سألَتْني: كيف يؤلف الموسيقي موسيقاه؟ أنت كاتب، هل هناك فارق بينكما؟ قلت: نعم، هناك فارق أساسي بيننا. أنا أفكر بواسطة اللغة، أما الموسيقي فيفكر حين يؤلف موسيقاه، بواسطة المركبات الصوتية. - ما هي المركبات الصوتية؟ - المركب الصوتي هو تشكيلة من نوطات تؤدى في آن واحد، ويُفترض أنها لا تقل عن ثلاث نوطات، وهذا هو أساس اللغة الهارمونية في الموسيقى، وهي لا مقابل لها في اللغة. إن سر أهمية اللغة في معاني كلماتها، أما سر جمالية الموسيقى، ففي لامعناها، أو لادلاليتها. النوطات الموسيقية تختلف عن الأبجدية اللغوية في لادلاليتها، إنها تشكل"لغة"خاصة بها، وهذه"اللغة"يستعذبها البشر، لكنهم لا يفهمونها. الموسيقي وحده يفهمها. قالت: هذا موضوع شيق جداً سيسعدني أن أعرف المزيد عنه، هل تستطيع أن تحدثني عن فلسفة كل من اللغة والموسيقى؟ - آه، يا عزيزتي، أنت تطرحين عليّ سؤالاً صعباً، فمع أنني كاتب، إلا أنني لا أستطيع أن أحدثك عن فلسفة اللغة، لأنني لست متخصصاً في الموضوع. - والموسيقى؟ - في هذه الحالة أحيلك الى كتابي"أسرار الموسيقى"، الذي كتبت فيه فصلاً عن سحر الموسيقى، أو فلسفتها. قالت: أنت تعلم أنني لا أحب القراءة باللغة العربية، اللغة العربية تبقى معقدة بالنسبة لي، أرجو أن تحدثني بطريقتك البارعة عن هذا الموضوع. قلت لها: أنا آسف، لا أستطيع أن أقدم لك تلخيصاً لخمسين صفحة ببضع عبارات. كنا نستمع في أثناء ذلك الى"دراسات"شوبان، التي تعتبر من أروع المؤلفات الموسيقية، لم ترقَ الى مستواها سوى"دراسات"ديبوسي، وكنا مأخوذين بسحرها. كانت من أداء العازف الكندي لوي لورتي. قالت: طيب، كيف يتوصل الموسيقي الى تأليف هذه الموسيقى الآسرة؟ - بالمراجعة، فحتى الموسيقي العبقري بيتهوفن كان يراجع مؤلفاته مرات ومرات ومرات بلا كلل الى أن يتوصل الى أكمل صيغة يرتضيها. - أها، هنا بيت القصيد. - نعم، الكمال لا يتحقق إلا بشق الأنفس، وقريباً من هذا قال سارتر إن التكنولوجيا نظام ميتافيزيقي، وأنا أقول أيضاً إن الكمال في الصياغة التقنية نظام ميتافيزيقي. قالت: إذاً، نحن نستلم الأشياء جاهزة. كم يعجبني أن أرى الأشياء قبل أن تبلغ مرحلة الكمال. قلت: قد يفيدك في هذا الصدد إذا استمعت الى الصيغ الثلاث لمقطوعة بيتهوفن"افتتاحية ليونورا". إنها المقطوعة نفسها لكن مع اختلافات تحسين بها وتشعرين أن صيغتها الثالثة أفضلها. أنا لست موسيقياً لأوضح لك لماذا، لكنني أحس بالفارق الجمالي بين هذه الصيغ. - هذا موضوع شيق، كان يسعدني أن أتابعه لولا ضجري من الموسيقى الأوركسترالية. قلت لها: هنا أود أن أقول إن الموسيقي، أو الكاتب أو الفنان، مثل النجار. أنا مثلاً، أحياناً أكتب الشيء أو هذا الجزءَ منه أو ذاك، مرتين وثلاثاً وأربعاً... الى أن أعتمده أو أرميه في سلة المهملات. - أَبْقِ على سلة مهملاتك لأرى كيف تكتب... ولنعد الى موضوع الموسيقى. أنا أعرف عائلة يونانية، الزوج محام ويعزف على البيانو. كان يعزف لي ارتجالاً أشياء جميلة كلما زرتهم. هو لم يدرس الموسيقى على يد معلم أو كتاب، لكنه من خلال الممارسة صار يعزف بشكل جيد. كيف يمكن ذلك؟ قلت لها: هذا غير مستبعَد. أنا أيضاً جربت يوماً العزف على البيانو من دون معلم، وقطعت مرحلة أولية لا بأس بها. أنا أعتقد أن الموسيقى بدأت كلها ارتجالاً وتجريباً الى أن تم التوصل الى"أبجديتها"، فالارتجال، في رأيي، هو أساس الموسيقى، ثم أصبح تسلية هائلة للموسيقي. كل الموسيقيين يرتجلون، ربما لتسليتهم الخاصة، وهذا شيء ربما لا يمارس في الفنون الأخرى. لنستمع الى ما تقوله مغنية الأوبرا ماري غوردن في ارتجالات ديبوسي: كان ديبوسي يجلس أمام البيانو ويشرع في الارتجال عليه ساعة من الزمن أو نحو ذلك. تلك الساعات كانت أشبه بالجواهر في ذاكرتي، لم يسبق لي أن استمعت الى مثل تلك الموسيقى في حياتي كلها. لكن، يا للخسارة، لم يدوِّن ديبوسي تلك الارتجالات على الورق، لقد ضاعت تلك الموسيقى الرائعة الى الأبد، ولم يكن لها مثيل حتى بين ما نشر ديبوسي من مؤلفات، كانت شيئاً آخر، يمتّ الى عالم آخر. لهذا كان شومان يقول لزوجته كلارا:"لا ترتجلي كثيراً، إنه تفريط في مادة ثمينة. حاولي أن تدوني كل شيء، وبذلك تلملمين أفكارك وتركزين عليها". - طيب قالت جليستي، أحب أن أنتقل الى موضوع آخر. سيسعدني أن تبين لي كيف أميز بين بيانو بيتهوفن الذي لا يعجبني، كما تعلم، وبيانو شوبان، وبيانو ديبوسي. ضحكْتُ، وقلت لها: أولاً، أنت مخطئة بالنسبة الى موقفك من موسيقى بيتهوفن... قاطعتني: أنا لا أستطيع أن أهضمه لا هو ولا فاغنر. قلت لها: قد لا تعلمين أنني استغفلتكِ غير مرة وأسمعتكِ هذه السوناتا أو تلك لبيتهوفن، واستعذبتِها. أما بالنسبة الى فاغنر، فقد أسمعتكِ مرة تحويل فرانز ليست لمقدمة أوبرا"لوهنغرين"لفاغنر الى البيانو، واستعذبتِها أيضاً! - وماذا أيضاً؟ - نعود الى سؤالك. إنه سؤال لا يُسأل، فما الذي يجمع بين بيتهوفن وشوبان وديبوسي؟ الناس تسأل مثلاً كيف يمكن التمييز بين سوناتات شوبرت وسوناتات بيتهوفن، أو بين بيانو ديبوسي وبيانو رافيل؟ - هل يعني هذا أنني متخلفة في الموسيقى؟ - بل أمية! - آه، يا إلهي، أنت تستهين بي تماماً. - أنت في حاجة الى إعادة تثقيف موسيقياً! - كيف؟ أنت تعلم أنني أستمع الى موسيقى الجاز والبوب في معظم الأحيان، الى جانب الأوبرا. - فلماذا تسألينني كيف تميزين بين بيانو هذا الموسيقي وبيانو ذاك؟ - لأنني أريد أن أكون على بينة. وأنا لا أحب التخلي عن الموسيقى الكلاسيكية، لأنها بالنسبة لي أشبه بالفلسفة، وأنا أريد أن أتفهم هذه الفلسفة. - آها، أنت تتكلمين الآن عن فطنة، وأنا أسحب كلامي بشأن أميتك بالموسيقى الكلاسيكية. وأعجبني تشبيهك الموسيقى الكلاسيكية بالفلسفة. - وأنا أريد أن أسبر غور هذه الفلسفة، لا سيما في موسيقى البيانو. - أحسنت، فالبيانو وحده مملكة، أمبراطورية. كلا، أريد أن أقول مدينة فاضلة. - فأنا أريد أن أدخل الى هذا المحراب. تطلعت الى وجهها الملائكي وعينيها الساحرتين، وقلت لها: أنت لست في حاجة الى شيء. ضحكَتْ، وقالت: لا تفسدني، لنعد الى موضوعنا. أنا جادة في محاولة فهم موسيقى البيانو، هل أستطيع أن ألمس بعداً فلسفياً في هذه الموسيقى؟ - نعم، هناك بعد فلسفي في بعض موسيقى البيانو، وفي الموسيقى السمفونية. - دعنا من الموسيقى السمفونية، فأنا لا أحتملها. - أنا أعلم بنفورك من الموسيقى السمفونية وما شابهها، لكنني أقول لك إنني شخصياً"شبعت"من الكثير من هذا اللون من الموسيقى، لكنني لا أشبع من سمفونيات بروكنر، ومن موسيقى صوفيا غوبايدولينا. أنا أعلم أنك ترفضين سماع أي عمل سمفوني، فما بالك إذا استغرق هذا العمل ساعة أو أكثر؟ هل لديك مانع إذا أسمعتك شيئاً من موسيقى صوفيا غوبايدولينا؟ - نعم، لدي مانع، استمعت مرة عندك الى شيء من موسيقاها فكانت تبدو لي أشبه بالموسيقى التصويرية في الافلام السينمائية. أرجوك، عد بنا الى موسيقى البيانو، إن موسيقى البيانو وحدها ترحل بي الى الفردوس، فأنا أحب أن ترشح لي أروع ما في موسيقى البيانو. كان هذا طلباً صعباً، فإن لها مزاجاً ضيقاً جداً، ولا أحد يملك حقاً إجبارها على تغيير مزاجها. وعلى سبيل المثال، استطعت بصعوبة أن أقنعها بالاستماع الى كانتاتا"أرمينا أباندوناتا"لهاندل وهي ليست طويلة، فاستمعت اليها، لأن فيها صوت سوبرانو يا إلهي ما أعذبه بمصاحبة التشيلو. قالت لي:"شكراً، هذه موسيقى مذهلة". ثم سألتني: ما هي أحب مقطوعة بيانو لديك؟ في واقع الحال، أنا أحب كل موسيقى شوبان، وكل موسيقى ديبوسي، وكل موسيقى رافيل، وأخص بالذكر موسيقى البيانو، وسأكون انتقائياً جداً وسيحزنني جداً أن أتجاوز موسيقى بيتهوفن -مثلاً- التي بقيتُ مغرماً بها طيلة عمري، وموسيقى فرانز ليست وكل الآخرين، لأن السؤال يركز على مقطوعة واحدة فقط، وفي هذه الحال سأذكر مقطوعتين قبل أن أنتقل الى أحب مقطوعة لدي. هاتان المقطوعتان كلتاهما لموريس رافيل، وهما: Gaspard de la Nuit ،Jeux d"Ea، وهما من أروع المؤلفات الموسيقية على البيانو، والثانية أروع مقطوعة بيانو في القرن العشرين، أنا معجب جداً بها وبالمقطوعة الأخرى، ومع ذلك ذكرت لجليستي مقطوعة Estamps لديبوسي كأحب مقطوعة بيانو لدي، لكنها رفضت الاستماع اليها، لأنها كانت منقولة من الراديو على شريط"كاسيت"، فهي ليست"نقية"جداً، وبذلك أُسقط في يدي.