رواية رؤوف مسعد الصادرة أخيراً عن "دار رياض الريس" في لندن، تمتاز بنبرة خاصة وبنبض عفوي حميم يجعل منها تجربة على حدة في أدب السيرة. هنا تناول سريع للعمل بلغته الخصبة المتحررة والمنسابة التي تؤسس لكتابة جريئة، منفتحة على الحياة. في روايته الجديدة "بيضة النعامة" دار "رياض نجيب الريس" - لندن، يكتب الروائي المصري رؤوف مسعد من أصل سوداني كما سنكتشف من خلال الرواية نفسها باللغة الشعرية البسيطة والآسرة نفسها التي تتميز بها "ألف ليلة وليلة". ومثل كل فنان أصيل متمرّس بفنه، لا يحاول رؤوف مسعد أن يجهد نفسه في البحث عن غريب الألفاظ وشواذها، ولا يسعى الى ذلك التعقيد المصطنع الذي يتعمده البعض من روائيينا ممن يعتقدون أن الفن إما أن يكون "معقداً" أو أن لا يكون. بل هو يمضي بنا على مهل، تاركاً نفسه على سجيتها، حتى لكأننا معه على ظهر مركب نشوان يتهادى فوق النيل في رحلة ممتعة بين الأقصر والقاهرة. أول ما يستوقفنا في الرواية عنوانها. وربما بقصد توضيح اختياره، يسوق المؤلف حكاية مفادها أنه رأى خلال زيارته لأحد الاديرة بيضة نعام كبيرة. وحين سأل الراهب عن معناها، أجابه أن النعامة حينما تحسّ بالخطر تسارع بتخبئة بيضها، ثم تجري مبتعدة عنه لتحول نظر المطارد عن البيض، اذ انها تفضل ان تضحّي بحياتها مقابل انقاذها لبيضتها. في مفتتح الرواية، نقرأ الجملة التالية: "اسمي جوقة... لأننا كثيرون". والجملة المذكورة لها دلالة هامة وأساسية في البنية السردية للرواية ذلك ان الراوي يتعدد ويتفرّع ويتكاثر حتى لكأنه جمع غفير من الرواة يسردون الحكاية تلو الحكاية دون ملل أو تأفف، ودائماً بالأسلوب الساحر الجذاب نفسه. "بيضة النعامة" هي السيرة الذاتية لرؤوف مسعد نفسه. ومن خلالها نتعرف الى انه ولد في نهاية الثلاثينات في مدينة صغيرة تقع غرب السودان. وكان أبوه قسيساً. ثم "تتمصرن" العائلة، وتنتقل الى القاهرة. وحال التحاقه بالجامعة يخوض رؤوف مسعد تجربة سياسية مريرة ضمن الحزب الشيوعي المصري تقوده الى السجن في ظل نظام عبدالناصر الاشتراكي والتقدمي. بعد اطلاق سراحه، يهيم رؤوف مسعد على وجهه بحثاً عن معنى جديد لحياته، ويحاول السفر الى ساحل العاج أملاً في ايجاد عمل لكنه يعود من منتصف الطريق بعد أن يكون قطع مسافات شاسعة في قطارات قديمة، وسيارات سريعة العطب تسير ببطء الحمار. مقاهي شارع الحمراء وفي عام 1970 يسافر الكاتب الى بولندا. وهناك يلتحق من جديد بالجامعة ويتزوج. غير أن الحنين الى السفر سرعان ما يعاوده، فيحزم حقائبه وينطلق الى بغداد ليعمل في مؤسسة الاذاعة والتلفزيون. وحين يتسرّب الملل الى نفسه يمضي الى بيروت ويلتحق بجريدة "السفير". وحالما تستقر أحواله هناك، ويبدأ في اكتشاف لذة العيش في مقاهي الروشة وشارع الحمراء، تغزو القوات الاسرائيلية لبنان، فيفرّ عائداً الى مصر ليرى ما حلّ بالبلاد بسبب سياسة الانفتاح الساداتية، وبروز الجماعات الاصولية المتطرفة التي أخذت تنبت كالفطر في احياء القاهرة الفوضوية. وفي آخر الرواية يعود الى السودان التي تعيش تحت بطش حكم الجبهة الاسلامية، ليقوم برحلة بصحبة احد اصدقائه القدامى الى منطقة جبل مره حيث لا تزال الحياة بسيطة، والناس ابرياء براءة النباتات البرية. وتنتهي الرواية على مشهد الراوي ممدداً في الظل الرطب "يستمع الى ضحكات الصبايا ممتزجاً بريح الغابة