في 16 أيار مايو 1990، وفي مكتبه، في حي المال اللندني، استقبل رجل الاعمال البريطاني تايني رولاند، المالك السابق لصحيفة الاوبزرفر البريطانية وصاحب الاستثمارات الضخمة في مناطق متفرقة من العالم، خصوصاً في افريقيا، مسؤولاً بارزاً في الاستخبارات الاسرائيلية "الموساد" وديبلوماسياً اسرائيلياً، بناء على طلبهما. ومن دون مقدمات دخل المسؤولان الاسرائيليان في صلب الموضوع: استطلاع امكان قيام تايني رولاند، المعروف بعلاقاته المميزة مع كبار المسؤولين السودانيين، السابقين والحاليين، بوساطة لانقاذ حياة عميلين اسرائيليين يعملان في جمعية اغاثة القت السلطات السودانية القبض عليهما في عام 1985 بسبب دورهما في تهريب يهود الفلاشا في اثيوبيا الى اسرائيل عبر السودان. ولم يخيّب رولاند أمل المسؤولين الاسرائيليين، اذ اكد لهما انه سيفعل كل ما بوسعه لمساعدة الحكومة الاسرائيلية على اطلاق سراح عميليها المسجونين في السودان. بعد أيام من هذا اللقاء حزم تايني رولاند حقائبه وسافر بطائرته الخاصة من لندن الى تل ابيب في 26 ايار مايو 1990، بعد اتصالات هاتفية عدة اجراها معه الديبلوماسي الاسرائيلي الذي ترجح اوساط عليمة ان يكون دايفيد كيمحي، المدير السابق لوزارة الخارجية الاسرائيلية. عندما وصل رولاند الى تل ابيب وجد ان الاسرائيليين يعلقون أهمية كبرى على المهمة المكلف بها، بدليل ان رئيس الحكومة الاسرائيلية اسحق شامير استقبله في اليوم التالي ووضعه في صورة العملية المطلوبة، مشدداً على ضرورة انقاذ حياة شخصين ساعدا آلاف اليهود الاثيوبيين على الهجرة الى اسرائيل عن طريق السودان. وجدد رولاند تعهده بالمساعدة على اخراج العميلين الاسرائيليين من السجن في السودان. بعد انتهاء اللقاء مع شامير كان رئيس الموساد الاسرائيلي رتّب لرجل الاعمال البريطاني لقاءً آخر مع مسؤولين أمنيين لاعطائه خلفية عن حياة العميلين الاسرائيليين ومكان احتجازهما، وهو سجن كوبر الشهير في الخرطوم. ولم يخفِ المسؤول الاسرائيلي ان حكومته كانت على استعداد للقيام بعملية عسكرية خاصة، على طريقة عملية مطار عنتيبي في اوغندا، لانقاذ العميلين السجينين، لكن احتمالات عدم نجاح العملية حالت دون تنفيذها، اضافة الى ما يمكن ان تثيره من ردود فعل سلبية، على الصعيد الدولي. ومن تل ابيب اقلعت طائرة رولاند الخاصة، وهي من نوع "غلف ستريم"، الى الخرطوم التي وصلها مساء 31 أيار مايو 1990. وفي الليلة نفسها التقى رجل الاعمال البريطاني الرئيس السوداني عمر حسن البشير وأثار معه موضوع العميلين الاسرائيليين اللذين حاولت السلطات السودانية الايحاء بأنهما من جنوب افريقيا لابقائهما بعيدين عن الاهتمام الاعلامي. ووعد البشير بالنظر في المسألة، وقال رولاند انه سيعود الى الخرطوم بعد أيام، من دون أن ينسى تذكير البشير بجهوده السابقة لتحقيق السلام بين المتمردين في الجنوب بزعامة جون قرنق وبين حكومة الخرطوم. في العاصمة الكينية نيروبي كان فريق اسرائيلي من الموساد مؤلف من خمسة اشخاص أوفدته الحكومة الاسرائيلية ينتظر رولاند لمعرفة نتائج جهوده في الخرطوم، فطمأنهم بأن هناك ما يبشر بأن مساعيه ستثمر قريباً، وبعد اقامة يومين في كينيا لمتابعة نشاطات شركته عاد رولاند الى الخرطوم وانتقل على الفور الى