على قدر قامته الفنية في مجال الموسيقى كان الحفل الذي أقيم مساء الجمعة في دار الأوبرا المصرية في ذكرى رحيل الموسيقار العبقري المبدع بليغ حمدي، فقد قُدِّمت الكلمات التعريفية ومن ثم شدا بعض الفنانين الشبان من الجيل الجديد ببعض الأغاني التي لحنها بليغ لكبار المطربين والمطربات الذين غيب بعضهم هادم اللذات، مثل عبدالحليم حافط ووردة الجزائرية وكوكب الشرق أم كلثوم، وأبعد البعض كبر السن، وبقيت الحانه بأصواتهم في المقدمة مع مرور الزمن وكأنها وضعت لكل الأزمان، فكان الحفل الكبير كتصفح البوم صوتي لإسماع وإمتاع الحضور. لقد تم التغني بأضمومة من إبداعه الموسيقي الرائع والمغاير لما كان سائداً، مثل موسيقى حاول تفتكرني، ومولاي، وتخونوه، وياحبيبي الحب عذاب، وطاير ياهوى، وسيرة الحب وغيرها من الألحان التي كان لها تأثيرها في الساحة الفنية العربية عموما، حيث كان ملحناً للجميع، ومساندا للمبدعين مالكاً لثروة موسيقية عربية يترسم خطاها من تأثر به من الملحنين اللاحقين ولم يزالوا. في بداية الثمانينيات كان الراحل في زيارة للمملكة، وكان محل حفاوة المهتمين بالفن من المسؤولين وعشاق النغم ومقدريه، وفي إحدى المناسبات الخاصة بحضور مختصر، وبحكم الفضول الصحفي تبادلت الحديث معه وأبديت رغبتي في إجراء حوار صحفي معه لحبي للفن ولبليغ المتوقد الذي دخل بين كبار الموسيقيين والملحنين وتجاوز بعضهم بمسافات في مدة قصيرة، وأثبت ذلك بكل جدارة، فلم يبد اعتراضا وكان موعد اللقاء في الفندق الذي يقطنه وحدد أن لا يزيد عن نصف ساعة، وبدأنا الكلام أسأل فيجيب مسترسلا وكأنه يقرأ من كتاب، ومر بنا الوقت والحديث، وهاتف الغرفة يرن بين حين وآخر والوقت يمر مما اضطره إلى إشعار عامل السنترال بعدم تحويل المكالمات إليه – وقتها لم يكن الهاتف الجوال – لقد كان يتحدث ليس بلسانه فقط بل بقلبه فهو يوحي ويؤكد لك أنه خلق ليكون فناناً خالداً نظراً لحبه وعشقه وموهبته وتمكنه من الأدوات كاملة، إذ هو بستان فن متنوع من الموسيقى، وتحول نصف الساعة إلى ما يفوق الخمس ساعات، وكان الحديث والحوار طويلاً. وبمناسبة هذه الذكرى الرابعة والعشرين لرحيله، عادت بي الذاكرة إلى ذلك الحوار المطول الذي عملت على إضافة مقدمة ومؤخرة تتناول بعض ما أنتج بعد الحديث وما جرى له من أحداث وتنقلات، وما قدم بعد ذلك حتى وفاته، والكتاب في طور الاكتمال وسيصدر قريبا (كنت أتمنى مع هذه المناسبة) ولكن حالت مسائل لم تكن في الحسبان خاصة فقدان بعض الأوراق من الحديث. ولكن كمشاركة وتذكير أورد المقدمة التي كتبتها ذلك الوقت، وأترك الحديث كاملا للكتاب: "ربما كان الموسيقار بليغ حمدي هو واحد من الجيل الذهبي الذي جاء بعد جيل العمالقة، فهنا واحد من فرسان عصر الغناء العظيم الذي انتهى أو يكاد بعد تألق استمر لنصف قرن أو يزيد، لقد رحل أبطال هذا الجيل واحداً بعد آخر، وكان آخرهم هو رياض السنباطي الذي طوى بموته صفحة خالدة من تاريخ النغم الشرقي، وبقي عبدالوهاب في الساحة ولكنه أصبح تاريخا أكثر مما هو -الآن- إبداع متجدد، فقط ظل فرسان الجيل التالي مثل كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي هم فتيان الحلبة – الكلام في الثمانينيات من القرن الماضي – ومع هذا فقد أخذت الإدارة كمال الطويل من عالم النغم، وظل الموجي يصارع نزواته حينا والمرض حينا آخر، وبقى بليغ حمدي وحده تقريبا يحمل قيثارته على كتفه ويتجول باحثا عن نغمة شعبية في الخليج، أو أغنية مجهولة في المغرب، أو لحنا رائعا في شمال العراق أو جنوب السودان، وهو في رحلة العشق والنغم هذه ظل وفيا لشيء واحد هو فنه وموسيقاه، ولهذا بقي بليغ على نفس القمة التي اعتلاها قبل سنوات طويلة يقدم عطاءه بنفس الموهبة والخصوبة والعمق على امتداد ثلث قرن، وأجمل مافيه أنه لم يتوقف يوما عن البحث والدراسة والتجريب. عندما احتضن العود كعادته دوما قلت هل العود رفيق رحلاتك الدائم؟ قال: إنه مثل جواز السفر، قلت: نستطيع أن نكتب عنك من خلال هذا العود وحده؟ (ضحك) وقال: نعم نستطيع، إنها قصة طويلة، ولكنها قصة أخرى".