خصص التلفزيون الجزائري مساء 25 و26 من حزيران يونيو الماضي ثلاث ساعات لبث خطاب طويل لرئيس الحكومة السيد بلعيد عبدالسلام، في غياب الرئيس علي كافي الذي كان يومها يزور مصر عشية انعقاد القمة الافريقية التاسعة والعشرين. وكان الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة في 23 حزيران يونيو الماضي، امام كوادر ولاية الجزائر العاصمة، في حضور عدد من الوزراء، مثيراً سواء من ناحية المواضيع التي تطرق اليها، أو من ناحية الرد على الحملات الاعلامية التي ما انفكت تستهدف حكومته. ففي معرض الرد على خصومه تساءل رئيس الحكومة في خطابه: "يقولون انني انوي الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة فهل في ذلك من عيب؟ أليس طموح اي سياسي ان يخوض غمار هذه الانتخابات؟". هذه الصراحة جعلت المراقبين يميلون الى الاعتقاد بأن رئيس الحكومة قد يكون المرشح الفعلي للنظام في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد ثلاث سنوات، خصوصاً ان هذا التصريح تزامن مع تصريح آخر لعضو في المجلس الاعلى للدولة ذكر فيه ان اعضاء المجلس الخمسة ما زالوا ملتزمين العهد الذي قطعوه على انفسهم غداة اغتيال الرئيس بوضياف، اي انهم عازمون على عدم ترشيح انفسهم في الانتخابات. لكن سؤالاً ظل يحير المراقبين: هل اعلن عبدالسلام ترشيح نفسه بالتنسيق مع المجلس الأعلى للدولة والمؤسسة العسكرية، ام اراد ان يضع هاتين المؤسستين امام الأمر الواقع؟ هذا الانطباع الذي تركه خطاب عبدالسلام، ضخمته صحافة المعارضة الشيوعية العلمانية الى درجة ان احدى الصحف الصباحية كتبت بخط عريض: "عبدالسلام يعلن التمرد على المجلس الاعلى للدولة". علاقة جديدة ان حل هذا الالتباس يقتضي التذكير بمسألة مهمة هي ان العلاقة بين المؤسسة الرئاسية ورئيس الحكومة علاقة جديدة لا تزال في طور التبلور وتخضع لميزان قوى معين، الى حد ما، وحتى للظروف في بعض الاحيان. فقد استحدث منصب رئيس الحكومة، في اطار الاصلاحات السياسية التي اعقبت احداث تشرين الأول اكتوبر 1988، وكرسها استفتاء شعبي في 3 تشرين الثاني نوفمبر التالي. وحددت هذه الاصلاحات العلاقة بين الرئيس والحكومة والبرلمان بكل وضوح: فالرئيس "يعين رئيس الحكومة وينهي مهامه"، ويقدم الاخير برنامج حكومته الى المجلس الشعبي الوطني للموافقة علىه. وتعد الحكومة بياناً سنوياً يتضمن برنامجها وتعرضه على المجلس ليناقشه، ويمكن المجلس ان يختم المناقشة باصدار لائحة. ويمكن رئيس الحكومة ايضاً ان يطلب من المجلس اقتراعاً على الثقة. وثبت دستور 23 شباط فبراير 1989 هذه الاصلاحات بحذافيرها. مرباح وحمروش وغزالي لكن السياق السياسي المتأزم الذي أُقرت فيه الاصلاحات، وضعف موقع الرئيس الشاذلي بن جديد غداة احداث تشرين الأول التي كادت ان تعصف به، وتعيين السيد قاصدي مرباح على رأس الحكومة، وهو شخصية طموحة وقوية، نظراً الى ماضيها الطويل على رأس الاستخبارات الجزائرية الامن العسكري، كل هذه العوامل اثرت سلباً في مستقبل العلاقة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. السيد قاصدي مرباح اصبح يرى ان الاحداث هي التي عادت به الى الواجهة، ولم يكن الرئيس بن جديد سوى المنفذ لمشيئة الاحداث، لذا عندما انهى رئيس الجمهورية مهماته في ايلول سبتمبر 1989، سارع مرباح الى رفض القرار، بدعوى ان البرلمان هو الهيئة الوحيدة المؤهلة لاسقاط الحكومة، وان الشعب غير راض عن قرار رئيس الجمهورية. اما الرئيس الشاذلي ففسر قراره بقوله: "كلفنا مرباح الامور التنفيذية فانشغل عنها بالسياسة". وتكررت المشكلة مع السيد مولود حمروش الذي فهم تعيينه رئيساً للحكومة كاستخلاف ضمني لبن جديد، فراح يهيىء نفسه لمعركة الرئاسة على هذا الأساس. ولكن جاء عصيان الجبهة الاسلامية للانقاذ في 25 أيار مايو 1991، ليؤجل طموح حمروش الى اجل غير مسمّى. وجاء السيد سيد احمد غزالي بعد حمروش، فعمق سوء التفاهم الذي ما انفك يعتري العلاقة بين الرئاسة والحكومة. ففي ظل الرئيس الشاذلي راح غزالي يوهم بأن الجيش يدعمه، وبناء عليه كان كثيراً ما يردد انه "ليس مجرد وزير داخلية"، ملمحاً بذلك الى مهمة اعداد