مكتب الرئيس السوداني عمر حسن البشير الواقع في احدى الثكنات العسكرية القريبة من الخرطوم. وخلال الجلسة مع البشير لم يفقد رولاند الامل بنجاح مهمته، وعندما اثار معه البشير سبب اهتمامه بالسجينين رد رولاند بالقول "ان اسرائيل مستعدة للتآمر ضد حكمك بكل الوسائل، اضف الى ان ذلك قد يعقد الاجراءات التي تتخذ لاجراء مفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان". عندها طلب البشير من رولاند ان يكون "العميلان" تحت رعايته. وصباح الخامس من حزيران يونيو عام 1990 كانت أوامر الرئيس البشير صدرت بنقل العميلين الى المطار حيث يكون تايني رولاند بانتظارهما تمهيداً لنقلهما بطائرته الى خارج السودان. لم تصدق عينا تايني رولاند 74 عاماً لدى وصوله بسيارة رئاسية الى مطار الخرطوم ان الرجلين في انتظاره داخل العنبر حيث كانت تجثم طائرته الخاصة. كانا يرتديان ملابس رثة ويرتعشان من الخوف ظناً منهما انهما سينقلان الى مكان آخر خارج الخرطوم تمهيداً لاعدامهما رمياً بالرصاص. أقلعت طائرة رولاند على الفور الى نيروبي وعلى متنها العميلان. وكانت مفاجأة عملاء الموساد الخمسة الذين ينتظرونه كبيرة، السؤال الوحيد الذي وجهوه اليه، هو كيف نجح باقناع الرئيس السوداني البشير باطلاق السجينين. لكن رولاند لم ينبس ببنت شفة واكتفى بابتسامة قائلاً "افضل عدم الرد على ذلك، فالرئيس عمر البشير يعرف مدى حرصي على استمرار التفاوض بين الحكم في الخرطوم والمتمردين في الجنوب، انه صديق ويعرف ان بامكانه الوثوق بي". أبرق الفريق الاسرائيلي من كينيا الى رئيس جهاز الموساد الاسرائيلي على الفور، وأبلغ رئيس الوزراء حينها اسحق شامير بنجاح جهود تايني رولاند، فوجه شامير رسالة الى رجل الاعمال البريطاني تحمل تاريخ اليوم نفسه الذي اطلق فيه سراح العميلين. تقول الرسالة التي حصلت "الوسط" على نسخة منها، وهي تحمل توقيع رئيس الوزراء اسحق شامير، "انني سعيد لسماع خبر نجاحكم الكبير، وبودي أن اشكرك وأشكر السيد مارك تو احد مساعدي رولاند على هذه العملية المدهشة التي تمكنت بفضلها من اعادة أبنائنا الى الحياة. سنكون شاكرين لك الى الأبد على هذه العملية الانسانية الاصيلة التي قمت بها". وبعث رئيس الموساد الاسرائيلي ببرقية تهنئة اخرى لرولان يقول فيها: "أود ان اعبّر عن تقديري واحترامي العميق على انجازك أمس لما وعدت به. شكراً للرئيس موي دانيل اراب الرئيس الكيني، ولك ولمارك تو، لقد أنقذ شخصان وبمقدورهما العودة الى الذين يكنون لهما المحبة. آمل ان تسنح لي الفرصة لتقديم الشكر لك شخصياً بتكرار زيارتك لنا مرة ثانية قريباً، وآمل ان تكون هذه الزيارة برفقة زوجتك". وبعد مرور عام على اطلاق سراحهما بعث العميلان الاسرائيليان الى تايني رولاند رسالة شكر جاء فيها: "عزيزنا السيد رولاند، قبل عام بالتمام، في الخامس من حزيران يونيو عام 1990، جئت الى السودان في مهمة لانقاذنا، قادماً من الاجواء الاوروبية، لكن بالنسبة الينا، كنت كالقادم... لانقاذنا من براثن الموت. اننا لا نعرف كيف سنشكرك على عملك الرائع. نريدك ان تعلم اننا نعيش الآن بين عائلاتنا واصدقائنا ونتطلع الى مستقبل افضل وكل ذلك بفضل كرمك. تقبل تمنياتنا الطيبة لك ولأسرتك". يوم الثلاثاء في الثاني والعشرين من آذار