تعكس القروض التي يحصل عليها القطاع الصناعي السعودي توجهاً متزايداً نحو توسيع مشاركة المصارف السعودية في سوق التسليف المتوسط الأجل، بعدما كان معظم عملياتها يتركز على سوق التسليف التجاري لفترات قصيرة لا تزيد عن 3 سنوات. وطبقاً لتقديرات متطابقة، فان قيمة القروض التي قد يحصل عليها القطاع الصناعي السعودي قد تزيد حتى نهاية العام الجاري عن 5،7 مليار ريال 8،1 مليار دولار، من بينها حوالي 8،4 مليار ريال 3،1 مليار دولار، تم الالتزام بها في خلال العامين الماضيين. واستناداً الى خبراء مصرفيين في السعودية، فان مشاركة القطاع المصرفي الوطني في توفير جزء اكبر من التمويل للمشاريع الصناعية مرشحة للتوسع في السنوات الخمس المقبلة، لاعتبارات عدة، ابرزها فائض السيولة المتوافر حالياً في السوق المحلية، وتوجه الاستثمارات والرساميل الوطنية الى التركز في السوق الداخلية، بعدما اظهرت الاوضاع في المنطقة ميلاً اقوى نحو الاستقرار، وتجاوز انعكاسات حرب الخليج. ويقدر حجم الفائض في السيولة في السوق السعودية في نهاية العام 1992 بما بين 240 و300 مليار ريال بين 64 و80 مليار دولار موزعة في معظمها على شكل ودائع تجارية في المصارف المحلية. وساهم ضعف الفوائد على الريال، وعلى الدولار الاميركي اقل من 3 في المئة في تحول فئات اكثر الى التوظيف في سوق الاسهم، وفي قطاع العقارات لتحقيق معدلات اكبر من العوائد والارباح. وبرزت في الفترة الاخيرة مخاوف من ان يؤدي تدفق الرساميل على قطاع العقار الى تكرار ما حصل في سوق الاسهم عندما "فارت" الاسعار خلال اشهر لتتراجع في اسابيع، مع ما يمكن ان يستتبع ذلك من خسائر تلحق بصغار المستثمرين والمتعاملين. وليس ادل على استمرار فائض السيولة، وحاجة المستثمرين الى فرص اوسع للاستثمار، من الفوائض المرتفعة التي سجلتها الاكتتابات العامة بأسهم المصارف التي سعت طوال العام الماضي، ومطلع العام الحالي الى زيادة رساميلها. ويجمع محللون اقتصاديون على اعتبار عودة الرساميل الى منطقة الخليج، بعدما كانت غادرتها في العامين 1990 و1991 من اهم المؤشرات على الثقة بمستقبل الاوضاع في المنطقة، في اشارة واضحة الى الاستقرار الذي ثبت انه اكثر رسوخاً مما كان يعتقده البعض. وتندفع المصارف السعودية في الوقت الحاضر نحو توسيع قاعدة الخدمات التي تقدمها لعملائها، وبدأ البعض منها تطبيق سياسة توسع في مجال الاقراض الشخصي لزيادة حصتها في السوق من جهة، وايجاد قنوات توظيف للودائع المتعاظمة لديها. الا ان اللافت هو ان مصارف سعودية متزايدة بدأت تدخل سوق الاقراض المتوسط الاجل، سواء بشكل محلي بالكامل، او بالمشاركة مع مصارف اجنبية ذات خبرات واسعة في هذا النوع من التسليف. ويترافق دخول المصارف السعودية سوق الاقراض المتوسط الاجل، ومساهمتها في توفير قروض صناعية، سواء لمصانع ما زالت في مرحلة التأسيس، او لمصانع تنوي تحقيق توسعات عدة، واتجاه مؤسسات الاقراض الحكومي الى تقليص حصتها من سوق التسليف، بعدما كانت هذه المؤسسات تغطي الجزء الاهم من عمليات تمويل المشاريع الصناعية الجديدة. لقد كانت تركيبة التمويل الصناعي في السعودية في المرحلة السابقة تقوم على مساهمة المؤسسات الحكومية صندوق الاستثمارات العامة، وصندوق التنمية الصناعية السعودية بنسب تصل في احيان كثيرة الى 60 في المئة من الكلفة التقديرية، في مقابل 30 في المئة للمساهمين والمستثمرين، سواء كانوا من المحليين او من الاجانب، الى جانب 10 في المئة توفرها المصارف التجارية. ويقول مصرفيون ان السياسة الحكومية باتت تركز في الوقت الحاضر على اهمية زيادة مساهمة المستثمرين من جهة، والمصارف من جهة ثانية في عملية التمويل، في مقابل تقليص