تنشر "الوسط" ابتداء من هذا العدد الأوراق الخاصة والسرية للفنان الراحل الكبير محمد عبدالوهاب، كتبها بخط يده. وهذه الأوراق لم تنشر من قبل، إذ لم يكن محمد عبدالوهاب راغباً في أن يطلع عليها أحد طوال حياته. وقد أوصى عبدالوهاب زوجته السيدة نهلة القدسي بتسليم هذه الاوراق الى الكاتب والشاعر المصري المعروف فاروق جويدة الذي أمضى أشهراً طويلة في قراءتها وجمعها وترتيبها وإعدادها للنشر. وتكتسب هذه الاوراق أهمية خاصة إذ انها تكشف جوانب حميمة وغير معروفة من حياة الفنان الكبير محمد عبدالوهاب كما تكشف آراءه في الناس والمشاهير والحياة ومصر والعالم العربي والفن والمرأة والحب وأمور أخرى كثيرة. "الوسط" اتفقت مع الكاتب فاروق جويدة على نشر جزء كبير من هذه الاوراق الخاصة ابتداء من هذا العدد ? ويقضي الاتفاق بأن تنفرد "الوسط" وحدها دون أية مطبوعة عربية أو أجنبية أخرى بنشر هذا الجزء من الأوراق الخاصة وعلى حلقات وفي ما يأتي الحلقة الأولى التي كتبها فاروق جويدة ويروي فيها قصته مع عبدالوهاب ومع هذه الأوراق. مازلت أذكر لقائي الأول مع الموسيقار محمد عبدالوهاب في بداية السبعينات، أي منذ أكثر من عشرين عاماً. عندما دخلت الى منزله في حي الزمالك لأول مرة كانت تدور في رأسي صور كثيرة. لقد كان عبدالوهاب ضيفاً مقيماً في بيتنا الصغير في إحدى قرى محافظة البحيرة. وكان والدي رحمة الله عليه عاشقاً لفنه. وكان عبدالوهاب أزهرياً متفتحاً مستنيراً وكثيراً ما كنت أسمعه من بعيد وأنا أجمع كتبي متوجهاً الى مدرستي في الصباح وهو يدندن "يا وابور قلي رايح على فين" و "في الليل لما خلى" و "جارة الوادي" و "جفنه علم الغزل"... وكثيراً ما كان والدي يشير إلي أن أركز على الأداء الخارق في صوت عبدالوهاب. كان يقول لي اسمع "يا حبيبي هذي ليلة حبي" "آه لو شاركتني أفراح قلبي"، "من قد ايه كنا هنا"... كان عبدالوهاب يمثل جزءاً عزيزاً في تكويني الوجداني منذ الطفولة المبكرة. ولا أعتقد أن هناك مصرياً أو عربياً الا وتأثر بفن هذا الموسيقار وعاش معه، بمشاعره ووجدانه. وحينما تقدمت بنا سنوات العمر كانت أحلى ذكريات عمرنا مع فن عبدالوهاب. ولهذا لما دخلت الى منزله للمرة الأولى كنت مرتبكاً، مضطرباً. أحاول أن أجمع شتات أفكاري، فأنا في روضة أستاذ كبير. كان هذا اللقاء بأية علاقة استمرت أكثر من عشرين عاماً. ورحل عبدالوهاب منذ عامين ورثيته في شعري، وهو الانسان الوحيد بعد والدي الذي كتبت فيه رثاء. وشعرت بعد رحيله ان جزءاً عزيزاً انتزعته الأقدار منا أمة، ووطناً، وشعباً، وأفراداً. لا أسرار يخفيها وعبدالوهاب شخصية معروفة. لم يكن في كل مراحل حياته أسرار يخفيها، فهو واحد من جيل عملاق هو في تقديري أعظم أجيال مصر في عصرها الذهبي. وهو الجيل الذي أعطى للثقافة المصرية الدور والضوء والمهابة. وشكل وجدان هذه الأمة وأحيا جذوة الإبداع فيها. هذا الجيل قدم للثقافة العربية أجمل فنونها لحناً وغناء وأداء وطرباً. وقدم للسينما العربية أرقى أعمالها السينمائية جدية واحتراماً وللمسرح العربي أعظم نجومه. وكان بالإضافة الى ذلك جيل الساسة العظام الذين قاموا بأروع الأدوار في تاريخ السياسة العربية وهي مرحلة الاستقلال الوطني وتحرير الإرادة العربية. وهذا الجيل أيضاً هو الذي شهد صحوة العقل العربي على يد رموزه العظيمة من مفكرين وكتّاب ومبدعين. وشهد صحوة الحياة العلمية في العالم العربي من خلال الكفاءات العظيمة والعقول المستنيرة في الجامعات ومراكز الأبحاث. هو الجيل الذي بنى جامعة القاهرة، وأضاء مسارحها، وارتقى بفنونها، وجعل من العاصمة المصرية مزاراً لكل عشاق الفن والصدق والأصالة. كان عبدالوهاب رمزاً لجيل