مارس الماضي كشفت صحيفة "حداشوت" الاسرائيلية عن مهمة رولاند في السودان، اي بعد مضي حوالي ثلاث سنوات على اقناعه الرئيس السوداني عمر حسن البشير باطلاق سراح العميلين. وإذا كانت "حداشوت" حاولت في تحقيقها الايحاء بأن رولاند نجح في تهريبهما من الخرطوم من دون معرفة القيادات السودانية البارزة، وفي مقدمتها الرئيس البشير، الا ان المسؤولين السودانيين انفسهم رفضوا التعليق على الخبر بل وحاولوا تكذيبه. وقد اكدت "الوسط" لحكوميين سودانيين انها تملك نسخاً من رسائل شكر وجهها مسؤولون اسرائيليون الى تايني رولاند، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق اسحق شامير، الا ان جواب المسؤولين السودانيين هو ان الذين اطلق سراحهم هم من سكان جنوب افريقيا، وقد يكون تم ذلك من دون معرفة القيادات العليا، الامر الذي ينفيه حديث تايني عن هذا الامر في اكثر من مناسبة. وحين سئل رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق اسحق شامير، قبل ايام، عن رسالة الشكر التي بعث بها الى تايني رولاند قبل ثلاث سنوات، قال: "أريد أن ادقق في هذا الامر مع شخص ما"، وحين سئل كيف كشفت عملية انقاذ العميلين، قال شامير: "بوسعي القول ان هؤلاء ليسوا من الموساد، وأن هذه العملية لم تهدف إلا لانقاذ حياة يهود". وبعد سؤال آخر عما اذا كان هناك يهود مقيمون في السودان، قال شامير: "نعم هناك يهود يقيمون في تلك المنطقة". وحول طلب اسرائيل مساعدة رجل اعمال بريطاني في هذه القضية قال شامير ان "مثل هذه الامور تحدث اذا تمكن شخص ما من مساعدتنا لانقاذ يهود". ورفض شامير الافصاح عن تفاصيل اخرى عن العملية، لانه "ربما بسبب نشر هذه التفاصيل يتضرر شخص ما، ان هذا الشخص ليس يهودياً ولا اسرائيلياً". ولعل ما أثار دهشة الكثير من المراقبين العرب والاجانب هو عدم صدور رد فعل سوداني على قصة رولاند في الخرطوم واستمرار زياراته المتكررة لها ونقله للعديد من المسؤولين فيها بطائرته من لندن الى الخرطوم ومن الخرطوم الى ابوجا ونيروبي وغيرها. ويعزو بعض الخبراء السودانيين عدم حماس الحكومة للتعليق على قصة العميلين الاسرائيليين اللذين اخرجا من الخرطوم الى معرفة الحكومة بنشاط اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية داخل الاراضي السودانية وحولها، ويسرد الخبراء جملة من الوقائع التي حصلت اخيراً، فيقولون ان الحكومة السودانية على اطلاع على بعض هذه النشاطات، وان وزارة الخارجية السودانية طلبت من بون سحب ديبلوماسي الماني قبل نهاية العام الماضي بعد ان تأكد لديها انه على ارتباط بجهاز الاستخبارات الاسرائيلية الموساد، وقد استجابت الحكومة الالمانية لطلب السلطات السودانية وسحبت الديبلوماسي المطلوب. كما ان هناك عدداً من العاملين في سفارات الدول الافريقية في الخرطوم يعمل لصالح الاستخبارات الاسرائيلية ولديهم اتصالات مع عملاء سودانيين، اضافة الى الوجود المكثف للقطع البحرية الاسرائيلية على شواطئ البحر الاحمر. ويؤكد مسؤول سوداني لپ"الوسط" طلب عدم الكشف عن اسمه ان "زورقاً حربياً اسرائيلياً كان على بعد 37 كيلومتراً شمال شرقي بورسودان ارتطم بالشعب المرجانية اثناء قيامه بأعمال تجسسية في اواخر العام الماضي، وقد تدخلت السفارة الاميركية في الخرطوم