بينما تؤكد الحكومة الجيبوتية ان الحرب الأهلية انتهت في البلاد تصرّ المعارضة المسلحة على انها لا تزال مستمرة. "الوسط" زارت بعض معاقل المعارضة التي استعادتها القوات الحكومية في شمال جيبوتي أخيراً, والتقت في العاصمة مسؤولين حكوميين, بينهم مستشار الرئيس مدير مكتبه السيد عمر اسماعيل غيلي وأحد أقطاب المعارضة المدنية السيد عبدالله كامل. كما التقت في أديس أبابا زعيم "جبهة اعادة الوحدة والديموقراطية" المعارضة المسلحة السيد أحمد ديني أحمد, وعادت بانطباع ان الحرب لم تنته في جيبوتي بعد, كما أنها ليست مستمرة! الى المهمات اليومية والروتينية للدوائر الحكومية, أضيفت مهمة جديدة هي مسح الأضرار وتقويم الحاجات الملحّة لسكان المديريات الشمالية التي عادت مجدداً تحت السيطرة الحكومية منذ تموز يوليو الماضي, بعدما كانت "جبهة اعادة الوحدة والديموقراطية" استولت عليها في تشرين الثاني نوفمبر 1991. وتنتمي غالبية انصار "الجبهة" التي يرأسها أحمد ديني أول رئيس وزراء لجيبوتي بعد استقلالها في حزيران يونيو 1977, الى قبيلة العفر التي يقطن غالبية ابنائها شمال البلاد. وتتهم "الجبهة" رئيس الدولة حسن غوليد ابتيدون الذي ينتمي الى قبيلة العيسى, باحتكار السلطة منذ استقلال البلاد انتخب لولاية رابعة في أيار/ مايو الماضي, واسناد المناصب الرئيسية في الدولة الى ابناء قبيلته في مقابل تهميش العفر واهمال التنمية في مناطقهم. وهو السبب الرئيسي في اعلان العفر حربهم, عبر جبهتهم المسلحة ضد الحكومة في هذا البلد الواقع على رأس القرن الافريقي والمطل على خليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر, والمجاور لاثيوبيا. كانت ميليشيات "الجبهة" العفرية تحصل على الدعم العسكري والمؤن عبر البحر والحدود الاثيوبية حتى مطلع تموز يوليو الماضي, عندما شنّت القوات الحكومية حملة عسكرية واسعة سيطرت في بدايتها على المنافذ البحرية, ثم زحفت على مواقع قوات المعارضة فطردتها من قاعدتها الرئيسية في عساغيلا ومن بقية المدن والبلدات الشمالية فلجأت المعارضة الى الجبال والى داخل الحدود الاثيوبية. واعتبرت الحكومة أنها هزمت قوات "الجبهة" وأنهت الحرب الأهلية. واعترفت المعارضة المسلحة بخسارتها كل مواقعها الرئيسية لكنها وصفت ذلك بأنه انسحاب تكتيكي, وان قواتها لا تزال تشنّ حرب عصابات بين حين وآخر انطلاقاً من الجبال الشمالية ضد مواقع القوات الحكومية في المدن والقرى. والى بعض هذه المدن والقرى انتقلت "الوسط" في طائرة هليكوبتر عسكرية جيبوتية من طراز "ام - أ - 8" روسية الصنع, مع وفد حكومي ضمَّ مسؤولين من وزارات الصحة والتربية والأشغال والشؤون الاجتماعية والاسكان والكهرباء والماء والاتصالات, لتفقد المناطق الشمالية. محطتنا الأولى كانت مدينة تاجوراء حيث التقينا محافظها السيد حسن عمر الذي أكد عدم وقوع معارك داخل المدينة التي يبلغ عدد سكانها تسعة آلاف شخص. وقال: "معظم المعارك في المنطقة جرت على تخوم المدينة, لذلك لا اثار للحرب هنا مثل تدمير مبان وغيرها. لكن المعارك في ضواحي تاجوراء تركت آثاراً على الوضع الاجتماعي للسكان خلال فترة القتال, اذ حدث نقص حاد في المواد الغذائية والمياه بسبب الحصار الذي تعرضت له المدينة لبعض الوقت, اضافة الى تعرض قوافل الاغاثة للسرقة على أيدي عناصر من المعارضة المسلحة". تاجوراء كانت ساكنة كسكون البحر الذي تغفو على طرفه في حرارة تجاوزت 40 درجة. لم نتجول طويلاً في المدينة, لأن مهمة الوفد الحكومي كانت في الضواحي القريبة التابعة لها. فانتقلنا برفقة المحافظ الى بلدة عساغيلا على بعد 20 كيلومتراً, المقر السابق للقيادة العامة ل "جبهة اعادة الوحدة والديموقراطية", وبسقوطها في تموز يوليو الماضي سقطت كل المواقع الرئيسية الأخرى التابعة ل "الجبهة" في شمال البلاد. وفي عساغيلا استقبلنا القائد العسكري للمنطقة