* الزعماء والعباقرة "مخهم طاقق"... ولا يظهرون في الزحام ! * الغناء كالعملة، كانت في السابق ذهباً فصارت الآن ورقاً * إذا دعتك قدرتك الى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك محمد عبدالوهاب بقلم محمد عبدالوهاب، هكذا يمكن اختصار مضمون الأوراق الخاصة للفنان الراحل الكبير محمد عبدالوهاب التي تنشرها "الوسط" على حلقات. هذه الأوراق لم تنشر من قبل إذ لم يكن عبدالوهاب راغباً في أن يطلع عليها أحد طوال حياته، وهي بخط يده. وقد أوصى عبدالوهاب زوجته السيدة نهلة القدسي بتسليم هذه الأوراق الى الكاتب والشاعر المصري المعروف فاروق جويدة الذي أمضى أشهراً طويلة في قراءتها وجمعها وترتيبها وإعدادها للنشر. وتكتسب هذه الأوراق أهمية خاصة إذ أنها تكشف جوانب حميمة وغير معروفة من حياة موسيقار الجيل كما تكشف آراءه في الناس والمشاهير والحياة ومصر والعالم العربي والفن والمرأة والحب وأمور أخرى ستفاجئ الكثيرين من محبي فنه. "الوسط" اتفقت مع الكاتب فاروق جويدة على نشر جزء كبير من هذه الأوراق الخاصة. ويقضي الاتفاق بأن تنفرد "الوسط" وحدها دون أية مطبوعة عربية أو أجنبية أخرى بنشر هذا الجزء من الأوراق الخاصة وعلى حلقات. وفي ما يأتي الحلقة السادسة: يلتحق الفنان بالمعاهد لينهل منها العلم والفن وييسر له ذلك الاغتراف من الفن قديمه وحديثه حتى يستطيع ان يكون أهلاً لأن يصبح استاذاً ومعلماً. ومع ذلك فالمعاهد لا تعلمه أن يتطور، ولا تعلمه كيف يثور، ولا تعلمه كيف يشذّ على قاعدة ليصبح هذا الشذوذ مبدأ جديداً ومدرسة جديدة، لأن التطور والثورة على المألوف ينبعان من ذات الفنان ومن وجدانه الفني. أرسل فنان مبتدئ سيمفونية ألفها لبيتهوفن ليقول له رأيه فيها، واطلع عليها بيتهوفن وأرسل للفنان المبتدئ يقول له انها جيدة، ولكن يأخذ عليه ان في مكان ما من السيمفونية، حدده بيتهوفن، قد استعمل نوتة معينة ست مرات متتالية، الأمر الذي جعل بيتهوفن يشعر بالملل فأرسل له الفنان يقول له كيف تنتقدني على هذا وأنت استعملت في واحدة من سيمفونياتك نوتة واحدة "21" مرة متتالية. فأرسل له بيتهوفن يقول له: انني استعملت هذا وأنت قبلته، وأنت استعملت هذا وأنا لم أقبله. وفي تقديري ان العبقري كالشجرة التي تراها من بعيد... تراها شامخة باسقة، بجذعها الضخم المتين، مرتفعة بأغصانها وهي تتراقص في الهواء كراقصات الباليه، ولكن ما أن تصل اليها وتلتصق بها الا وتجد هذه الشجرة يحيط بجذعها النمل والحشرات. ثم تنظر الى غصونها تلعب عليها الغربان فتندم على انك لم تظل في مكانك بعيداً عنها لتنعم بصورتها الرائعة. هكذا العبقري نراه من بعيد مرتفعاً شامخاً كالشجرة، وننسى أنه انسان من الأرض بعيوبها وطينها، وان الذي يأتيه من أعلى من السماء هو من الله سبحانه وتعالى. والمعروف ان الماس يستخرج من الفحم. قطعة من الفحم ينضج بعضها أو بمعنى آخر "يستوي" بعضها فيصير ألماساً ويظل الباقي فحماً. هكذا رأس العبقري ما في داخله قطعة من الفحم استوى بعضها، وظل الباقي فحماً فكل ما يعطيه من روائع هو من قطعة الماس وكل ما يخرج منه من تفاهة وهيافة هو من الجزء الذي بقي فحماً. والزعماء