عملاق أنجبته مصر وقدم لها أعظم ما يقدم الأبناء. قدم لها العطاء الصادق الأصيل، والإبداع الراقي الجميل، وأعطاها دوراً كريماً بارزاً يحيطه التقدير والجلال والمهابة. ولهذا لا يمكن الحديث عن عبدالوهاب بعيداً عن جيله ولا يمكن الحديث عن الثقافة المصرية في أزهى عصورها بعيداً عن عبدالوهاب الفن والصدق والأصالة. لا يمكن أن نذكر عبدالوهاب بعيداً عن جيله، ولا يمكن أن نذكر هذا الجيل بعيداً عن عبدالوهاب لأنهما سياق واحد لمشروع حضاري كبير. ولو أردنا أن نضع عشرين اسماً في قائمة المبدعين الكبار في القرن الأخير، فإن عبدالوهاب واحد منهم. ولو اننا وضعنا عشرة أسماء، فإن عبدالوهاب واحد منهم. ولو اننا وضعنا خمسة أسماء، فإن عبدالوهاب واحد منهم. ولو حاولنا أن نحدد أكثر رموزنا الفنية تأثيراً وعمقاً في الوجدان العربي طيلة خمسين عاماً لحناً وغناء ومسيرة فإن عبدالوهاب أولهم. ان حياة عبدالوهاب تمثل تاريخ وجدان حي، وفن راق، وعطاء جميل. ولهذا يصعب على الانسان ان يضع صورة كاملة لمسيرته الفنية. والآن أستطيع أن أقول في عبدالوهاب وقد رحل ما لم أقله في حياته. أنا لست ناقداً ولا أدعي ذلك. ولست متخصصاً في الموسيقى والغناء. ولست محيطاً إحاطة كاملة بدور عبدالوهاب على المستوى الفني ومشواره الطويل. فهذه أعمال المتخصصين من الباحثين والدارسين والنقاد. ولكنني واحد من عشاق فن هذا المبدع الكبير وكان من حسن حظي ان اقتربت منه عشرين عاماً، وربطت بيننا مودة عميقة. وحديثي عنه ليس حديث ناقد، لكنه حديث إنسان أحب عبدالوهاب فناناً وانساناً. لهذا فإن شهادتي لن تتسم بالموضوعية ورأيي في الرجل لا بد أن يؤخذ من منطلق واحد وهو انني اعتبر نفسي محظوظاً لأنني اقتربت منه ما يقرب من ربع قرن من الزمان. لم أكن من جيل عبدالوهاب، فأنا واحد من تلاميذ هذا الجيل. لكنني كنت محظوظاً انني اقتربت كثيراً من بعض رموز هذا الجيل بحكم العمل حيناً، والصداقة حيناً آخر. المفاجأة بعد رحيل عبدالوهاب بفترة قليلة حملت إلي زوجته السيدة نهلة القدسي مفاجأة غريبة. لقد أخبرتني أن الفنان الراحل طلب منها قبل وفاته ان تعطيني أوراقه الخاصة التي كان يكتب فيها خواطره في بعض الأحيان. وكنت أعرف ان عبدالوهاب يكتب بعض خواطره وكثيراً ما كان يقرأ بعضها معي. لكنني لم أكن أتصور أن يضع على عاتقي هذه المسؤولية الضخمة لاعتبارات كثيرة. ان صداقات عبدالوهاب كثيرة ومنها ما كانت أطول عمراً بكثير من صداقتنا معاً. وإنني كنت أسعى الى الرجل على استيحاء وتقدير ومحبة. انني لست من جيل عبدالوهاب ولست من رفاق مشواره الحافل الطويل، وهناك رموز كثيرة من هذا الجيل ما زالوا أحياء وهم أحق مني بهذه المسؤولية بحكم المعايشة واقتراب التجربة والعمر والصداقة. ان إخراج هذه الأوراق للناس مسؤولية كبيرة. هناك أشياء لا ينبغي أن تنشر. وأخرى لها حساسيات خاصة لأنها تمس أشخاصاً ما زالوا على قيد الحياة. وهناك أيضاً أوراق يمكن أن تكون حديثاً بين الإنسان ونفسه ولا ينبغي أبداً أن تصبح مشاعاً تحت أي ظرف من الظروف. وسلمتني السيدة نهلة القدسي أوراق عبدالوهاب وهي تزيد على 600 ورقة، بعضها في كراريس قديمة، وبعضها كتب على أوراق وقصاصات صغيرة، وأوراق فنادق، وأوراق تليفونات و "نوت" موسيقية وبأشكال وألوان غريبة. وشعرت بمسؤولية ضخمة وأنا أحمل على عاتقي رحلة قرن من الزمان لفنان عملاق ليست الكتابة مهنته، لكنه سطر على هذه الأوراق أشياء وتجارب وأحداثاً وآراء ومشاعر كثيرة. وقضيت عاماً كاملاً مع هذه الأوراق، ولا بد أن أعترف انها كانت من أسعد الأيام في حياتي. المصلحة لم تكن بيننا أعود مرة أخرى الى صداقتي بعبد الوهاب. الشيء الغريب اننا لم نرتبط يوماً