لدى السلطات السودانية وأبلغتها ان سفينة اميركية كانت آتية من الاردن اصطدمت بالشعب المرجانية على مقربة من الساحل السوداني، وطلبت السفارة الاميركية عدم الاقتراب من السفينة، وعندما قامت احدى طائرات الهليوكبتر السودانية باستطلاع المنطقة، اكتشفت ان السفينة مجهزة بمعدات لاسلكية وتحمل مدفعاً متطوراً. ولم تستغرق العملية ساعات عدة قبل ان ينجح الاميركيون في اصلاح السفينة، الامر الذي سهّل مغادرتها المنطقة قبل وصول البحرية السودانية". وقد اعترفت احدى الصحف الاسرائيلية بوقوع حادث من هذا النوع، الا انها قالت ان الزورق الاسرائيلي الذي ارتطم بالصخور على مقربة من السواحل السودانية كان مخصصاً للصيد، الامر الذي تنفيه رواية المسؤولين السودانيين الذين تابعوا الحادث واطلعوا على الصور التي التقطت للزورق. ويعزو المسؤولون السودانيون النشاط المكثف للاستخبارات الاسرائيلية في السودان ومحيطه الى مساحة السودان الواسعة وعدم وجود الامكانات المادية التي يتطلبها انشاء سياج امني فعّال ومتطور. ولعل ذلك من بين الاسباب التي دفعت المسؤولين في الخرطوم الى عدم اثارة قضية نشاط رولاند واستمرار صداقته لهم او حتى التعليق على زيارة رئيس الحكومة الاريترية الموقتة اساياس افورقي للعلاج في اسرائيل قبل اشهر، وهو المعروف بتحالفه مع الحكومة السودانية. ويعرف تايني رولاند حقيقة الاوضاع في السودان اكثر من غيره، ومعرفته هذه تعود الى الايام الاولى من حكم الرئيس السوداني السابق جعفر نميري في مطلع السبعينات. ويروي مسؤولون سودانيون لپ"الوسط" وآخرون اجانب، اهمية الدور الذي لعبه تايني رولاند في افشال محاولة الانقلاب الشيوعي ضد الرئيس جعفر نميري في حزيران يونيو عام 1971. ويقول الدكتور منصور خالد وزير الخارجية الاسبق في عهد نميري وأحد أبرز مستشاري الدكتور جون قرنق لپ"الوسط" انه في الوقت الذي تم فيه الانقلاب وجرى اعتقال الرئيس نميري من قبل "حركة الضباط الاحرار" كان وفد تجاري سوداني يقوم مع وزير الدفاع حسن عباس باجراء مباحثات في لندن مع المسؤولين البريطانيين في امكان حصول السودان على اعتمادات مالية بعشرة ملايين جنيه استرليني، وقد صودف وجود العميد بابكر النور الذي اختير لتزعم الانقلاب في لندن، وكان كل هؤلاء المسؤولين يتلهفون لسماع الاخبار من الخرطوم. وبعد انتهاء المباحثات سافر الوفد السوداني برفقة وزير الدفاع ووزراء آخرين الى يوغوسلافيا في زيارة عمل، واثناء وجودهم في بلغراد سمعوا باعتقال الرئيس نميري. وتدخل رجل الاعمال السوداني المعروف خليل عثمان لدى رولاند الذي ارسل طائرته الخاصة الى بلغراد حيث نقلت وزير الدفاع حسن عباس الى القاهرةوطرابلس الغرب للاجتماع بكل من الرئيس انور السادات والعقيد معمر القذافي. وفي 21 حزيران يونيو 1971، امر وزير الدفاع السوداني عبر الراديو الليبي القوات الموالية للرئيس نميري بالدفاع عن الحكومة. وفي الليلة نفسها كانت طائرة نقل بريطانية من طراز في سي - 10 تقوم برحلة الى الخرطوم عبر الاجواء الليبية وكان على متن الطائرة المدنية التابعة للخطوط الجوية البريطانية العميد بابكر النور رئيس مجلس قيادة الثورة الجديد وفاروق حمدالله اللذان عقدا قبل مغادرتهما لندن مؤتمراً صحفياً قالا فيه انهما يعودان الى