على الرغم من التجربة الفتية للاعلام الجزائري على الصعد المرئية والمسموعة والمكتوبة، فانها بلا شك عرفت نجاحا اخاف الكثيرين من الذين لا يحبون الحرية، لذلك اعلنت الحرب على العاملين في حقلها فقتل أكثر من صحافي وإعلامي وكاتب. التحقيق الآتي يسلط الضوء على هذه التجربة الاعلامية وبخاصة المكتوبة منها. واكبت التجربة الديموقراطية في الجزائر تجربة اعلامية متميزة بحيويتها النادرة، وباندفاعها الذي يتجاوز في كثير من الاحيان حدود الاثارة الاعلامية وقواعد المهنة وأخلاقياتها. وكثيراً ما يواسي الحكام انفسهم - أمام هذه التجاوزات والحملات الدورية التي يتعرضون لها! - بعبارات استسلام مثل: "حداثة التجربة"! او غلبة عنصر الشباب في العناوين الصحافية الجديدة" وما الى ذلك من التبريرات! والواقع ان التجربة الاعلامية الجديدة في الجزائر تلقت تشجيعاً قوياً منذ نشأتها من حكومة حمروش التي اصدرت في 19 آذار مارس 1990 مذكرة كانت بمثابة شهادة ميلاد لمختلف العناوين الجديدة، عمومية كانت ام خاصة، مستقلة كانت ام حزبية. ومن اهم ما جاء في هذه المذكرة: تمكين الصحافيين العاملين في اعلام الدولة من خوض مغامرة صحافية جديدة، سواء في الصحافة الخاصة او الصحافة الحزبية، مقابل دفع مسبق لرواتب سنتين، تحولها الخزينة مباشرة الى المؤسسات الاعلامية التي تنشئها المجموعات الصحافية المختلفة. وفي غياب وزارة الاعلام * اسندت مهمة الاشراف على مساعدة ودعم التجربة الجديدة الى "لجنة متابعة"، برئاسة وزير العمل والشؤون الاجتماعية 1 محمد غريب. وغطى تدخل لجنة المتابعة جوانب كثيرة اهمها: أ - اعداد دراسة تقنية اقتصادية لصحيفة نموذجية. ب - مساعدة المؤسسات الجديدة لدى البنوك، لمدها بما تحتاج من قروض لاقتناء الحد الادنى الضروري من التجهيزات. ت - التدخل لدى الخزينة لكي تسارع بدفع رواتب سنتين مسبقاً وصب المبلغ في رصيد المؤسسات الاعلامية الوليدة حسب اهمية عدد الصحافيين الذين يؤسسونها. التجربة في بدايتها سنة 1990 كانت تقوم على اربع صحف يومية: ALGER REPUBLICAN التي عادت الى الظهور، وكانت قبل الاستقلال لسان حال الحزب الشيوعي الجزائري. وكانت توقفت سنة 1964 بعد ان قرر الرئيس بن بيلا آنذاك حل الحزب الشيوعي، في اطار تكريس "جبهة التحرير الوطني" رائدة الحركة الاستقلالية كحزب وحيد في الجزائر. وهذه الصحيفة هي لسان "حزب الطليعة الاشتراكية" بقيادة عبدالحميد بن زين والهاشمي الشريف، وان كانت تحاول ان تنفي عن نفسها هذه الصفة، على اساس ان لهذا الحزب لساناً آخر تحت عنوان "صوت الشعب"! 2 - EL - WATAN وتضم ائتلافاً غير متجانس من الناحية السياسية والمذهبية. وأغلب صحافييها جاؤوا من صحيفة المجاهد اليومية 2 وتعتبر الكتلة الشيوعية البربرية انشط كتلة في المجموعة. 3 - LE SOIR D'ALGERIE وهي صحيفة مسائية خفيفة، تهتم بأخبار المحاكم وتوظف الاثارة الجنسية، وان كانت تحمل لواء العلمانية اسوة بسابقتيها. ومعظم عناصرها جاء من صحيفة "HORISONS" المسائية الحكومية. 