بشكل ما من أشكال المصالح. فلم أكن من كتّاب الأغنية، ولا من محرري الصفحات الفنية ولا من النقاد ولا من هؤلاء الذين يجيدون العلاقات الاجتماعية ببريقها وزخارفها. بل ان المصلحة الوحيدة التي كان يمكن ان تنشأ بيننا جاءت عندما اختار الفنان الراحل عبدالحليم حافظ إحدى قصائدي وأعطاها لمحمد عبدالوهاب لكي يقوم بتلحينها وشاءت إرادة الله أن يرحل عبدالحليم قبل إتمام القصيدة. ومع رحيل العندليب الأسمر لم يعد في الساحة صوت يغريني بأن يشدو بكلماتي. ولهذا تجردت علاقتنا تماماً من كل أشكال المصالح. وكنت دائماً أحرص على أن التقي بنقيضين كما كان يبدو لي أحياناً، كانت تربطني صداقة عميقة بالراحل الكبير رياض السنباطي وفي الوقت نفسه كانت صداقتي العميقة مع الموسيقار محمد عبدالوهاب. وكانت أجمل الأوقات عندي تلك التي أقضيها في رحال هذين الفنانين الكبيرين بين الزمالك ومصر الجديدة حيث كنت أشعر فيها انني أعيش زماناً آخر أكثر شموخاً وتألقاً وبريقاً. وفي السنوات العشر الأخيرة كانت محاوراتي مع عبدالوهاب لا تنتهي. وكنت أشعر انه يحمل تقديراً خاصاً للشعر. وربما يرجع ذلك الى نشأته الأولى في رحال أمير الشعر العربي أحمد شوقي، لكن المؤكد ان عبدالوهاب الى جانب حبه الشديد للموسيقى كان أيضاً عاشقاً وعظيماً للشعر والكلمة الجميلة. وفي أحيان كثيرة كان يسألني عن بيت من الشعر وعن قائله. وكنت أحياناً أعرف اسم الشاعر، وفي أحيان أخرى ألجأ الى أحد الأصدقاء لكي يخبرني بقائل هذا البيت. ولا شك ان تربية عبدالوهاب الفنية في رحاب شوقي أعطته قدرات عظيمة اتسمت بها شخصيته وأسلوبه في الحياة. الحياة مدرسته كان عبدالوهاب يعترف بأن مدرسته الكبرى هي الحياة، لهذا حاول أن يستفيد منها الى أبعد الحدود. كان يتحاور كثيراً ويحاول أن يثير الجدل لكي يعرف. وكانت لديه قدرة كبيرة على امتصاص الخبرات والتجارب والأفكار من الآخرين. كان كالأنهار التي تحمل لها الروافد المياه من كل جانب لتمضي دائماً في عطائها المتدفق. ولم يكن يتعالى على المعرفة ولا يعنيه أبداً مصدرها صغيراً كان أم كبيراً كاتباً أم فناناً، ناقداً أم مبدعاً. ظل عبدالوهاب متحمساً للمعرفة حتى آخر لحظة في حياته. وكان يتمتع بذاكرة عجيبة لكنها تتمتع بقدرة خاصة على أن تعيد صياغة الأشياء والأفكار والتجارب على طريقتها. كان في رأس عبدالوهاب مصنع خاص "لتوهيب" الأفكار والخواطر والآراء بحيث تحمل بصماته رغم انها جاءته من مصادر كثيرة. كان الموسيقار الراحل مستمعاً جيداً ليس للغناء فقط ولكن لأفكار الآخرين ومحاوراتهم. لم يكن عاشقاً للموسيقى والغناء والفنون، لكنه كان يهتم كثيراً بما يدور في عقول الآخرين. وعندما انضم الى مجلس الشورى سألته يومها ماذا تفعل في جلسات المجلس فقال: "أفكار كثيرة يقولها المتخصصون والعلماء وأهل الفكر وأحاول أن أستفيد منها". في السنوات الأخيرة ضعف نظر عبدالوهاب وكان يعتمد اعتماداً كلياً على السمع، لهذا كان يتحاور كثيراً بواسطة الهاتف، ويقضي ساعات طويلة في حوارات وتساؤلات وحكايات. وفي كل يوم كنت أطلبه كان يقول لي تحدثت لتوي مع مصطفى أمين في كذا وكذا. ومع أنيس منصور الذي قال كذا وكذا. وجادلني مصطفى محمود في كذا. وناقشني عمار الشريعي في قضية كذا. عاش عبدالوهاب في بيته لكنه كان على اتصال بالعالم كله. يحاول أن يعرف كل شيء في الموسيقى والغناء والأدب والسياسة. لم ينفصل يوماً واحداً عن الحياة لهذا كان دائم الحيوية والشباب. وبينما جلس من كانوا في عمره يسترجعون ذكريات الماضي الجميل كان هو قادراً على أن يفجر كل يوم شيئاً جديداً يجعله حديث الناس. وكان عبدالوهاب يحب الحياة وعاشها حتى النخاع. حافظ على صحته، فأعطاه