الخرطوم لتسلم السلطة. في تلك الاثناء نجح احد عملاء الاستخبارات البريطانية بحجز مقعد له على الطائرة المذكورة، وبعد توقف الطائرة في مطار روما، نجح عملاء آخرون في الصعود اليها واثناء مرورها في الاجواء الليبية، امر عناصر المجموعة قائد الطائرة بالهبوط في قاعدة بنينه الجوية، حيث اعتقل النور وحمدالله قبل ارسالهما الى السودان لاعدامهما رمياً بالرصاص، الامر الذي وضع حداً للحركة الانقلابية وأدى الى سيطرة انصار الرئيس نميري مجدداً على الوضع. ولم تستبعد الدوائر الغربية، خصوصاً البريطانية، ان يكون لنيكولاس إليوت العميل السابق في جهاز الاستخبارات البريطاني وصديق تايني رولاند دور بارز في فشل المحاولة الانقلابية، اذ ان إليوت عرف بصلاته القوية ومعرفته الوطيدة بمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا. ويعود الفضل في معرفة الرئيس جعفر نميري لرولاند الى رجل الاعمال السوداني خليل عثمان الذي كان احد المساهمين في شركة لونرو ووراء تشجيعه على تأسيس مشروع كنانة لصناعة السكر في منطقة النيل الابيض في مطلع الثمانينات. لكن سيطرة شركة لونرو التي يملك معظم اسهمها تايني رولاند على ادارة مشروع كنانة لم ترق للمستثمرين الكويتيين والاجانب فجرى التقليص من صلاحياته وتراجع اسهمه، بعد زيادة قيمة رأسمال المشروع، الى اقل من نصف في المئة من المجموع العام لأسهم الشركة في الوقت الحاضر. بعد ذلك استمرت علاقة رولاند بالرئيس نميري، اذ كان دائماً يتطوع للمساعدة. وعندما بدأت حركة التمرد في جنوب السودان تطوع رولاند للمساهمة في التوسط من خلال علاقته بالرئيس الكيني، دانيل اراب موي، وذهب رولاند في العام 1983 الى اديس ابابا لمقابلة جون قرنق حيث عرض عليه استعداد الرئيس جعفر نميري لتوقيع اتفاق معه وتعيينه نائباً للرئيس ومنحه حق اختيار عدد من الوزراء، ورفض قرنق العرض ولم تسفر المحاولات التي بذلها لاصلاح ذات البين بين الطرفين السودانيين عن نتائج ايجابية. بعد سقوط نظام الرئيس نميري عاد تايني رولاند مرة اخرى الى السودان عبر رجل الاعمال السوداني خليل عثمان الذي اصبح في حينها عضواً في البرلمان ويمت بصلة نسب الى الصادق المهدي من خلال زواجه من شقيقة مبارك المهدي، هذه العودة لتايني رولاند اتبعها بتنمية علاقاته مع الحركة الشعبية في جنوب السودان، فصار قادة حركة جون قرنق ينزلون في ضيافته ويتنقلون بطائراته الخاصة. وينفي مقربون من جون قرنق ان يكون رولاند ساهم مادياً بدعم حركتهم، او ان تكون لشركة لونرو اية مشاريع في جنوب السودان، لكنهم يعترفون بأن تايني رولاند "بعيد النظر"، وهو يراهن على التوصل الى اتفاق سلام يفيده مستقبلاً لجهة الاستثمار في النفط او الثروة الزراعية. ويعترف مسؤولون في الحركة الشعبية في حديثهم لپ"الوسط" ان جون قرنق كثيراً ما كان يختلف مع لونرو الذي كان يحاول فرض تصوراته وآرائه عليه، ويروي هؤلاء ان لونرو اقنع الرئيس عمر حسن البشير بأن قرنق سيحضر الى نيروبي مطلع العام 1990 ليلتقيه، وحين حضر البشير لم يجد قرنق، فطار تايني رولاند بطائرته الخاصة الى اديس ابابا لاقناع جون قرنق بالحضور، لكن قرنق رفض وكانت كارثة لتايني رولاند لأن رئيسي دولتين كانا ينتظران جهوده. ويعيد المسؤولون في الحركة الشعبية سبب