مساهمة الدولة. ويتوافق هذا المنطق الجديد مع اعتبارات اساسية، ابرزها ضرورة فسح المجال امام القطاع الخاص لزيادة مساهمته في الدورة الاقتصادية في البلاد، بعدما لعبت الدولة دور المحرك الرئيسي للدورة الانتاجية طوال العقود الثلاثة الماضية. ويقدر حجم الاستثمارات السعودية العائدة للقطاع الخاص في الخارج بحوالي 105 مليارات دولار، اضافة الى تعاظم مستوى الادخار على المستوى الفردي، والذي يمكن ان يصل الى 15 وحتى 25 في المئة من مجموع المداخيل في السعودية، وأظهرت دراسة اجريت العام الماضي حول مستويات الادخار ان حجم الادخارات السنوية في مدينة جدة وحدها يصل الى اكثر من 4 مليارات دولار سنوياً. وتتزايد القناعة الرسمية في السعودية بضرورة ان يصبح القطاع الخاص قادراً على الاستمرار من دون الاتكال بشكل كلي على الدولة التي يمكن ان يتراجع دورها الى مستوى الاشراف والتوجيه، وتوفير الخدمات الاساسية المتطورة، الى جانب تأمين الاطر القانونية اللازمة. وتترسخ قناعات جديدة مفادها ان اتكال المشاريع الصناعية على التمويل من المساهمين فيها اما بشكل مباشر او بواسطة القروض من المصارف التجارية، سيزيد من التزام المالكين بضرورة انجاحها، كما ان اتجاههم للحصول على حاجتهم من التسليف المصرفي سيزيد من حرصهم على اجراء الدراسات الاولية الكافية. ويقدر حجم ما سيحتاجه القطاع الصناعي السعودي في السنوات القليلة المقبلة بحوالي 10 مليارات دولار. واذا ما التزمت الحكومة بفرض اجراءات جديدة لتقليص دورها في تمويل التوسعات الصناعية المخطط لها، فان الاعباء ستتوزع مناصفة على المستثمرين، كما على المصارف، على ان تتراجع حصة التمويل الحكومي الى مستوى حصة الاقلية. ويقول مصرفيون في جدة والرياض ان حجم الودائع والملاءة المالية التي تتمتع بها المصارف السعودية، ستسمح لها بتوفير التمويل اللازم، الا ان المشكلة التي ستبرز في حال زيادة المساهمة المصرفية في قروض متوسطة او طويلة الاجل ستكون هي التالية: ان التسليفات التي تحتاجها المؤسسات الصناعية هي تسليفات لآجال لا تقل عن 5 سنوات كحد ادنى، في حين ان معظم الودائع هو ذات طابع تجاري قصير الاجل يبغي تحقيق اعلى معدلات للربح في اقل مهلة ممكنة. ويجمع هؤلاء المصرفيون على اعتبار غياب الاسواق المالية المتطورة في السعودية، كما في المنطقة بشكل عام، عنصراً سلبياً سيحد من قدرة المصارف على اصدار سندات دين طويلة الاجل، كما هي الحال في الاسواق الاوروبية والاميركية، وفي بعض دول الشرق الاقصى. وفي اعتقاد مصرفيين كثر، ان الخلل القائم والمتمثل في عدم تجانس قاعدة الودائع في المصارف مع طبيعة احتياجات القطاع الصناعي، سيقلل كثيراً من عدد المؤسسات المصرفية التي يمكن ان تساهم في عمليات تمويل واسعة. ويتزايد الاعتقاد بضرورة اعتماد التدرج في زيادة مساهمة القطاع المصرفي في التمويلات الصناعية من خلال ايجاد آلية مشتركة تجمع بين الموارد التي يمكن ان توفرها الدولة، الى جانب الموارد التي توفرها المصارف، اضافة الى زيادة حصة المساهمين في المشروع. كما يتزايد الاعتقاد بأن تشجيع المؤسسات المصرفية الوطنية على زيادة دورها في عمليات التمويل المتوسط والطويل الاجل، ربما احتاج، بالدرجة الاولى، الى ضرورة تنمية الاسواق المالية وأسواق الاسهم والسندات، وقيام المؤسسات الهندسية والاستشارية، اضافة الى الاطر التشريعية اللازمة. من المتفق عليه في الاوساط الاقتصادية السعودية ان زيادة مساهمة القطاع الخاص في تحريك الدورة الاقتصادية هي جزء من الاستراتيجية الوطنية للمملكة للعقدين المقبلين. الا ان النقاشات التي تدور حالياً، تتركز على البحث عن الصيغ الممكنة لتطبيق مثل هذه الاستراتيجية.