4 - "الخبر" وهي الصحيفة الوحيدة بالعربية! وان كان مؤسسها صحافياً يكتب الفرنسية اصلاً، وكان مراسلاً سابقاً لوكالة الانباء الفرنسية في الجزائر! هذه الموجة الأولى من العناوين التي رأت النور تحت رعاية حكومة حمروش، تحمل بوادر تغيير لصالح اللغة الفرنسية، بعدما كان الوضع السابق على مستوى الاعلام الحكومي المكتوب كما يلي: ع - يوميات بالعربية هي الشعب، والمساء، والنصر، والجمهورية. - يوميتان بالفرنسية هما: HORISONS & EL - MOUDJAHID والجدير بالملاحظة في هذا الصدد ان رواد الصحافة العربية في الجزائر احجموا عن خوض غمار التجربة الاعلامية الجديدة بسبب عميق اقتناعهم بأن الجهاز التنفيذي ميال بحكم تكوينه اللغوي الى العناوين الصادرة بالفرنسية، وأن هذا الميل الغالب لن يلبث ان يعبر عن نفسه بقوة عبر نافذتي المعلومات والاعلانات! هذا الاقتناع سرعان ما تأكد من خلال المفارقة التالية: - حصة صحيفة خاصة مثل "EL - WATAN" من الاعلانات العمومية لا تقل عن عشر صفحات يومياً! بينما حصة صحيفة "السلام" العمومية من اعلانات مرافق الدولة ومؤسساتها لم تتعدَّ الصفحة الواحدة في اليوم! على الرغم من ان القوانين تلزم المعلنين النشر باللغة العربية اولاً! وقد تعمقت الانطلاقة الأولى لفائدة اليوميات بالفرنسية التي اصبحت تشكل اليوم 73 في المئة، مقابل 27 في المئة لنظيراتها الصادرة بالعربية. اختلال سياسي هذا الاختلال اللغوي تبعه اختلال سياسي اخطر من حيث انعكاساته المباشرة على التجربة الديموقراطية. وأخطر ما في هذا الاختلال السياسي ان حزبين متطرفين هما "حزب الطليعة الاشتراكية" الحزب الشيوعي الجزائري سابقاً و"التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية" علماني بربري، لا يمثلان معاً اكثر من 3 في المئة من الناخبين، يسيطران على مواقع اعلامية تفوق حجمهما بكثير. فحزب الطليعة الاشتراكية يملك "ALGER REPUBLICAN" و LE MATIN التي اسسها مدير تحرير سابق للصحيفة الأولى. وينشط بكل حرية في كل من يومية EL WATAN وأسبوعية L'HEBDO - LIBERE بفضل عناصر موالية له في كلتيهما، اضافة الى مواقعه القوية في الاعلام العمومي لا سيما في القناة الاذاعية الثالثة، والتلفزة ووكالة الانباء الجزائرية! ويملك حزب التجمع - بواسطة رجل اعماله يسعد ربراب - صحيفة LIBERTE وأسبوعية RUPTURES التي اغتيل رئيس تحريرها في حزيران يونيو الماضي السيد الطاهر جعوط. وقد بسط نفوذه في الآونة الاخيرة على صحيفة "الخبر". وتبرز خطورة هذا الاختلال اكثر عندما نعرف ان تيارات سياسية هامة في المجتمع لا تملك يومية واحدة! فالجبهة الاسلامية للانقاذ التي فازت في الانتخابات المحلية في حزيران يونيو 1990 والدور الأول من الانتخابات النيابية في كانون الأول ديسمبر 1991، لم تكن تملك سوى اسبوعية واحدة هي "المنقذ" التي عصفت بها رياح "العصيان المدني" في ايار مايو - وحزيران يونيو من العام نفسه. وقد عوضت بأسبوعية "البلاغ" التي ما لبثت ان لقيت المصير نفسه في اعقاب قرار