الخفيف، وصوت الرصاص الذي يأتي من بعيد... ويقترب". كل هذه الوقائع وهذه الاحداث يرويها رؤوف مسعد بأسلوب متميز، وبلغة طازجة، خالطاً الازمنة والامكنة، مازجاً الحكايات على طريقة الرواة الشعبيين أو "ألف ليلة وليلة". فهو يروي لك حكاية من حكايات طفولته في واد مدني، لكنه سرعان ما يقفز بك الى مظاهرة في بغداد ضد "كامب دايفيد" أو يحدثك عن أيام القصف في بيروت. وفيما هو يغوص في وصف سجون عبدالناصر، لا تجده الا وقد انتقل فجأة ليحملك، رأساً ومن دون استئذان، الى مرحلة اخرى من حياته تتصل بمغامراته النسائية في هذه المدينة أو تلك... أو بمصير أفراد عائلته الذين فرّقت بينهم شؤون الحياة فانفرطوا انفراط الطيور بعد العش. وتحتل الأنثى مكانة بارزة في هذه الرواية، بل نقدر أن نقول ان رؤوف مسعد اختار ان يروي أهم الوقائع المتعلقة بحياته من خلالها. والنساء المعنيات بالأمر مختلفات ومتنوعات. فهناك الارامل المتروكات، والمطلقات الحزينات، والفتيات البائرات، والمراهقات اللعوبات، والمستشرقات الحالمات بالشرق على طريقة فلوبير، والبولنديات الرومنطيقيات، والحبشيات الباحثات عن الحياة في فنادق يحرسها ضباط الزعيم الأحمر مانغستو هيلي ميريام. تلميذ بارع ل "ألف ليلة" وعند استكمالنا لقراءة الرواية، وحتى قبلها، يتأكد لنا أن رؤوف مسعد لم يختر هذا العدد الهائل من النساء بغرض استعراض فحولته، وانما لكي يثبت لنا انه تلميذ بارع ومجيد لپ"ألف ليلة وليلة". هذا أولاً. اما الأمر الثاني فهو ان رؤوف مسعد استطاع ان يؤكد لنا قدرته الفائقة على ابداع أدب جديد قائم على الفانتازيا، خال تماماً من تلك الاباحية الكاذبة والمصطنعة التي "يزين" بها البعض رواياتهم بغية استثارة القارئ. في كلمة التصدير، ذكر رؤوف مسعد انه أمضى عشرة أعوام بكاملها لانهاء عمله الروائي هذا. كما ذكر ان تشجيع كل من ادوار الخراط وصنع الله ابراهيم، كان دافعاً اساسياً له لكي يواصل العمل ويتجاوز فترات الاحباط والقنوط التي مرّ بها. ونحن بدورنا لا يمكننا الا أن نتقدم بالشكر الجزيل للكاتبين المصريين المذكورين اللذين ساعدا معنوياً على خروج هذا العمل البديع الذي يفتح افقاً جديداً في كتابة السير الذاتية. لوري الترحيلة تحت عنوان "الرحيل والترحيل" يخصّص مسعد فصلاً قصيراً لوسائل النقل والسفر. فيبدأ ب "قطاره الاول من مدني الى الخرطوم"، يعرّج على "الأوتوبيسات والحافلات التي تعبر بالواحد من بلد الى بلد ومن حدود الى أخرى"... ويصل الى الشاحنة التي تنقل المساجين:. ...هناك أيضاً لوري الترحيلة. إنه لوري السجن الذي ينقلني من سجن الى آخر، شاحنة مغلقة إلا من بضع طاقات مجلّدة بالحديد. على جانبيه من الداخل تمتد أريكتان من الحديد. اليد اليمنى مقيّدة بالحديد في اليد اليسرى لمن يجلس بجوارك من الزملاء. الحديث هامس. العرق الوسخ يختلط برائحة السيارة العفنة التي رحّلت آلاف المساجين من قبل. الهواء مكتوم وثقيل مختلط برائحة الأحذية والجوارب التي لم تُخلع منذ أيام. تحاول أن تتطلّع من الطاقات الحديدية فلا تشاهد شيئاً. السائق غير المدرّب يرج السيارة التي تتطوح بشكل خطيرفي الطريق المليء بالحفر والمطبات. أتمنّى أن أصل الى السجن... حيث يفكون قيودي وأخلع ثيابي لكي ألقط القمل الذي التصق بي في السيارة والذي أشعر به يقفز بين لحمي وثيابي الداخلية. "بيضة النعامة" ص 86 - 87