العقيد عمر بوح, وانتشر أعضاء الوفد الحكومي في البلدة يدوّنون ملاحظاتهم عن حاجاتها. فيما زارت "الوسط" برفقة العقيد بوح أسرى "جبهة اعادة الوحدة والديموقراطية" في القاعدة العسكرية. وسألت "الوسط" العقيد بوح عن اصرار "الجبهة" على أنها لا تزال تشنّ هجمات ضد قواته في مقابل تأكيد الحكومة انتهاء الحرب. فأجاب: "منذ استعدنا قاعدة عساغيلا والمواقع الأخرى التي كانت تسيطر عليها الجبهة, لم نواجه أية عمليات عسكرية ضد قواتنا. فالمسلحون عبروا الحدود الى داخل أثيوبيا حيث جردتهم السلطات هناك من أسلحتهم وسلّمتها الى حكومتنا. أما شبان المنطقة الذين كانوا يعملون الى جانب الجبهة فتخلوا عن أسلحتهم وعادوا الى حياتهم المدنية كل في بلدته أو مدينته". وعن قول "الجبهة" انها لم تخسر مواقعها بل نفذت انسحاباً تكتيكياً, قال بوح: "الذي يريد أن ينسحب تكتيكياً لا يخوض معارك ضارية ويخسرها قبل أن يفرّ, كما حصل في بلدة داي وقرب بلدة دورا التي تبعد مسافة 80 كيلومتراً من تاجوراء. كذلك فإن الذي يخطط لانسحاب تكتيكي لا يترك خلفه كميات كبيرة من الأسلحة الخفيفة والثقيلة كالتي صادرناها بعد المعارك. فادعاءات الجبهة عن الانسحابات ليست سوى محاولة لتغطية هزيمتها التي لا تريد الاعتراف بها". أسيرتان دون العشرين في ثلاث غرف متجاورة, داخل قاعدة عساغيلا, يقيم 24 أسيراً وامرأتان أسيرتان. الغرف بلا أبواب, لكن على مسافة نحو ثلاثة أمتار من مداخلها سياج من الاسلاك الشائكة بارتفاع نحو متر ونصف متر. وبين الأسلاك الشائكة ومداخل الغرف, باحة يقضي فيها الأسرى أوقاتهم بلا قيود. ولا مجال للفرار من هذه الباحة التي تقع وسط القاعدة التي تعج بالعسكريين. والقاعدة نفسها تقع في شبه صحراء كبيرة محاطة أيضاً بالأسلاك الشائكة. الأسيرة مدينة محمود ابراهيم 17 سنة والأسيرة آسيا أحمد ادريس 18 سنة تقيمان في غرفة منفصلة عن غرف الشبان. قالتا: "الجبهة طلبت منا حمل السلاح للدفاع عن بلدنا, وخضعنا لعملية تدريب استمرت ثلاثة أشهر قبل ان نُعتقل في بلدة دورا". وأكدتا انهما لا تتعرضان لأية مضايقات في الأسر, كونهما امرأتين في معسكر لا يضم سوى عسكريين رجال. وانهما تتلقيان رسائل من ذويهما. الأسير آدن امبسا والأسير محمد علي موسى 18 سنة ورفاقهما الآخرون, أكدوا أيضاً أنهم حملوا السلاح لاعتقادهم بأنهم يدافعون عن وطنهم كما قال لهم مسؤولو "الجبهة", وأضافوا انهم اعتقلوا في أماكن مختلفة بين دورا وداي وانهم لن يحملوا السلاح مجدداً. لكن من الصعب التأكيد من ان كل "الكلام الجميل" الذي قالوه عن معتقلهم وأوضاعهم وسبب اعتقالهم هو بمحض ارادتهم, أو انهم قالوه بسبب وجود العسكريين حولهم. ومهما كانت الحقيقة, فإن جميع هؤلاء الأسرى صاروا أحراراً منذ مطلع الشهر الجاري عندما بادلتهم الحكومة بجنودها الأسرى لدى "جبهة اعادة الوحدة والديموقراطية" باشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وتبع ذلك اطلاق السلطات الجيبوتية 13 معتقلاً سياسياً من العفر في مقدمتهم رئيس الوزراء السابق علي عارف برهان. ومن عساغيلا انتقلنا, يرافقنا العقيد بوح, الى دورا التي تبعد مسافة نحو 25 كيلومتراً عن الحدود الاثيوبية, فتفقد العقيد قواته وجال الوفد الحكومي في البلدة شبه الخالية إلا من العسكريين. وقال شيخ دورا حسن علي غاننا: "غالبية السكان نحو 700 شخص فروا من البلدة خلال المعارك, لكن معظمهم عاد الآن. وهم يمضون النهار قرب بئر على مسافة نحو خمسة كيلومترات من هنا بسبب عدم وجود المياه في البلدة". وفي جيبوتي, اعترف رئيس جهاز الاستخبارات مستشار الرئيس السيد غيلي بوجود نحو 60 من مقاتلي المعارضة العفرية في أقصى الشمال الغربي في جبال مبله "باستثناء ذلك لم يعد هناك أي وجود عسكري للجبهة". وقال ل "الوسط" ان بلاده انفقت كل الاحتياط المالي في الخزانة على الحرب, "ونحن أحرار في شراء