حل الجبهة الاسلامية في آذار مارس 1992. ولا تملك حركة "حماس" التي يتزعمها الشيخ نحناح سوى اسبوعية واحدة هي "النبأ"، رغم انها من انشط الحركات الاسلامية الآن. والتيار الوطني بدوره ليس اسعد حالاً من التيار الاسلامي. فجبهة التحرير الوطني، لم تعد تملك الآن سوى اسبوعيتين هما المجاهد وREVOLUTION AFRICAINE. كانت حكومة حمروش في بداية التجربة التعددية الاعلامية تنازلت لجبهة التحرير عن يوميتي "الشعب" و ELMOUDJAHID اللتين كان السيد عبدالحميد مهري الامين العام للجبهة يطالب بهما استناداً الى قرار التأسيس الصادر عن المكتب السياسي للجبهة في 1962 و1964. لكن حكومة غزالي بعدها اعادت النظر في قرار التنازل، بعد ان تحولت يومية الشعب بصفة خاصة الى منبر خطير لمناهضة كل من الرئيس بوضياف ورئيس حكومته. وهكذا استعادت حكومة غزالي اليوميتين في ربيع 1992. وحذت حذوها حكومة السيد عبدالسلام التي جردت جبهة التحرير من شبكة المطابع التي في حوزتها، بعدما جردتها من مقراتها بدءاً بقصر زيغود يوسف المقر الرئيسي للجبهة. وعلقت حكومة عبدالسلام صدور يومية "الجزائر اليوم" المحسوبة على جماعة حمروش في جبهة التحرير، وان كانت تجسد في حقيقة الامر نوعاً من التحالف الوطني الاسلامي في ميدان التجربة الاعلامية. صراع دائم مع الحكومات وهناك ظاهرة ثالثة - الى جانب الاختلال اللغوي والسياسي - في التجربة الاعلامية الجزائرية وهي غلبة الطابع العدائي للحكومات فيها. وهذه الظاهرة لازمت التجربة وهي ما تزال في المستوى الاختباري! بعد 4 اشهر فقط على تشكيل حكومة مرباح، غداة احداث تشرين الأول اكتوبر 1988 والاصلاحات السياسية التي أعقبتها، تعرضت الى حملة اعلامية منظمة شارك فيها الاعلام العمومي بما في ذلك التلفزة المحلية، والاعلام الحزبي الذي كان محصوراً يومئذ في اعلام جبهة تحرير الحزب الحاكم. وفهم الجميع يومئذ بأن رئاسة الجمهورية هي التي كانت وراء الحملة التي تلتها حملات، كانت تستهدف جميعاً ارباك حكومة مرباح واجبار رئيسها على تقديم استقالته. وكان منسق هذه الحملة الامين العام لرئاسة الجمهورية نفسه الذي لم يكن سوى مولود حمروش الذي ما لبث ان عينه الرئيس الشاذلي خلفاً لمرباح في ايلول سبتمبر 1989! هذه السابقة ادت الى انقسام الصحافيين الى "قبيلتين" اشتهرتا في الاوساط الاعلامية بقبيلة "الحمارشة" و"قبيلة المرابحة" نسبة الى حمروش ومرباح!! وعندما استتب الامر لحمروش في قصر الحكومة، كان من الطبيعي جداً ان يجني بعض الذي زرع! لذا دخل في مواجهة مكشوفة مع اول اسبوعية مستقلة LE NOUVEL - HEBDO التي اسسها رجل اعمال معروف يدعى سوفي بالاشتراك مع "صحافي اعمال" معروف كذلك هو كمال بالقاسم المدير السابق لاسبوعية ALGERIE ACTDALITES الحكومية. واشتهرت هذه الاسبوعية الجديدة برسم كاريكاتوري، يرمز الى رئيس الحكومة وهو يحمل المظلة اشارة الى عمل حمروش سابقاً في قسم التشريفات في رئاسة الجمهورية، حيث كان يحمل احياناً مظلة الرئيس الراحل هواري بومدين