم أي علاج للجميع.
أمر آخر كان يجب أن أذكره في بداية هذا العرض، ربما لم يكن مهماً بالنسبة الى كثيرين لكنه مهم بالنسبة إلي، لأنه كان يشعرني بمزيد من الخوف والرهبة، وهو أن جميع الضباط والعناصر كانوا يرتدون ثياباً مدنية لا عسكرية. هذا الأمر كان يزيد من حيرتنا، ربما لأن الثياب المدنية تخفي أسراراً أكثر، أو انها على الأقل تجعلك في حيرة من أمر هؤلاء.
أتيحت لي فرصة ثانية للوجود مع السجين الاميركي في غرفة واحدة. فقد أصيب بإعياء ومرض شديدين استدعيا حضور الطبيب الذي علق له مصلاً، وأمرني الطبيب وهو ضابط بأن أبقى الى جانبه ساعتين تقريباً، عرض علي خلالهما مجدداً إبلاغ رسالة الى قيادته اذا أفرج عني، وكرر أمامي كلمات يتأكد من يسمعها في حال نطقتها أمامه انني صادق. ومن خلال المرضى والطبيب تعرفت الى الكثيرين من السجناء الكويتيين، خصوصاً انهم كانوا يفترضون انني سأنال حريتي بما أنهم اختاروني موزع طعام.
في العام 1999 تغير نظام السجن مرة أخرى، وقيل إن قصي نجل الرئيس العراقي صدام حسين تولى أمره مباشرة. جاءوا لنا بطاقم سجانين جدد، وخفت مواعيد الاعدامات. أعطونا ملابس جديدة، وصاروا يوزعون كميات أكبر من الخبز. وصرنا ندخل الحمام ثلاث مرات في اليوم ونغتسل مرة في الشهر.
صرنا نحن، موزعي الطعام، ننزل الخبز بأيدينا من السيارة التي تحضره الى فناء السجن، تصادق بعضنا مع السائق الذي راح يوزع سجائر على من يدخن منا. وفي أحد الأيام، هم أحدنا الى وراء مقود السائق واستل سيجارة من علبته، ثم عاد وقال لنا انه قرأ عبارة على ورقة في السيارة، ولم يبح بما قرأ، ولم نطلب منه نحن أن يبوح، لكنه في الليل عاد وباح بها، إذ قال إنه قرأ عبارة "مديرية الأمن العام" في بغداد، ما يعني اننا في سجن الأمن العام. أصابنا الخوف من أننا عرفنا هذه الحقيقة، إذ كانت معرفتنا أي أمر سبباً لعقابنا الذي قد يصل الى الاعدام. وبالفعل في اليوم التالي لم نجد زميلنا الذي قرأ العبارة بيننا. وبعد ساعات قليلة استدعانا المحقق الرئيسي في السجن، وسألنا: هل تعرفون مصير زميلكم الذي تحدث في ما لا يعنيه؟ ثم فتح لنا باب الغرفة المجاورة، وإذا بهذا الشاب معلق شنقاً في سقف الغرفة، ويبدو ان شنقه تم بطريقة بدائية، إذ ظهرت رقبته طويلة جداً، وقد انفصل الجلد واللحم وبقي العظم متصلاً بجسمه. وهم قاموا قبل أن يشنقوه بقطع لسانه. وحرص الضابط المحقق على أن نعرف هذه المعلومة الاضافية، إذ صعد على كرسي وفتح له فمه، لنرى أن لسانه قطع. قال لنا الضابط ان مصير من يفشي كلمة واحدة مما سمعه لن يكون أقل مما رأينا وشاهدنا.
بعد مدة قصيرة طرق جندي بابنا، وقال إن المحقق يريدني. وكالعادة أصبت برعب شديد. وصلت الى غرفة المحقق الذي قال: اننا نراقب سلوكك منذ دخولك السجن وقد جاءتك "مرحمة" من الرئيس صدام حسين وسيفرج عنك. وشدد علي ان من الضروري أن أستمر في صمتي خارج السجن وإلا واجهت مصيراً أكثر قسوة من سنوات السجن.
بدلوا ملابسي وعصبوا رأسي، وأصعدوني ليلاً الى سيارة، راحت تمشي صعوداً ونزولاً نحو ربع ساعة الى أن شعرت اننا خرجنا من حرم السجن إذ بدأت أسمع أصوات أبواق السيارات، وشعرت ان الى جانبي سجيناً آخر. توقفت السيارة ونادى السائق السجين الآخر، وقال له إن عليه أن يذهب الى قسم الشرطة في الحي الذي يقيم فيه وأن يعطي المسؤول فيه ورقة تثبت الافراج عنه، ليذهب بعدها الى منزله. تابعت السيارة طريقها الى أن توقفت في مكان آخر، وكرر علي سائقها ما قاله لزميلي، إذ يبدو انه لم يكن يدري انني من مدينة أخرى غير بغداد. دفعني معصوباً الى الشارع بعدما فك الحبل من حول يدي. أوقفت سيارة تاكسي واتجهت بها الى منزل أقاربي في بغداد الذين تولوا تسديد أجرة السائق، ومن هناك الى كربلاء... وبعدها بأيام قليلة تسللت الى ايران... ومنها الى بلاد الله الواسعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.