الانتخابات النيابية - الأولى في عهد التعددية - التي كان يعد بأن تكون "نزيهة ونظيفة". فاذا به يصرح بعد نتائج الدورة الأولى التي اعطت 188 مقعداً للجبهة الاسلامية للانقاذ من اصل 440 مقعداً، بأنها "لم تكن نزيهة ولا نظيفة"! وفي ظل الرئيس بوضياف راح انصار غزالي يشيعون بأنه مرشح النظام للانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد نهاية مهمة الرئيس بوضياف والمجلس الأعلى للدولة اواخر 1993. وعندما جيء بالسيد عبدالسلام بلعيد، غداة اغتيال الرئيس بوضياف قبل سنة خلت، كان معظم المراقبين يتوقع ان تكون شخصيته القوية سبباً في مشاكل اكيدة مع المجلس الأعلى للدولة الذي يعيب على عبدالسلام ما عابه الشاذلي على مرباح: الانشغال بالسياسة بدل معالجة الازمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة. وكان من جراء ذلك ان أدى تدخله في حقول السياسة المزروعة بالالغام الى التشويش على مشاريع الرئيس كافي ورفاقه، بدءاً بمشروع الحوار الوطني الذي كان المجلس يعقد عليه آمالاً كبيرة لحل الجانب السياسي من الازمة الحالية. وفي 11 شباط فبراير الماضي، قبل دخول "الحوار الوطني" مرحلته الثانية والحاسمة، القى رئيس الحكومة خطاباً، تناول فيه موضوع الاحزاب بكثير من "الازدراء" ولم يكتف بالقول ان هذه الاحزاب لا تمثل شيئاً، بل ذهب الى حد تحريض القواعد على القيادات. ووصف اطراف المعارضة الشيوعية العلمانية التي تهيمن على قطاع واسع من الاعلام الخاص والعام بپ"الاندماجيين"، في اشارة الى دعاة الاندماج بفرنسا ابان الاحتلال، وهم طائفة من النخبة، بينهم شخصيات مشهورة مثل فرحات عباس اول رئيس لحكومة الثورة الجزائرية في المهجر. وهذا ما يفسر الحملات المتتالية على حكومة عبدالسلام، من اعلام المعارضة اليسارية، وهو الاعلام الذي "أسقط" الحكومة مرتين: الأولى بالتبعية، اي بسقوط المجلس الاعلى للدولة نفسه، وذلك في مناسبة عيد الفطر الماضي، عندما فسر بعض الصحف اليسارية غياب الرئيس كافي عن صلاة العيد بأنه تغييب وتمهيد لتسلم اللواء خالد نزار وزير الدفاع آنذاك مقاليد السلطة مباشرة، حسب رغبة الحزب الشيوعي و"التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية"، ذي الغالبية البربرية. والمرة الثانية في اواخر حزيران يونيو الماضي، بناء على غياب رئيس الحكومة عن استقبال الرئيس كافي العائد من القمة الافريقية التاسعة والعشرين في القاهرة. الحكومة مرشحة للتغيير ويذكر في هذا السياق ان المشروع التمهيدي لأرضية الاجماع الوطني ينص صراحة على تشكيل "حكومة انتقالية" لادارة المرحلة الانتقالية، بدءاً من مطلع العام المقبل. فالحكومة الحالية اذن مرشحة للتغيير، في سياق مسلسل الاصلاحات الجارية التي انطلقت رسمياً بتخلي اللواء خالد نزار عن وزارة الدفاع. وقد تزامن التغيير الطارئ على رأس الجيش مع صدور بيان في الثامن من تموز يوليو الماضي عن رئيس الحكومة، فسره المراقبون بأنه ثمن بقاء السيد عبدالسلام على رأس الحكومة حتى نهاية العام الجاري، ومضمون البيان تعهد صريح لأمرين: - التفرغ الكلي للمهمات الحكومية التنفيذية. - عدم ترشيح نفسه لأية انتخابات محتملة في المستقبل. وفسر رئيس الحكومة ما بدر منه في 23 حزيران الماضي امام كوادر ولاية العاصمة - حيث ترك في خطابه انطباعاً واضحاً أنه يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية - بأنه مجرد توضيح "ان الطموح السياسي هو امر طبيعي لدى كل رجل سياسي، وعليه فان الترشيح لمهمة انتخابية لا يمكن اعتباره مفارقة ولا عيباً". ان هذا التوضيح الذي ربما جاء نتيجة ضغوط قوية على رئيس الحكومة، يحسم الموقف لمصلحة المجلس الأعلى للدولة، والمؤسسة الرئاسية التي تخلفه بدءاً من العام المقبل. اذ يفترض ان يضع الحكومة عند حدها الذي رسمته لها المؤسسة الرئاسية، ومن شأن ذلك ان يزيل سوء التفاهم بين الهيئتين منذ احداث تشرين الأول 1988. وفي تزامن هذا التوضيح مع اشارة التغيير التي اعطاها اللواء خالد نزار، دلالة صريحة على أن قطار التغيير يسير في اتجاه محطات جديدة، اي في اتجاه معاكس لمحطات عبدالسلام وغيره من اقطاب السبعينات.