وأحياناً لا يتحرج - بحكم عمله طبعاً! - من اشعال سيجاره الكوبي امام الملأ! وكان رد حمروش فورياً، بواسطة مصالح الضرائب والجمارك التي راجعت معاملات رجل الاعمال سوفي فكشفت فيها مخالفات عدة، ووجد المعني نفسه بموجبها في قفص الاتهام! وصُدم الرجل بهذه المفاجأة غير السارة، حتى انه اصيب بنوبة قلبية! وعندما تماثل الى الشفاء كان اول قرار اتخذه هو التخلي عن شريكه كمال بالقاسم! وتميز حمروش بأنه اول رئيس حكومة يعين اصدقاءه من الصحافيين على رأس اهم المؤسسات الاعلامية، بدءاً بمؤسسة التلفزة ووكالة الانباء والجزائرية وأسبوعية ALGERIE ACTUALITES آنفة الذكر... وعندما جاء غزالي خلفاً لحمروش بعد احداث "العصيان المدني" الذي شنته الجبهة الاسلامية للانقاذ اواخر ايار مايو وبداية حزيران يونيو 1991، وجد الساحة الاعلامية ملغومة. لذا بمجرد انطلاق الحملات الاولى عليه راح يشير بأصابع الاتهام الى حمروش الذي اعتصم بموقعه في المكتب السياسي لجبهة التحرير، متسبباً بذلك في تدهور العلاقات بين الجبهة والحكومة الى حد كبير. وقد دفعه ذلك كما سبقت الاشارة الى استعادة صحيفتي "الشعب" و"المجاهد" من جبهة التحرير. وقد تكاثرت الحملات الاعلامية على غزالي الذي الصقت به اسبوعية "الصح... آمنة" لقب "ابو فراشة"، حتى أصيب بنوع من الهوس! فأصبح يرى ايادي حمروش او خصومه السياسيين وراء كل خبر ينشر او مقال يكتب وفيه ذكر للحكومة! عبدالسلام يخرق الهدنة! وجاءت حكومة عبدالسلام بعد اغتيال بوضياف فاستفادت من هدنة اعلامية استغرقت اكثر من 6 اشهر. وما لبثت ان خرقت لسببين اساسيين: 1 - تشكيل لجنة خاصة تنظر في طلبات رجال الاعمال من العملة الصعبة وتشرف على توزيع المبالغ المخصصة لهم حسب اولويات وشروط صارمة. 2 - التهجم على الاحزاب في خطاب طويل القاه يوم 11 شباط فبراير الماضي واستفزازه الصريح للتحالف الشيوعي البربري الذي يحتل مواقع هامة في المنظومة الاعلامية تفوق بكثير حجمه المتواضع جداً في الساحة السياسية. فقد وصف في خطاب هذا التحالف النشيط جداً على الجبهة الاعلامية بپ"العلماني الاندماجي"! وتعتبر هذه العبارة في السياق الجزائري مرادفاً تقريباً لاتهام الاسلاميين المتطرفين لخصومهم "بالالحاد والخيانة"! وكانت هذه العبارة بمثابة القطرة التي افاضت الكأس، وليست مصادفة ان تتذرع "مطبعة الوسط" الحكومية بالورقة التجارية لوقف سحب يوميتي LE MATIN ET LIBERTE أهم منابر التحالف الشيوعي البربري. وبقدر ما تؤكد مثل هذه الظواهر حيوية التجربة الاعلامية الجديدة في الجزائر التي استطاعت في ظرف قصير ان تحطم العديد من "الطابوهات" وحواجز الرقابة الذاتية، بقدر ما تبين من جهة اخرى نقاط ضعف هذه التجربة التي يمكن ان تنوء وتتعثر تحت وطأة التحديات الضخمة التي تحملها او تواجهها... * حذف حمروش وزارة الاعلام والثقافة لكنها عادت في حكومة غزالي 1 - هذه الوزارة وكر تقليدي للشيوعيين بالجزائر 2 - غير المجاهد الاسبوعية الصادرة بالعربية وهي تابعة اصلاً لجبهة التحرير