من المرجح أن تكون عملية الرقص في الظلام أو ما يعرف بمحادثات واشنطن أصبحت في حكم المنتهية الآن. إذ أن المفاوضات الوهمية التي جرت في واشنطن طوال سنة ونصف سنة تجاوزت كما يقول المشاركون الرئيسيون فيها نطاقها المفيد، ولم تعد ذات علاقة برأي واشنطن في التحديات الأساسية التي تواجه المنطقة هذه الأيام. فالفراغ الديبلوماسي الذي نجم عن الانحسار المستمر لأهمية إطار المفاوضات الذي وضعه وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر امتلأ الى حد ما بقنوات أخرى تنطوي على فوائد أكبر، من الحوار العربي - الاسرائيلي. ويبدو أن هناك قناة ثانية مباشرة بدأت بين الاسرائيليين ومسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية. ومن المقرر أن تشرع الولاياتالمتحدة في جولة من الديبلوماسية المكوكية في الشرق الأوسط خلال شهر تموز يوليو الحالي. وستستمر عملية تطوير مسيرة مدريد ما دامت اسرائيل وسورية تنتهجان سياسة تستثني الحرب. إذ أن كلا الدولتين لا تريدان انهيار مفاوضات السلام لأن انهيارها سيعجّل تحول الشرق الأوسط الى منطقة نووية. فبعد حرب الخليج كانت هناك ضرورتان متناقضتان حددتا خط الديبلوماسية الأميركية تجاه النزاع العربي - الاسرائيلي: أولاً، التزام أميركا الذي قطعته لحلفائها العرب أثناء الحرب ببذل جهد فعلي للشروع في "عملية سلام". وثانياً قدرة اسرائيل على استغلال موقفها أثناء الحرب ضد العراق كوسيلة للضغط السياسي من أجل إحباط المساعي التي بذلتها دول التحالف العربية لدى أميركا، وبالتالي من أجل إجبار أميركا على تنسيق ديبلوماسيتها بعد الحرب مع اسرائيل. وكانت المبادرة الأميركية التي طرحت اطار مدريد محدودة لأنها كانت تهدف صراحة الى التوسط بين العرب والاسرائيليين غير الراغبين في التفاوض. وكانت صيغة مدريد تنطوي بالنسبة الى المتحمسين اليها خصوصاً في العالم العربي، على امكان استخدام قوة أميركا التي ليس لها منازع في الضغط من أجل فرض تسوية أو التوسط لتحقيق تسوية. لكن المرء ليس في حاجة الى الإيمان بالسلام من أجل الانهماك في ديبلوماسية من ذلك النوع الذي تسير عليه واشنطن منذ آذار مارس 1991، وانما يكفي أن تكون لديه الرغبة في تأجيل أو منع حدوث مواجهة حربية ونزع فتيل أزمة بين سورية واسرائيل يمكن أن تنطوي على احتمال استخدام أسلحة غير تقليدية. وفي هذا الصدد يقول الجنرال هيرزل بودينغر قائد الطيران الاسرائيلي "ان أي حرب تحدث في هذه المنطقة وتستخدم الأسلحة النووية يمكن أن تتطور في ما بعد الى حرب عالمية". ومنذ حرب الخليج تطورت بواعث القلق الأميركية تطوراً يعكس تلك البواعث التي تعرب عنها اسرائيل. فسياسة "الاحتواء المزدوج" للعراق وايران وهي السياسة التي وضعها المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي مارتن انديك تعطي دليلاً جلياً على أولويات واشنطن في المنطقة. وينعكس التحدي الذي يلوح في الأفق من ظهور إيران النووية في البيان الأخير الذي أصدره الجنرال جوزيف هور مدير القيادة المركزية الأميركية وقال فيه: "إن ايران ربما أصبحت على المدى البعيد أعظم خطر منفرد على السلام والاستقرار في المنطقة". وهكذا نجحت محادثات مدريد تبعاً للمعيار الذي وضعته واشنطن لها، أي أنها منعت امكان نشوب حرب سورية - اسرائيلية جديدة. إذ خرج المسؤولون الأميركيون بنتيجة مفادها ان سورية ليس لديها خيار عسكري ضد اسرائيل وأن اسرائيل على رغم تفوقها العسكري الكبير لن تبدأ حرباً ضد سورية. وهذا هو المعنى الحقيقي للخطاب الذي ألقاه وزير الدفاع الأميركي ليس اسبن في الخامس عشر من حزيران يونيو الماضي حين أعلن ان "اسرائيل تتمتع بتفوق عسكري واضح على أي عدو محتمل أو تحالف محتمل من الأعداء... والواقع انه لم يسبق لاسرائيل وان كانت في وضع أكثر أمناً على الاطلاق". انطلاقاً من هذا التقويم لا ترى واشنطن ان هناك فائدة استراتيجية في إجبار حليفتها اسرائيل على قبول جدول أعمال دولة سورية لا تزال قيادتها متحالفة مع إيران ولا تزال على استعداد لمقاومة القوة أو السلطة الأميركية، أو