والعباقرة سواء في السياسة أو العلم أو الفن "مخهم طاقق". السلوك في داخل أدمغتهم ملخبط، فوضوي. ومن هذه اللخبطة يأتون بالجديد والفريد، انهم يأخذون القرارات التي تغير ما ألفه الناس. اما المخ السليم الذي يحسبها "بالمللي" و"السنتي" لا يأتي بشيء جديد. وبحكم هذه الفوضى داخل أدمغتهم يأتون أحياناً بأشياء "هايفة"، فعلينا ان نتحملها ثمناً لما نأخذه منهم من أشياء خارقة. والعبقري كالأنهر، أو كالكواكب، لا يوجد في أي بلد من بلاد العالم أكثر من نهر أو نهرين. هكذا العبقريات تحاكي الطبيعة في عطائها المضيء، المبهر منها قليل. والفنان العبقري هو الذي يوصل بفنه للعالم ومضات بلاده الحضارية من أية حقبة يختارها ويتأثر بها. والعباقرة الذين تصبح أعمالهم دستوراً تهتدي به الأجيال، ويصبحون مدرسة ولهم رواد لا يحق لنا أن نسألهم كيف تعلموا، وماذا تعلموا فالمهم ما يتركون من أعمال تصبح نبراساً للنقاد والمريدين. وفي الحقيقة ان العبقرية لا تظهر في الزحام، بل يظهر النشالون. وفي رأيي ان فناناً موهوباً عشرين في المائة، وثمانين في المائة علم وهواية وممارسة وخبرة وخلق وسلوك يعيش أكثر من فنان موهبته ثمانون في المئة ولا شيء غير هذا عنده. الفنان الأول الموهوب عشرون في المائة وعنده العلم والهواية والممارسة والخبرة والخلق ربما زادت موهبته على مر الزمن لاحاطة موهبته بهذه المزايا الضرورية لصيانتها وتغذيتها لتنمو. أما المواهب من دون هذه المزايا تبهت مع الزمن ثم تختفي، فالموهبة التي تعيش في رأس مملوء بعلم وهواية وخبرة وثقافة تنمو وتزدهر وتكبر. أما الرأس الفارغ من العلم والخبرة والثقافة والهواية، فهو رأس مظلم لا تجد الموهبة فيه نوراً تتغذى به ولا تلبث أن تنطفئ. الخاطر العبقري والخاطر العبقري هو الذي يأتي من اللاشعور، أو هو عمل اللاشعور، واللاشعور لا يدفع بهذا الخاطر إلا في حالة الاسترخاء، ولذلك فإن يقظة الشعور هي عملية سجن وكبت للاشعور الذي يجيء عنه الخاطر العبقري. وعندما يطوف خاطر موسيقي في رأسي ألمحه كما تلمح المعنى من خلال الجمل. تماماً كما اسمع بيتاً من الشعر أفهم معناه، وعندما أريد ان استعيده لا أتذكره بقافيته بموسيقاه بتكوينه الكامل، ولكن أعرف معناه فقط. وهكذا الخاطر ألمحه وأحاول ان أجد له أول وآخر. ان أجد له تكوينا واضحاً وأحاول ان أقبض عليه كجملة كاملة، وكبيت كامل من الشعر، وأجد نفسي لا استطيع ذلك ولكن لا ألبث ان أجد شيئاً خفياً رفع غطاء صغيراً من مكان ما في رأسي لأعثر عليه شيئاً كاملاً له أول وله آخر وله تكوينه التام تماماً كالروح والجسد. فالروح اذا لم تدخل جسداً له حدود منسقة واضحة فإن الروح تظل معنى. وكذلك المعنى الذي يخطر على رأس شاعر ويظل معنى الى أن يهتدي الى القافية الى الوزن والى الموسيقى الشعرية ليضع فيه المعنى الذي خطر له فيصبح معنى وكياناً كالروح والجسد. وفي أغلب الاحيان وانا مع اصدقائي او في فندق او وأنا في سيارتي اخترق الشوارع او امر في جبال بوديانها وشموخها، وأرى الجداول وامر على الجسور، اشعر بشيء يدق في رأسي مستأذنا في الخروج، واحاول ان افتح له فلا استطيع لدرجة انني اشعر بالارهاق. وفي لحظة