تحتفي مدن العالم بعظمائها وتخلدهم بوسائل شتى، ما بين إقامة التماثيل والنصب التذكارية لهم في الميادين العامة، أو تحويل بيوتهم متاحف أو إقامة مهرجانات باسمهم. مدينة بون الألمانية لا تعيش على صيت أشهر أبنائها، الموسيقار لودفيغ فان بيتهوفن، ولا تمارس نوعاً من"عبادة"العظماء كما تفعل مدينة سالزبورغ النمسوية مثلاً التي يتمحور فيها كل شيء حول فولفغانغ أماديوس موتسارت، لكنها أيضاً لا تهمل ذكرى الموسيقار العبقري الذي ولد فيها عام 1770. البيت العتيق الذي رأى بيتهوفن فيه النور في حارة"بون غاسه"ما زال يفتح أبوابه للزوار. هناك عاش بيتهوفن حتى انتقاله إلى فيينا عام 1792 ليتعلم فن البناء الموسيقي على يد هايدن. وكان هذا البيت مهدداً بالبيع والهدم بعد وفاة بيتهوفن عام 1827، لكن عشاق موسيقاه أسسوا جمعية وجمعوا المال لشرائه وتحويله متحفاً، بجهود فردية. صرير أرضية البيت الخشبية العتيقة تذكِّر الزائر بطفولة الموسيقار الذي تلقى دروسه الموسيقية الأولى في هذا البيت، هنا عزف للمرة الأولى في عمر الثامنة، ومن هنا بزغت شهرته وتجاوزت آفاق المدينة الصغيرة الواقعة على نهر الراين لتلفت انتباه كبار الموسيقيين في العالم. في هذا البيت العتيق يرى الزائر المكتب الخشبي الذي خط عليه أولى سوناتات البيانو، ويطالع النوتات الموسيقية التي كتبها بيده وأهداها الى الأمراء والنبلاء الذين كانوا يغدقون عليه بعطاياهم كي يستطيع التفرغ لفنه، هو الذي لم يعمل في حياته في مهنة أخرى غير التأليف والعزف. ويرى أيضاً الآلات الموسيقية التي كان يعزف عليها عبقري النغمات البيانو والكمان وبعض آلات النفخ، ويشعر بمدى المعاناة التي كان عليه أن يتحملها عندما بدأ يعاني تناقصاً في قدارته السمعية وهو لم يتعدّ الخامسة والعشرين، كيف قضى سنواته الأخيرة في عزلة تامة، لا يتواصل مع الناس إلا عبر الورق، ويؤلف أجمل النغمات التي يسمعها في خياله فحسب، كيف كان يستعين ببعض الآلات لتحسين قدرته السمعية، ولكن دون جدوى، إلا أن أصيب بالصمم الكامل عام 1819. هكذا وضع بيتهوفن واحدة من أجمل سيمفونياته التاسعة وهو أصم تماماً. وتضم السيمفونية في حركتها الرابعة نشيد"البهجة"الذي ألفه الشاعر شيلر. وقد أضحى هذا النشيد اللحن المميز لدول الاتحاد الأوروبي."البهجة"هي أيضاً شعار مهرجان بيتهوفن هذا العام الذي تبدأ فعالياته في 24 الجاري وتستمر حتى 23 أيلول. وكان الموسيقار"فرانس ليست"نظّمَ عام 1845 احتفالاً موسيقياً استمر ثلاثة أيام لمناسبة إزاحة الستار عن النصب التذكاري للودفيغ فان بيتهوفن والقائم في ساحة"مونستر"بالقرب من محطة بون للسكك الحديد. من رحم هذا الاحتفال الموسيقي ولد المهرجان الدولي الراهن الذي ازدادت أهميته الدولية في السنوات الأخيرة. ومن أهداف المهرجان فتح آفاق جديدة أمام الجمهور للتعرف الى موسيقى بيتهوفن، وتشجيع الموسيقيين الشباب على تقديم مقاربة جديدة لأعمال عبقري الموسيقى الكلاسيكية. ويولي المهرجان اهتماماً كبيراً للتكوينات الضوئية والنغمية، وهي ظاهرة جذبت الرسامين والموسيقيين منذ نحو مئة عام الذين يحاولون الإجابة على السؤال: هل هناك علاقة بين الرسم والموسيقى؟ وهل تمكن ترجمة النغمات إلى ألوان؟ وتتنوع الأماكن التي تستقبل الحفلات الموسيقية التي تقام في إطار المهرجان، بين قاعات تاريخية وقصور ودور العزف الموسيقي وصالات البث الإذاعي التابعة لراديو غرب ألمانيا. ومن جديد دورة هذا العام استضافة أوركسترا مصرية تقدم مقطوعة موسيقية تختلط فيها التأثيرات المصرية والغربية، بعنوان"انتظار"، وستعزف لأول مرة في القاعة الرئيسة في 7 أيلول . أما السؤال الذي يلح على ذهن الزائر العربي لبيت بيتهوفن أو القاصد إحدى حفلاته، فهو: ماذا نفعل للاحتفاء بعظماء الفن والأدب؟ أين منزل أم كلثوم أو عبدالوهاب؟ وكيف نكرِّم فيروز والرحابنة؟