أي نوع من الأسلحة ومن أي مكان نريد للدفاع عن الوطن ... وفي هذا الاطار أيضاً عززنا جيشنا باعلان التعبئة العامة, فارتفع عدده من 2500 جندي قبل بدء المعارك الى نحو 15 ألف جندي الآن لضمان الاستقرار والأمن في بلدنا". رئيس الوزراء الجيبوتي السابق السيد عبدالله كامل الذي يعتبر من أبرز شخصيات المعارضة العفرية غير المسلحة قال: "ان القوات الحكومية طردت قوات جبهة اعادة الوحدة والديموقراطية من مواقعها الرئيسية في شمال البلاد. لكن هذه القوات لا تزال تشنّ حرب عصابات من الجبال ضد القوات الحكومية في المدن والبلدات ثم تعود الى قواعدها في الجبال التي يصعب على الجيش النظامي تمشيطها. لذلك أعتقد أنه من الصعب على المقاومة العفرية ان توقف عملياتها نهائياً قبل التوصل الى حل سياسي مع الحكومة". وفي أديس أبابا تحدث زعيم المعارضة المسلحة السيد أحمد ديني ل "الوسط" في الاطار نفسه, وجدد شروطه للحوار مع الحكومة, ومنها اجراء المفاوضات خارج جيبوتي بوجود طرف ثالث محايد. وأكد ان قواته "لم ولن تلقِ السلاح في مواجهة القوات الحكومية قبل التوصل الى اتفاق مع السلطات الجيبوتية في اطار الشروط التي حددتها الجبهة". ويبدو أن "جبهة اعادة الوحدة والديموقراطية" تلقت ضربة قوية, وأصبحت قواتها محاصرة في الجبال داخل الأراضي الاثيوبية, بسبب تفاهم جيبوتي - أثيوبي في هذا الشأن, اذ كان 12 طياراً اثيوبياً فروا بطائراتهم الى جيبوتي في ايار مايو 1991 عقب سقوط نظام الرئيس منغيستو هايلي مريام, اضافة الى فرار مئات العسكريين مع أسلحتهم الى هذا البلد. وأعادت جيبوتي الطائرات والأسلحة الى النظام الجديد في أثيوبيا. وعرفاناً بالجميل أغلقت اثيوبيا حدودها أمام العسكريين العفر. وفي المقابل من الصعب التأكد اذا كانت الحرب الأهلية انتهت فعلاً, فالتعبئة العامة لا تزال سارية في جيبوتي, وسيظل التوتر سائداً فيها طالما ان الحوار مفقود بين المعارضة والحكومة. وهذا في حد ذاته ما يجعل البلاد في حال اللاسلم واللاحرب. طرأت ليونة على مواقف طرفي النزاع نهاية 1993, رافقها تحرك ديبلوماسي اقليمي ودولي لحض الحكومة والمعارضة على الجلوس الى طاولة المفاوضات. وبعد موافقة الحكومة والمعارضة على إجراء عملية تبادل لأسرى الحرب بادرت الحكومة الى لجيبوتي كان أدين عن طريق القضاء الجيبوتي بتهمة التآمر لاطاحة النظام. وترافق هذا التطور الايجابي بين الطرفين مع اعلان باريس اصرارها على عدم زج نفسها في الصراع بين الحكومة والمعارضة, وفي الوقت نفسه مواصلة جهودها لحض الحكومة على التحاور مع "جبهة اعادة الوحدة والديموقراطية" وانهاء الحرب في البلاد. وأعلنت استعدادها للمساهمة في اعادة اعمار المناطق الشمالي المتضررة من الحرب, خصوصاص اعادة فتح المدارس وحفر الابار وتأمين طرق المواصلات بين البلدين والمدن الشمالية لايصال المواد الغذائية اليها. وتبع ذلك تحرك اثيوبي واريتري في الاطار نفسه, اذ اعرب رئيس الحكومة الانتقالية في اثيوبيا ملس زيناوي وضع كل امكانات بلاده للمساهمة في انهاء الحرب في جيبوتي, خصوصاً ان اثيوبيا تستضيف مجموعة كبيرة من اللاجئين ومجموعات من المعارضة الجيبوتية فرت عبر الحدود الى اثيوبيا. الى ذلك, زار رئيس الحكومة الانتقالية في اريتريا اسايس افورقي جيبوتي قبل أسبوعين واجتمع مع الرئيس غوليد وبحث معه بين قضايا ثنائية واقليمية عدة موضع الحرب في شمال جيبوتي. وحرص افورقي على التأكيد بأن بلاده تتمسك بتوطيد علاقاتها مع جيبوتي, ومساعدتها في انهاء الحرب فيها. واعتبر ان مبادرة الرئيس غوليد باطلاق أسرى الحرب والمعتقلين السياسيين "مقدمة لايجاد حل دائم ومناخ مساعد على دفع عجلة الحوار السياسي". وأمام هذه التحركات, دعا غوليد المعارضة الى التفاوض دون اي شرط باستثناء ان تجري المفاوضات داخل جيبوتي. فهل تكون سنة 1994 سنة إنهاء الحرب الاهلية في هذا البلد.