الله عمراً طويلاً. واحترم فنه. فأعطاه الله حضوراً فذاً غريباً. واحترم وقته وعمره. فأبدع وتفوق وأجاد وترك رصيداً من العطاء الجميل. واحترم أذواق الناس فكان المقابل ان استطاع ان يكون أطول قامة فنية في العالم العربي على مدى نصف قرن من الزمان صوتاً وتلحيناً. وعايش الزعماء الرؤساء والصعاليك. وكان دائماً عبدالوهاب مطرب الكبار وفنان الشعوب. رحلت أشياء كثيرة، وتغيرت أشياء كثيرة والرجل يجلس على قمة الفن بلا منازع وهذه هي العبقرية. ولأن عبدالوهاب كان عاشقاً للحياة لم يسرف في شيء. كان يحب الطعام الى أبعد الحدود لكنه حرم نفسه وظل أربعين عاماً لا يأكل إلا المسلوق. كان يحب النجاح والشهرة والمجد، ولكنه كان يحب فنه أكثر. فلم يستنزف قدراته ومواهبه في الحفلات والسهرات والجلسات وظل بعيداً عن كل هذا لأنه كان يحسب كل شيء ابتداء بسنوات العمر، وانتهاء بنوع الطعام الذي لا يضر بصحته. كان يحتفظ بعلاقات اجتماعية حافلة مع الصحافيين والكتّاب والنقاد والفنانين وأهل السياسة. فالكل يسعى له، لكنه كان دائماً يختار من يقرب اليه. فقد كان يحترم وقته، ويشعر انه من الخطأ أن يترك هذا الوقت نهباً لمن يساوي ومن لا يساوي. ورغم هذا كان يشعرك دائماً بأنه صديق للجميع. لم يكن بخيلاً كان حريصاً على تاريخه ومظهره ومكانته، لهذا كان حريصاً على ماله. وقد تصور البعض من أجل هذا ان عبدالوهاب كان بخيلاً، لكن ذلك في تقديري لم يكن بخلاً بل كان خوفاً من تقلبات الزمن والحياة. فقد رأى الرجل أمام عينيه أسماء كثيرة من أهل الفن أرهقتهم الحاجة أمام العمر والصحة والجحود. لهذا خشي تقلبات الزمن فكان حريصاً ولم يكن بخيلاً. ولعل ذلك ما جعله يستثمر أمواله أحياناً في شكل عقارات أو مشاريع أو شركات. ولم يكن الهدف هو الربح بل الحماية من أن يحتاج في يوم من الأيام. وقد اعتاد عبدالوهاب حياة الرفاهية منذ صغره وأحبها. فقد نشأ الرجل في بيت شوقي الشاعر العملاق الذي ولد في بيت الخديوي اسماعيل ثم نشأ في رعاية الخديوي عباس. من هنا كان موسيقار الجيل حريصاً على أن يظل مستمتعاً بالحياة في كل أشكالها بيتاً، وملبساً، ومظهراً، وطعاماً، وحياة اجتماعية متكاملة. وآمن عبدالوهاب بالحياة الكريمة للفن والفنان، بمعنى انه كان يعتقد ان الفنان لا بد ان يعيش حياة تتوافر فيها امكانات الراحة والاكتفاء حتى يبدع ويتألق، لهذا كان يقول ان الفنون العظيمة نشأت في ظل حضارات عظيمة وأشخاص عظام. وأن حكام أوروبا هم الذين احتضنوا بيتهوفن وموزارت وشوبان وغيرهم. وان الفقر يقتل المواهب، والجوع لا يعطي أبداً فناً عظيماً. ولعل هذا كان من أسباب تجاهل أصحاب المدارس الواقعية لدور عبدالوهاب في الموسيقى العربية بصفة خاصة والفن العربي بصفة عامة. آمن عبدالوهاب بالفرد وبالصفوة وكان يعتقد ان الحضارة الإنسانية صاغها بعض العقول، ولم يكن أبداً يؤمن بمنطق القطيع في الفن أو السياسة أو الحياة. وآمن بالتفوق الفردي والنبوغ الإنساني، لهذا قدر الموهبة واحترم أصحاب الأدوار العظيمة في كل شيء. وهذه المدرسة التي تؤمن بالفرد والتي كان عبدالوهاب من روادها هي المدرسة نفسها التي كان يؤمن بها العقاد، وقبله شوقي ولطفي السيد. انها احترام فردية الإنسان مبدعاً أو انساناً عادياً. ولأن عبدالوهاب كان عاشقاً عظيماً للحياة كان يخاف الموت، ولم يكن يكرهه، لقد كان انساناً مؤمناً الى أبعد الحدود، لكنه كان يخاف أيضاً المرض، لأنه المقدمة التي تمهد الطريق لرحلة النهاية. لهذا كان يخاف أن يمرض أيام الخميس أو الجمعة لأن الأطباء في إجازة. ومات عبدالوهاب يوم الجمعة. قبل أن يرحل بأسبوعين فقط كنت أتحدث معه في منتصف الليل وتطرق الحديث الى الشاعر