رفض قرنق الحضور الى عدم استشارته مسبقاً حول ذلك اللقاء وأهدافه. ويقول مسؤولون حكوميون سودانيون ان رولاند كان يطمح، في مرحلة من المراحل، الى الحصول على حق استخراج النفط في السودان بعد ان تنازلت شركة شيفرون عنه، لكن محاولاته بلعب دور الوسيط لم تنجح. ويذكر مسؤولون في الحركة الشعبية ان رولاند يستخدم نفوذه لدى المسؤولين الكينيين للضغط على الحركة الشعبية احياناً. واقتصرت علاقة تايني رولاند بالصادق المهدي على جهود الوساطة التي يبذلها، لكنه فشل في ترتيب اي لقاءات بين قرنق والمهدي، ومع ذلك فان اللقاءات الناجحة والمباشرة بين قرنق والمهدي تمت، سواء خلال اجتماع كوكادام عام 1986 او اثناء مشاركة الصادق المهدي في مؤتمر القمة الافريقية في شهر حزيران يونيو من العام نفسه في اديس ابابا. وتروي مصادر اخرى ان رولاند الذي يدير نشاطات استثمارية قديمة في جنوب افريقيا رتب زيارة وفد سوداني الى جنوب افريقيا العام الماضي، ومع ان وزارة الخارجية في جنوب افريقيا لم تسجل زيارة رسمية سودانية لبلادها، فان متحدثة باسم الوزارة قالت لپ"الوسط" ليس بامكانها التعليق اذا كانت الزيارة تمت بطريقة خاصة. ويرتبط تايني رولاند بصداقة وطيدة مع كل من علي الحاج ونافع علي نافع رئيس جهاز الامن السوداني، ويكثر هؤلاء من استخدام طائرته الخاصة في تنقلاتهم. ويذكر الدكتور منصور خالد وزير الخارجية السوداني السابق رواية عن تحرك سياسي لصاحب شركة لونرو تم في شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي فيقول: "التقى رولاند بالدكتور جون قرنق في نيروبي وطلب منه ان يسافر الى ليبيا للاجتماع بالعقيد القذافي، وأبلغه ان البشير سيكون موجوداً في طرابلس في الفترة نفسها وسيعمل العقيد القذافي على التوصل الى اتفاق نهائي بشأن الوضع في جنوب السودان. وعندما سأل قرنق عن سبب عقد الاجتماع في طرابلس رد تايني رولاند ان العقيد القذافي وعده بالضغط على الفريق البشير لقبول اية شروط يراها قرنق ضرورية، وأردف رولاند قائلاً: "اذا رفض البشير عرض القذافي فان ليبيا ستعاود تقديم الدعم للحركة الشعبية بالصيغة نفسها التي كانت عليها ايام عهد الرئيس جعفر نميري". ويعترف الرئيس الليبي معمر القذافي بعلاقاته برجل الاعمال البريطاني المولود في الهند عام 1917 من أب الماني يدعى ويلهام فردريك فيهرهوب اثناء سجن والديه في معسكر اعتقال. وروى العقيد القذافي لصحفية اميركية قابلته قبل اشهر عدة ان رولاند "صديق في مجال الاعمال وهو يرتبط بعلاقات وطيدة مع زعماء عدد من الدول الافريقية وله نفوذ واستثمارات واسعة في المناجم والفنادق، اضافة الى تأثيره في العالم الغربي". وحسب قول الصحفية ماري كولفن التي تعمل مسؤولة عن قسم الشؤون الدولية في صحيفة "الصاندي تايمز" البريطانية لپ"الوسط" فان العقيد القذافي ومسؤولين آخرين يناقشون منذ مدة عقد صفقات مشتركة في عدد من الدول الافريقية". ولا يخفي تايني رولاند علاقته بليبيا، لا سيما بعدما دفعت الحكومة الليبية عبر شركتها الاستثمارية مبلغ 5،177 مليون جنيه استرليني مقابل حصولها على ثلث الاسهم في سلسلة فنادق متروبول التي تمتلك ستة فنادق منتشرة في المدن البريطانية الرئيسية. وفي مقالة كتبها تايني رولاند عن علاقته بالعقيد معمر