اجبارها على قبول ما يفضله المتحالفون العرب الأضعف مثل الأردن و منظمة التحرير. كما أنها ليست على استعداد لربط المساعدات الأميركية لاسرائيل بتقديم تل أبيب تنازلات في مسألة استعمار الأراضي المحتلة. وتعتقد إدارة كلينتون بأن ايران باسلامها المتطرف هي الخطر الأساسي على المصالح الأميركية والعربية في المنطقة، وليس ما يحدث من تطورات على الساحة العربية - الاسرائيلية. ولهذا نجد أن هناك تعاوناً مضطرداً بين واشنطن وتل أبيب في هذا المجال. إذ كتب صحافي اسرائيلي أخيراً يقول: "إن هناك أشياء تحدث في مجالات لا تغطيها وسائل الاعلام. ذلك ان هناك جهوداً مشتركة تبذل لسد الطريق أمام الارهاب الايراني، ولاحباط المساعي التي يبذلها الايرانيونوالعراقيون لتسليح أنفسهم بالصواريخ والأسلحة النووية. وقد وصلت هذه الجهود المشتركة الى مرحلة متقدمة جداً". هذه الأولوية الجديدة للاستراتيجية الأميركية - الاسرائيلية المشتركة تطغى من نواح عدة على بواعث القلق الأميركي من احتمال نشوب حرب عربية - اسرائيلية، مما يعني بالتالي غياب الحافز الأميركي على الاهتمام الحقيقي باستمرار صيغة مدريد. والواقع ان حكومة اسحق رابين لم تكن راضية إطلاقاً عن اطار المفاوضات الذي ورثته. إذ أن رابين يفضل التعامل في صورة منفصلة مع الفلسطينيين واستثناء سورية كلياً من المفاوضات. وتؤكد الأنباء الواردة من اسرائيل ان الحكومة هناك بدأت فعلاً قناة ثانية للتفاوض المباشر مع كبار مسؤولي منظمة التحرير، وان هذه المفاوضات تجري تحت رعاية الولاياتالمتحدة في القاهرة وبعض العواصم الأوروبية. ويقال إن أبو مازن ونبيل شعث وفيصل الحسيني عقدوا محادثات مع كبار المسؤولين الاسرائيليين الذين عقدوا العزم على التوصل الى اتفاقات منفصلة مع كل طرف من الأطراف العربية على حدة. وحاول رابين من دون جدوى بدء حوار من خلال قناة ثانية عالية المستوى مع السوريين الذين رفضوا ذلك. وفي الواقع بدأت فكرة المفاوضات الثنائية تبعاً لصيغة مدريد تنهار في الجولة التاسعة عندما قدم الأميركيون وثيقة لتضييق هوة الخلاف على المسار الفلسطيني - الاسرائيلي. وخلال الجولة العاشرة طغت المفاوضات المنفصلة التي أجراها كل وفد مع مساعدي وزير الخارجية الأميركي على المحادثات الاسرائيلية - الفلسطينية الثنائية الى درجة كبيرة. وكان العرب سيبتهجون بهذا التدخل الأميركي لو أنه حدث تبعاً لأفضلياتهم. إلا أن ما حدث هو أن واشنطن مارست ما تسميه دور "الشريك الكامل" في المسارين الفلسطيني والسوري طبقاً لجدول أعمال اسرائيل نفسها. من ذلك مثلاً يقال إن الرسالة التي بعث بها كلينتون الى الرئيس السوري حافظ الأسد تطلب من سورية ان تقدم تعريفاً لمفهوم "السلام الكامل". كما ان انديك أعلن صراحة انه "يجب على السوريين أن يظهروا استعداداً ورغبة في إلزام أنفسهم سلاماً حقيقياً مع اسرائيل بكل ما يعنيه ذلك من انهاء الصراع وتطبيع العلاقات وفتح الحدود وافتتاح السفارات وإقامة علاقات تجارية". يضاف الى ذلك ان الديبلوماسية المكوكية التي سيشرع فيها المبعوث الجديد الى الشرق الأوسط دنيس روس ووزير الخارجية وارن كريستوفر بهدف رفع مستوى الحوار ستطغى على إطار مدريد للمفاوضات الثنائية. وليس هناك أحد يندب صيغة مدريد. إذ تحدث رئيس الوفد السوري موفق العلاف عن تحبيذه "أي تغيير يجعل إحلال سلام عادل وشامل مسألة أولوية ملحة". أما نظيره الاسرائيلي ايتمار رابينوفيتش فتحدث بارتياح عن زيادة المشاركة الأميركية، وأشار الى أن اسرائيل كثيراً ما فضلت اجراء المحادثات على مستوى وزراء الخارجية. لكن كريستوفر نفسه قال إن ادارة كلينتون "لن تغمض عينيها عن أي اقتراح تقدمه الأطراف... فإذا كان هناك ما سيزيل العوائق الحالية فاننا نود بالطبع التعاون مع ذلك". وهكذا فإن الديبلوماسية الأميركية الجديدة تجاه الصراع العربي - الاسرائيلي ستتجسد في جولة من الديبلوماسية المكوكية ومحادثات القنوات الخلفية. أما إذا كان هذا الأسلوب الجديد سيكفي لإزالة تلك العوائق التي يتحدث عنها كريستوفر فهذه مسألة غير أكيدة.