العالمي الكبير "لورد بيرون" ورويت يومها قصة وفاته وهو في الأربعينات من عمره. كان بيرون على صداقة مع زوجة رئيس الوزراء في ذلك الوقت، وثارت ضجة كبيرة بسبب هذه المسألة انتهت بفراق "بيرون" وصديقته. ومرت سنوات على ذلك. وفي يوم كانت زوجة رئيس الوزراء في طريق عودتها الى قصرها وشاهدت جنازة ضخمة تشق الشوارع وتهز أرجاء المدينة. وعندما ذهبت الى بيتها جلست تتناول الغداء مع زوجها وقالت له لقد رأيت اليوم جنازة ضخمة كما لو أن الحاكم مات. وتبين لها انها جنازة الشاعر بيرون. وبعدما انتهيت من رواية هذه القصة قال لي عبدالوهاب سوف اتصل بك بعد دقائق. ولم يتصل. وفي اليوم التالي طلبته وردت عليّ السيدة نهلة القدسي وسألتني ماذا فعلت بزوجي أمس، فقلت كنا نتحدث عن الموت. قالت: ولهذا لم ينم. كان يخاف من أي شيء ومن كل شيء، لكنه كان يخاف جداً من الفشل لهذا كان يحاول دائماً أن يعطي جهده ووقته وعمره كل السخاء. لم أكن أتصور مثلاً وهو يجري آخر بروفات لحنه "أسألك الرحيلا" أن يظل في الاستوديو في الاذاعة حتى الثانية صباحاً يعيد في اللحن ويزيد حتى يصل الى الأجود. كان بمقدوره أن يوقف أغنية كاملة من أجل تغيير كلمة واحدة. اتصل بي وهو يلحن قصيدة "أسألك الرحيلا" وقال: "انني أحاول الاتصال بنزار قباني في جنيف ولندن ولم أعثر عليه حتى الآن، وأريد تعديل كلمة في الأغنية". ولم يسترح عبدالوهاب إلا بعد تعديل الكلمة مع نزار قباني. ولا شك أن عبدالوهاب حاول أن يستفيد بحياته كما ينبغي. حاول أن يستفيد بحياته فناً فأبدع. وحاول أن يستفيد بحياته عمراً فلم يسرف في شيء. وحاول أن يستفيد بها مجداً فاختار أجمل ما فيها وهو العطاء الصادق. من خلال هذا كله كان عبدالوهاب يحاول أن يضيف كل يوم الى عقله وفكره شيئاً جديداً ولهذا كان حريصاً على ان يجمع حوله أكبر العقول. ولم يكن ذلك غريباً فقد وجد نفسه وهو لم يزل شاباً صغيراً يجلس مع لطفي السيد وأحمد شوقي والنقراشي باشا والعقاد وطه حسين والمازني وحافظ إبراهيم وهو لم يزل شاباً صغيراً يغني في القصور وتفتح أمامه الأبواب تكريماً واحتراماً. لهذا اجتمع الفن والخبرة والذكاء في شخصية عبدالوهاب. كان فناناً حتى النخاع، يجري وراء الجديد ويطارده، ويسعى الى المعرفة ويحاول دائماً أن يبهر العقول والقلوب والمشاعر. كان صاحب خبرة وتجربة عميقة في الحياة فقد توافرت أمامه مصادر غزيرة للمعرفة والتجربة وحاول أن يستفيد منها. مع هذا كله كان ذكاء عبدالوهاب الانسان بفطرته ولا شك ان هذه الجوانب جميعاً كانت وراء عبدالوهاب الفنان والإنسان المبدع. ولهذا كله لم يكن عبدالوهاب فناناً عبر في حياتنا وأسعدنا لكنه كان عصراً كاملاً من العطاء. كان صرحاً سقط يوم رحل عبدالوهاب شعرت ان الحياة تغيرت وان صرحاً كبيراً قد سقط منا. كان وجود عبدالوهاب يعطي للحياة معنى وجلالاً سواء أبدع أو لم يبدع. وعندما رحلت أم كلثوم بكينا عليها وحزنا كثيراً على رحيلها لكننا كنا نقول ما زال بيننا عبدالوهاب. وحينما رحل فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ اختلقنا لأنفسنا الأعذار نفسها، ما زال بيننا عبدالوهاب. وعندما رحل عبدالوهاب خرجت الخفافيش من جحورها، وزادت مساحات الإسفاف في حياتنا، وشعرنا يومها ان عصراً بأكمله قد انتهى. ولو انني حاولت أن أتحدث عن عبدالوهاب الفنان والإنسان فإن الأمر يحتاج الى صفحات وصفحات، فالرجل صاحب تجربة ثرية وعطاء طويل. لكن المفاجأة التي عشتها بأمانة شديدة هي تلك الأوراق التي قدمتها إليّ السيدة قرينته نهلة القدسي وهي موضوع هذا المسلسل يصدر في كتاب. فالكتاب المسلسل ليس مذكرات شخصية، فلم يبق شيء لم نعرفه عن عبدالوهاب سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام. كان عبدالوهاب كتاباً مفتوحاً أمامنا جميعاً منذ كان طفلاً صغيراً يغني بصوت هو أقرب للإعجاز حتى أصبح أكبر الرموز الفنية في الساحة العربية. كانت حياته معروفة ففنه وشخصيته ومشواره كلها سجلها بصوته أو في أحاديثه. لهذا سألت نفسي: ما هو الجديد الذي يمكن أن تحتويه هذه الأوراق؟ ماذا في الأوراق؟ وبدأت رحلتي معها، واكتشفت وأنا أقلب هذه الصفحات ان هناك عبدالوهاب آخر غير الذي نعرفه بين هذه السطور. لقد حاول الرجل في هذه الأوراق ان يكون نفسه، أن يفصح عن أشياء كثيرة كان من الصعب أن يبوح بها. ولأنه كان انساناً حذراً في معظم الأحيان ومجاملاً في أغلب الأحيان فقد قال في هذه الأوراق كل ما عنده. سألت السيدة نهلة القدسي عن تواريخ هذه الأوراق فقالت انه بدأ في كتابتها بعد زواجهما، أي منذ ما يقرب من الأربعين عاماً، ولهذا لم أجد في هذه الأوراق الشيء الكثير عن أحداث ما قبل ثورة تموز يوليو فالأرجح أنه كتبها بعد الثورة. وربما يرجع السبب في ذلك الى أن عبدالوهاب حاول أن يطرح في هذه الأوراق أشياء كثيرة لم يكن بمقدوره ان يطرحها صراحة. كان الرجل وصل الى درجة من الخبرة والتجربة والمكانة تجعل من الصعب عليه ان يقامر بكل هذا من أجل رأي قد يغضب هذا أو ذاك. ولا شك ان شريحة كبيرة من الرموز التي عايشها عبدالوهاب قد انسحبت من حياته من الأثرياء وصفوة المجتمع المصري قبل الثورة وقد رأى الرجل هؤلاء جميعاً وموجات الظلال تلاحقهم وتخفي ملامحهم عن الحياة والناس والأحداث. وفي الوقت الذي كان عبدالوهاب حذراً جداً في أحاديثه وتعليقاته، نجده في هذه الأوراق صريحاً لدرجة غريبة. وفي الوقت الذي كان يبدو مجاملاً في أحيان كثيرة نجده في هذه الأوراق قاطعاً في أحكامه خاصة في ما يتعلق بالفن أو السياسة. فهل اختار عبدالوهاب ان يترك لنا هذه الألغام بعد رحيله واكتفى بأن يمتعنا حياً بحديثه وفنه وصوته ومجاملاته. هل اختار ان يقول كلمته بعد رحيله ويعلن احتجاجه ورفضه لكل ألوان القبح وان اضطر أحياناً لأن يسايرها وربما يعايشها رغم انه يرفضها من الأعماق؟ هل اختار عبدالوهاب ان يلقي القفاز في وجوهنا جميعاً وان يقول كلمته ويمضي؟ في هذه الأوراق آراء سياسية حادة جداً كتبها عبدالوهاب. وفي هذه الأوراق آراء فنية جريئة وصريحة وقاطعة. وفي هذه الأوراق تعرية لجوانب كثيرة في حياتنا، كنا أحياناً نخجل من الحديث عنها... وفي هذه الأوراق شهادات انصاف كثيرة. رغم انني عرفت عبدالوهاب أكثر من عشرين عاماً كنت أخشى أن أتحدث أمامه عن رياض السنباطي الذي كانت تربطني به علاقة وطيدة. كنت أعرف أسرته كاملة وأدخل بيته كواحد من أبناء الأسرة. ولم أحاول يوماً أن أذكر السنباطي أمام عبدالوهاب لإحساس كان يراودني ان هناك حساسية ما بين الفنانين لا أعرف مصدرها رغم انهما قطبان كبيران في مسيرة الموسيقى العربية. وظل هذا الخاطر في رأسي حتى قرأت أوراق عبدالوهاب واكتشفت من سطورها انه كان يقدر ويحترم رياض السنباطي بدرجة كبيرة أفصح عنها في كلماته عن الرجل رغم ان الاثنين في رحاب الله. كان هناك هاجس آخر يراودنا جميعاً وهو ان هناك حساسية ما بين عبدالوهاب وكمال الطويل، ولعل سببها هجوم الطويل أحياناً على عبدالوهاب وما حدث للسلام الجمهوري عندما استبدله أصحاب القرار من نشيد "والله زمان يا سلاحي" الى نشيد "بلادي بلادي". ويومها شاع في الأوساط الفنية ان عبدالوهاب وراء هذا التغيير. ويشهد الله ان عبدالوهاب لم يحاول ذلك إطلاقاً وأن الرئيس السادات كلفه بذلك تكليفاً. وأنا شاهد على ذلك فقد طلب مني عبدالوهاب تعديل بعض كلمات النشيد واعتذرت. وعندما قرأت في هذه الأوراق ما كتبه