اجد هذا الذي يدق وقد فتحت له الباب على شيء ليست لي ارادة فيه. هذا الذي خرج من رأسي هو الخاطر الموسيقي يخرج كأنه قطعة من الماس عثر عليها منقب تحت الارض بفحمها وترابها وشوائبها، عند ذلك اجد نفسي مهرولاً مسرعاً نحو منزلي وكأني عاشق ولهان ذهب ليقابل حبيبته. اذهب الى غرفة نومي واغلقها سعيداً، وأبدأ في ازالة هذه الشوائب، وافكر كيف انتفع بها واستمتع وامتع. الخاطر هو الومضة التي لا تعرف تحضيراً ولا انفراداً، تجيء من الوجدان من الاحساس، واما الانتفاع بها كعمل فني فذلك يحتاج للتفكير والعلم والتأمل والانفراد. وعلمتني الحياة - الفن هو الشيء الذي يهزني ويمتعني من غير أن افكر لاول وهلة لماذا هزني ولماذا امتعني. - فن الغناء كالعملة، كانت في السابق ذهباً وفي الحاضر صارت ورقاً. - لا يمكنني أن استمع الى صوت جميل من فم قبيح، او ربما لا يوجد صوت جميل يخرج من فم قبيح. - اعط فنك كل شيء تأخذ منه كل شيء. - كان الجمهور في الماضي يستمع الى الغناء بآذانه واما في الحاضر فهو يستمع الى الغناء بأيديه وأرجله. - أنت عازف بارع لانك مستمع عظيم. - الفرق بين الاديب الناشر والاديب الشاعر، كالفرق بين حسناء تمشي وحسناء ترقص باليه. - هناك فنان يستفيد من فنه وفنان آخر يستفيد الفن منه، او بمعنى آخر هناك فنان الفن كسب له، وهناك فنان هو كسب للفن. - لا واقع من دون خيال، ولا خيال من دون واقع. انها الحياة خيال وواقع. - أحس بأن الفن شيء مجهول يتعقبني الى أن يصل اليّ فيطبق عليّ ولا يتركني حتى يعصرني. - عندما يبدأ الخاطر يتكون احس بشيء يتعقبني الى ان يطبق عليّ ولا يتركني حتى يعصرني. - العلم لا وطن له، اما الفن فله وطن، وكل وطن له فنه. - يجب أن يكون تطور موسيقانا من عندنا، من نبضنا، ولا ينبغي ان يكون التطور مستورداً. - ما يدخله الفنان في فنه حتى ولو كان من الغير مرهون بتذوق الجمهور له، فاذا الجمهور استساغها فلا نقد عليه، لأن وجودها من غير ان تكون معزولة عما ادخلت فيه تعطيها شرعية. - فرق بين موزع يضع ما عنده للميلودية وبين موزع آخر يضع ما تحتاج اليه الميلودية. نحن شعب له موسيقاه والتطور ينبع منها، فاذا وضع موزع لموسيقى عربية ما تعلمه من دون احساس يكون كمن يضع على الملوخية "كريم شانتيه". - الشك أول مراتب اليقين. - اذا دعتك قدرتك ان تظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك. - أعجبتني حكمة لسيدنا علي بن ابي طالب كرم الله وجهه يقول فيه المال في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة. - الومضات في الاعمال الفنية في الادب، في الشعر، في الموسيقى في أي خلق فني هو ما يسمونه ببيت القصيد في الشعر هي الملكات وما حولها من خواطر اخرى هي الوصيفات، فكل خاطر يضيء ملكة والوصيفات من حولها. - الموهبة تخلق الاستمرارية، لكن الاستمرارية لا تخلق الموهبة. - لا يمكن لي أن اذهب الى الخاطر، لكن الخاطر هو الذي يجيء اليّ. - العباقرة الذين تصبح أعمالهم دستوراً تهتدي به الاجيال ويصبحون مدرسة ولهم رواد ولا يحق لنا ان نسألهم كيف تعلموا، وماذا تعلموا، فالمهم ما يتركون من اعمال تصبح نبراساً ودراسة للنقاد والمريدين.