القذافي قال رئيس مجلس ادارة شركة لونرو ان ما يذكره عن اول لقاء مع العقيد معمر القذافي بعد اشهر قليلة من تسلمه الحكم في العام 1970 انه قال له "اريد ان تكون لي علاقة طيبة مع الحكومة البريطانية" وشكا القذافي في اللقاء مع لونرو من وجود سفير بريطاني غير متفهم في ليبيا. ويضيف رولاند "كانت ليبيا وقّعت عقداً قبل وصول القذافي الى الحكم لشراء محطة رادار، وقد زادت قيمة الصفقة بعد دفع العمولات عن ثلاثين مليون جنيه استرليني. وقد اعتبر القذافي الصفقة بأنها غير موفقة ولا تحتاج ليبيا الى الرادار، لكنها لا تريد اعادته بل تبديله بأشياء اخرى تحتاج اليها ليبيا، وعندما اثار تايني رولاند الامر مع انطوني بارسنز الذي كان يومها رئيس قسم الشرق الاوسط وشمال افريقيا في وزارة الخارجية، جاء رد الديبلوماسي البريطاني سلبياً، وأبلغ رولاند انه لا يعرف العرب وان المسؤولين الليبيين لن يتجرأوا على لمس الودائع البريطانية، وقد أصر رولاند على بارسنز ليبلغ رئيس الوزراء البريطاني السير اليك دوغلاس هيوم ان الحكومة الليبية تنوي تأميم شركة بريتش بتروليوم العاملة في ليبيا، لكن بارسنز لم يعر هذا الكلام اي اهتمام، لكن بعد اسبوع حصل ما حذّر منه رولاند. وعن لقائه الاخير بالعقيد القذافي يقول رئيس مجلس ادارة شركة لونرو انه تم في شهر نيسان ابريل من العام الماضي، وان القذافي ابلغه ان شركات بريطانية عدة ابلغته قلقها من احتمال خسارة عقودها مع ليبيا اذا استمرت المقاطعة، كما ان شركات بريطانية اخرى تتعامل مع ليبيا عبر مالطا، وان طرابلس ترتبط بشراكة وعقود عمل مع جنرال اليكتريك تبلغ قيمتها عشرات ملايين الجنيهات الاسترلينية، ويدعو تايني رولاند في مقاله عن ليبيا نشره في "الاوبزرفر" الى عدم نسيان القول الآتي "اعداء اليوم، اصدقاء الغد". وربما تفسر هذه العبارة سر محاولات رولاند فتح خطوط مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في الفترة الاخيرة في الوقت الذي لا ينكر فيه كثيرون اخبار صداقته وعلاقاته الطيبة مع الاسرائيليين، وفي مقدمتهم ديفيد كيمحي نائب رئيس جهاز الاستخبارات الاسرائيلية السابق والامين العام السابق لوزارة الخارجية الاسرائيلية. ويؤكد بسام ابو شريف نبأ اتصال رولاند بالرئيس الفلسطيني، وحسب قول ابو شريف لپ"الوسط" فان عرفات التقى بتايني رولاند قبل حوالي عام ونصف عام في تونس، وكان محور الحديث الاوضاع السياسية. ونفى ابو شريف ان يكون رولاند فكر بطرح نشاطات تجارية على المنظمة. ويعتبر مسؤولون فلسطينيون آخرون تحدثوا لپ"الوسط" ان رولاند لم يبهر عرفات في لقائه معه، فكان لقاؤه الأول والاخير. ان من يعرف تايني رولاند وحجم نشاطاته التي بدأت في جنوب افريقيا عام 1948 وامتدت لتشمل دولاً عدة، منها انغولاوكينيا وزامبيا وزيمبابوي والسودان وموروشيوس وليبيا وغيرها من بلدان اميركا اللاتينية وأوروبا ودعمه لبعض الحركات المعارضة في هذه الدول وخدماته للاسرائيليين ومحاولته مد الجسور مع الفلسطينيين، يكتشف ان الرجل لا "هيبة" له في بلده ولا نفوذ، لدرجة ان ملكة بريطانيا التي تكرّم رجال الاعمال الناجحين لم تنعم عليه حتى بوسام صغير، ولم تدعه ذات يوم لزيارة قصرها، حتى ولو كان ضيفها يتباهى بأن أعز اصدقائه هم رؤساء دول في افريقيا.