عبدالوهاب عن كمال الطويل شعرت بحزن شديد. لأن كمال الطويل سوف يفاجأ مثلي برأي عبدالوهاب فيه، فقد كان يحمل لفنه تقديراً عميقاً ومحبة. وما حدث مع السنباطي وكمال الطويل سنجده في هذه الأوراق يشمل رأي عبد الوهاب في أسماء كثيرة. وفي هذه الأوراق يحاول عبدالوهاب ان يطرح فكره في قضايا كثيرة لعل أخطرها قضايا تطور الموسيقى العربية، وعلاقتنا بالفنون الأخرى ومستقبل الفن العربي. ويحاول أن يقدم لنا تجربته الانسانية في هذه الأوراق كفنان وإنسان يتحدث كثيراً عن الفن والمرأة والجمال والحب والخير. ويسطر لنا خواطر كثيرة يحاول أن ينتقي كلماتها كما لو كان كاتباً محترفاً يمارس الكتابة ويعرف أدق أسرارها. ولا ينبغي أبداً أن ننسى ان عبدالوهاب كان عاشقاً للكلمة الجميلة. خلاصة تجاربه في هذه الأوراق يحاول عبدالوهاب أن يعكس لنا خلاصة تجاربه كإنسان وفنان ومبدع. وهو في هذه الخواطر لا يجامل ولا يخفي شيئاً. انه يحاول أن يكشف أعماق عبدالوهاب الإنسان. لهذا يمكن أن نجد شخصاً آخر بين هذه السطور غير عبدالوهاب الذي عرفناه من خلال فنه، ومن خلال أحاديثه، ومن خلال أجهزة الإعلام. يتحدث في هذه الأوراق عن شوقي، وطلعت حرب، والنقراشي، وأم كلثوم، والقصبجي، والسنباطي، وسيد درويش، ونزار قباني، وبليغ حمدي، والموجي، وفيروز. ويتحدث عن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومصطفى وعلي أمين ومحمد حسنين هيكل وكامل الشناوي ورامي وحسين السيد ومأمون الشناوي. وفي هذه المرحلة التي قضيتها مع أوراق عبدالوهاب حاولت أن أجمع هذه الخواطر لكي تعكس منهج الرجل وفكره ومواقفه في قضايا كثيرة لعل أهمها قضية الفن. والى جانب قضية الفن حاولت أن أجمع خلاصة تجربة الموسيقار الراحل مع الحياة وهي تجربة ثرية بكل جوانبها الإنسانية والشخصية. ان عبدالوهاب تاريخ طويل في الفن والحياة ولهذا يجب أن نقف طويلاً أمام تجربته الإنسانية بكل التقدير. ومع هذا كله كان وضوح عبدالوهاب في آرائه وتفكيره ومواقفه يعطي جانباً جديداً في مسيرته كفنان وإنسان ومبدع فقد قال بعد موته ما لم يقله في حياته. ولم يحاول عبدالوهاب في هذه الأوراق أن يبدو ناصحاً أو واعظاً، لكنه يتحدث مع نفسه. انه يهمس لنا بهذه الخواطر التي كتبها بعيداً عن عيون الصحافة والإعلام. ولا بد أن أعترف ان هذه الرحلة التي قضيت فيها عاماً كاملاً مع أوراق عبدالوهاب كانت من أمتع رحلاتي. لقد عشت فيها مع فنان كبير ومبدع عظيم. وعشت فيها مع جيل أحمل له تقديراً خاصاً وأجد فيه قيمة كبرى للعطاء والأصالة والصدق. وعشت فيها مع فترة من أزهى فترات تاريخ مصر الحديث. هذه الفترة التي اعتبرها بكل المقاييس فجر الثقافة المصرية المتألق بالإبداع والتمييز. وقبل هذا كله عشت فيها مع عبدالوهاب الصديق الذي عرفته عشرين عاماً رغم اختلاف أجيالنا. لقد قضيت مع أوراق عبدالوهاب عاماً كاملاً. في البداية قرأت الأوراق كلها وهي تزيد على 600 ورقة وقصاصة صغيرة. ولأول مرة في حياتي أستخدم نظارة طبية فقد كان خط فناننا الكبير مرهقاً للغاية. وبعدما انتهيت من قراءة جميع الأوراق أدركت انها تحتاج الى أن تدرج في موضوعات محددة بحيث نصنع من الأجزاء المتناثرة كياناً يحمله كتاب. وبعد ان فرغت من قراءة الأوراق وتحديد أفكارها الأساسية بدأت في كتابتها كاملة وبعد أن انتهيت من تفريغها وكتابتها حددت خمسة محاور أساسية يمكن أن يدور حولها الكتاب وهذا المسلسل: 1 - رحلة عبدالوهاب مع الفن. 2 - رحلة عبدالوهاب مع الناس، خاصة المشاهير منهم. 3 - رحلة عبدالوهاب مع المرأة والحب. 4 - رحلة عبدالوهاب مع السياسة. 5 - رحلة عبدالوهاب مع الحياة. وتحت هذه المحاور الأساسية الخمسة بدأت في إعادة كتابة هذه الأوراق وترتيبها بحسب كل موضوع. وعلى سبيل المثال فقد وجدت أكثر من 40 قصاصة صغيرة كتب فيها خواطره حول الموسيقى الغربية وتأثره وأساسه بها وتحليله لطبيعتها. وأعدت ترتيبها لكي تكون موضوعاً متكاملاً يتناول هذه القضية. وفعلت الشيء نفسه مع قضية الموسيقى العربية والغناء الشرقي، بل ان في هذا الكتاب موضوعاً عن العبقرية كان مجموعة خواطر متناثرة رأيت جمعها في موضوع واحد يتناول قضية العبقرية والإبداع. وعندما راجعت الأوراق وجدت عبدالوهاب يتحدث كثيراً عن الخواطر والإلهام في حياته، لهذا جمعت كل هذه الآراء لتكون قضية متكاملة تتناول عملية الإبداع وكيف تتم وكيف تأتي الخواطر لعلها تفيد الدارسين والباحثين في هذه الموضوعات، خاصة ونحن أمام نموذج إبداعي كبير ومؤثر. وحاولت بعد ذلك ان أجمع أجمل ما قاله عبدالوهاب في الحب والفن والحياة والمرأة في جمل وكلمات مقطرة جميلة تعكس تجربته وآراءه واسميتها تعلمت من. وبعدما أنهيت ذلك كله وضعت تصوراً كاملاً للكتاب بحيث يشمل كل هذه المحاور ابتداء بالفن ثم الناس، ثم السياسة ثم الحب والزواج، ثم الحياة. ورأيت أن أبدأ بالفن لأننا أمام عبدالوهاب الموسيقار والفنان والمبدع. وأن أنهي الكتاب برحلته مع الحياة لتكون درساً لمن يحاول أن يعرف كيف عاش عبدالوهاب. المهم ان عبدالوهاب أسند إليّ مهمة صعبة للغاية. لقد ترك شريطاً طويلاً كتب عليه مئات "النوتات" والأحاديث والخواطر والخلجات. وطلب مني أن أقدمه للناس لحناً متكاملاً يليق بالرجل وتاريخه وقيمته في حياتنا. لهذا كان مسؤوليتي ان أقرأ الأوراق كلمة كلمة. وأعيد كتابتها كلمة كلمة. وأجمع شتات أفكارها وأبني لها محاور. وأضع للمحاور مواضيع وأطرح المواضيع من خلال نظرة شاملة. ثم أقدمها في هذا الكتاب والمسلسل لكي أقدم فيه خلاصة فكر عبدالوهاب ورأيه في الفن والناس والحياة بعيداً عن أي بهرجة لغوية. بقي أن أقول ان هناك بعض الأوراق التي رأت السيدة نهلة القدسي ان لها حساسية خاصة ورأيت ان من الأفضل أن تبقى سراً. وتأكيداً لحرصي الشديد على الأمانة والموضوعية في تقديم هذه الأوراق رأيت أن يتضمن الكتاب صوراً لآراء عبدالوهاب بخط يده في كثير من القضايا والأشخاص. وحينما يخبو الضوء، ويسدل الليل استاره، وترحل خيوط الصبح الذهبية، نشعر بحنين جارف لكل شعاع بعيد. ولهذا كانت سعادتي عميقة وأنا أجد في أوراق عبدالوهاب شعاعاً من نور بعيد يعيد إليّ ثقتي في الحياة والناس والأشياء، ويزداد معه يقيني ان الأرض التي أنجبت هذا الجيل العملاق لا يمكن أبداً أن يصيبها العقم حتى لو استراح الزمان أحياناً. ان أوراق عبدالوهاب الخاصة ليست كأية أوراق. وفكر عبدالوهاب ليس مثل كل صاحب فكر. ولكن عبدالوهاب فنان شارك بفنه في صياغة وجداننا جميعاً لهذا لا بد أن نسمعه حينما يتكلم ونصغي اليه ولآرائه ومواقفه. قد يكون الصوت غاب. والوجه خبا. والأنفاس توقفت. والعمر وصل الى نهاية المطاف. لكن الفن باق. والصدق زائر أبدي لكل عشاق الفن الأصيل. وسوف تمضي مياه كثيرة في النيل. وترحل فوق سمائنا سحابات كثيرة. وتتبدل الفصول وترحل المواسم والأيام. ومع كل هذا يتجدد دائماً صوت النهر الخالد يعيد الينا اليقين بقيمة الفن الجميل، والأصالة الباقية والصدق الخلاق. لم يكن عبدالوهاب مطرباً غنى لنا روائعه ومضى. ولم يكن ملحناً أشجانا بنغماته المتألقة. ولم يكن متحدثاً عظيماً حلق بنا سنوات طويلة من عمرنا. إن عبدالوهاب عصر كامل. وفي هذه الأوراق يقدم الرجل خلاصة عمره. لقد جمعني مع عبدالوهاب شيئان: الفن الجميل والود الصادق. أحببته فناناً وقدرته إنساناً. ولهذا بقي بيننا ود عميق. وهذه باقة ورد أهديها اليه وهو في أطهر رحاب.