على مدى 45 عاماً، استطاعت الفنانة الفرنسية جان مورو ان تملأ الدنيا وتشغل الناس بأعمالها الفنية وأدوارها المتميزة التي جعلت منها نجمة فريدة في السينما الفرنسية والعالمية، حيث اعتبرت في احدى الفترات عنوان النجاح لأي فيلم فرنسي في الداخل والخارج. وعلى الرغم من تقدمها في العمر، فجان لم تتوقف عن التمثيل، فآخر ادوارها كان في فيلم "المتشرد". وكانت لمعت في العام الفائت، في "العجوز التي تسير على البحر" الى جانب ميشال سيرو، ومنحت صوتها الى فيلم "الحبيب" لجان جاك آنو من اجل سرد الاحداث طوال عرض الشريط. "الوسط" التقت جان مورو اخيراً في مكتب المسؤول عن العلاقات العامة لفيلم "المتشرد" وكان معها الحوار الآتي: تعملين مع اكبر المخرجين ثم تظهرين فجأة في فيلم لمخرج ناشئ. ألا تخافين المجازفة بسمعتك بهذه الطريقة؟ - سأكون حزينة جداً لو قررت في يوم من الايام الا أعير اهمية للعروض التي تأتيني من مخرجين ناشئين او غير معروفين. فيكون معنى ذلك أن العبقرية هي ملكية المشاهير، وهذا شيء مجرد من الصحة والمنطق. انا لا استطيع حرمان نفسي من دور جيد لمجرد ان مخرج الفيلم لا يعرفه الجمهور العريض بعد. وخلاصة كلامي اني أقرأ السيناريوهات المطروحة عليّ، وأقرر قبول الدور أو رفضه طبقاً لمضمون النص من ناحية ولشخصية المخرج من ناحية ثانية، دون النظر الى نجوميته. وآن لومونييه التي اخرجت "متشرد" خاضت هنا تجربتها الأولى وراء الكاميرا، مما لا يمنع ان يعجبني الفيلم كثيراً، بفضل حساسيته وقوة مواقفه. ولو رفضته لندمت على قراري بعد مشاهدة النتيجة الآن، اما المجازفة فهي تجربة يومية يعيشها الفنان، ولولا ميلي الشديد لها لاخترت منذ البداية وظيفة من نوع آخر. منحت صوتك للتعليق الموجود في فيلم "الحبيب"، وذلك بالفرنسية والانكليزية للنسخة الدولية. فأين اكتسبت معرفتك للغة الانكليزية بهذا الشكل الممتاز؟ - أنا انكليزية من ناحية أمي، وتعلمت اللغة في طفولتي فأتكلمها مثل الفرنسية وأستخدمها فعلاً في مهنتي. عملت في الولاياتالمتحدة الاميركية في السينما والمسرح دون ان تلتصق بي صورة "الباريسية" التي تتكلم الانكليزية. فلكنتي ليست مميزة الى حد التعرف على اصلي الفرنسي عبرها وهذه ميزة أتمتع بها بالنسبة الى زميلاتي الممثلات الفرنسيات. غنيت في فيلم "جول وجيم" لفرانسوا تروفو منذ اكثر من ثلاثين سنة، وبقيت الاغنية في الأذهان على عكس ما يحدث مع ممثلات كثيرات يجربن الاغنية بلا أي نجاح، ومع ذلك لم تستمر تجربتك طويلاً، فما هو السبب في ذلك؟ - أنا أعشق الغناء، لذا فقد تدربت عليه اكثر مما مارسته، اذ اني لا استمر في عمل شيء ولا اتعمق به اذا لم تكن هناك فائدة فعلية من ورائه، أقصد اني غنيت لأن الفيلم كان يحتاج الى الغناء، ولذلك بقيت الأغنية في الاذهان. ولن اغني لمجرد الغناء، وإذا فعلت فلا أصل الى نتيجة جيدة، وأكون ممثلة ارادت ان تثبت قدرتها الغنائية، وهذا شيء لا يهم الجمهور. ذكريات جيدة وسلبية مثلت في أكثر من فيلم اميركي ومع مخرجين امثال ايليا كازان وجون فرانكنهايمر. بماذا تحتفظين في ذاكرتك عن هذه التجارب؟ - أضيف الى كلامك أني عملت تحت ادارة مخرج لامع هو رينر فاسبيندر، لكن التجربة دارت في المانيا وليس في اميركا. وفي ما يخص ذكرياتي الاميركية فهي جيدة وسلبية في آن. والجيد فيها هو عملي في السينما مع المخرجين الذين ذكرتهم أنت ومع غيرهم. فالتمثيل في أفلام تتمتع بامكانات هائلة هو شيء مرضٍ ومريح غير انه يسمح بالتركيز الكلي والكامل على الدور دون الاهتمام بالتفاصيل التقنية الطفيفة المزعجة الناتجة عن قلة الامكانات والتي تقيد حركة الممثلين امام الكاميرا. ولا أعني أن العمل في فرنسا لا يجلب المتعة، فقد حدث ان عملت ايضاً في أفلام فرنسية "ثرية" تضحك، وحتى الفقيرة منها تتميز في اكثر الأحيان بجو انساني دافئ وبروح التعاون بين العاملين. فالتنويع بين الاثنين يسمح بتقدير كل نوع والتمتع به وتفادي الملل الذي قد ينتج عن الشعور الدائم بالعمل في جو واحد لا يتغير. والعمل في هوليوود، خصوصاً مع المخرجين الكبار يتميز بدقة هائلة، فلا يترك أي عنصر للمصادفة ابداً، مما يسمح بضمان النتيجة النهائية بالشكل المرغوب وبلا أي مفاجآت. وهنا ايضاً أقول ان التنويع ضروري، لأن المفاجآت الناتجة عن قبول بعض الامور غير المتوقعة والتي تحدث اثناء التصوير، قد تكون جيدة ومفيدة للفيلم نفسه شرط تمتع المخرج بالقدرة على التمييز بين مفاجآت ايجابية وأخرى سلبية. وتحدث المفاجآت في فرنسا اكثر مما تقع في هوليوود. ما هي ذكرياتك السلبية في اميركا؟ - العمل في المسرح، اذ حصلت على عرض للاشتراك في مسرحية لتنيسي ويليامز، وكان من المفروض ان تبدأ العروض في مدن اميركية ريفية قبل الافتتاح الكبير والرسمي فوق خشبة احد المسارح الكبيرة في نيويورك. وطوال فترة التدريبات كان المخرج يعاملني بطريقة غريبة ويترقب اي فرصة ممكنة ليهاجمني، وإذا غابت الفرص راح يخترعها بنفسه. وقد صبرت كثيراً في البداية الى ان غضبت اخيراً، اذ من طبعي ان اتحمل الكثير تم انفجر فجأة وأترك العنان لما في قلبي دون مجاملة. غضبت إذاً وانفجرت وسألته عن سبب هذه المعاملة، وهو الذي شارك شخصياً في اختياري من اجل الدور فاعترف في لحظة صدق بأنه لولا الحاح المنتجين على تعيين ممثلة فرنسية لبطولة المسرحية لما أقدم ابداً على هذه الخطوة، ولمنح الدور دون تردد الى ممثلة اميركية، ولذلك كان ينتقم مني. وازداد الخلاف بيننا فتوقف العرض قبل ان نصل الى نيويورك وغادرت الفرقة واضعة الحد النهائي لتجربتي المسرحية في الولاياتالمتحدة الاميركية. تناقضات المهنة عشت تجربة شخصية من نوع آخر في اميركا من خلال زواجك من السينمائي ويليام فريدكين، مخرج فيلم "اكسورسيست" الشهير. هل لك ان تتحدثي عن هذه الفترة من حياتك؟ - سأكتفي بوصف زواجي هذا بالفاشل، اذ انه دام عامين بالتحديد. والحكاية الطريفة التي تستحق الذكر بهذا الشأن تخص عودتي الى باريس عقب انفصالي عن فريدكين. فأنا عدت من اميركا مفلسة تماماً، وذلك لأسباب شخصية، وبدأت حياتي في فرنسا، من الناحية المادية، من الصفر مرة ثانية. وبما ان شهرتي كانت بعد في أوجها فقد تلقيت عشرات الدعوات لحضور حفلات ومهرجانات وسهرات سينمائية ومسرحية، وراح كبار مبتكري الموضة يتسابقون على اعارتي احدث وأجمل موديلاتهم لأرتديها في هذه المناسبات. كنت كالامبراطورة رغماً عن افلاسي الشديد، وهذه هي تناقضات المهنة الفنية وسخريتها ومظاهرها المزيفة. لو تكلمنا عن نشاطك المسرحي في فرنسا الذي لا علاقة له بما حدث لك في اميركا لقلنا انه يتميز بالنجاح الكبير جداً على الرغم من قلة اهتمامك به قياساً الى نشاطك السينمائي، فما رأيك؟ - أحب العمل المتقن وإذا وهبت نفسي لمهمة ما فلا بد من ان انجزها على أكمل وجه. فلا أقدر على الجمع في آن واحد مثلاً بين المسرح والسينما، وما دمت أعمل في افلام تعجبني فاني ارفض العروض المسرحية، وإذا حدث ان وقعت عيني على نص مسرحي لفت انتباهي بشكل خاص واستطعت العثور على من ينتجه، او اذا تلقيت عرضاً مسرحياً مثيراً، رفضت العقود السينمائية مهما بدت مغرية وركّزت اهتمامي على المسرح. وأنا حتى الآن لم اظهر في المسرح الا نادراً بعكس السينما، لكن المسرحيات التي اخترت العمل فيها جذبت الجمهور وسمحت لي بالانطلاق الكامل في الاداء. اتذكر آخر دور لي فوق المسرح في مهرجان مدينة افينيون أولاً ثم في باريس، في مسرحية "الخادمة زرلين"، وأقول انه من أجمل الادوار التي يمكن لممثلة ان تعثر عليها. ففي هذه الحالة اترك كل نشاط آخر وأكرس وقتي كله لاتقان الدور. وأنا لا أوافقك الرأي عندما تقول اني لا اعير الاهتمام نفسه الى المسرح بالمقارنة مع السينما. انها اولاً وأخيراً مسألة توقيت وفرص لأداء ادوار حلوة. والذي يعرف أني ارفض اجمل الادوار السينمائية كلما عثرت على عمل مسرحي شيق يقول اني أقل اهتماماً بالسينما. تجربة هائلة شاركت في انطلاق الموجة الجديدة في السينما الفرنسية في الستينات، وهذا شيء قد تحسدك عليه اكثر من ممثلة الآن اذا عرفنا ان الموجة الجديدة هي التي أتت بمخرجين مثل فرانسوا تروفو وكلود شابرول وجان لوك غودار الى الساحة السينمائية الدولية. ما رأيك؟ - شاركت فعلاً كممثلة في افلام هؤلاء الذين ذكرتهم وغيرهم في وقت لم يعرفهم الجمهور العريض بعد. أما أنا فعرفتهم وشعرت برغبتهم في تغيير بعض الاشياء في السينما الفرنسية، وكانت هذه السينما في رأيي تحتاج الى تغييرات لكسر ثباتها، فلم اتردد عن تشجيع الجيل الجديد ووافقت على المشاركة في افلام هؤلاء المخرجين. وكانت التجربة هائلة بالنسبة الى ممثلة شابة تبحث عن امكانية للانطلاق الى أفق جديد لا يشبه ما تم تقديمه مئات المرات في الافلام. عرفت اعمال هؤلاء النجاح وحصلوا على لقب "صانعي الموجة الجديدة". اتمنى لجيل الممثلات الشابات الآن ان يعرف تجربة شيقة كهذه التي عشتها انا في الستينات. فالمشاركة في بناء نمط فني جديد يدخل الى تاريخ السينما في ما بعد هي شيء لا يعوض. لماذا توقفت عن الاخراج بعد فيلمين هما "أضواء" و"المراهقة"؟ - اكتشفت أن موهبتي الاساسية التي تسمح لي بالانطلاق والتعبير عما في داخلي هي التمثيل. فحققت امنيتي في الوقوف وراء الكاميرا وتحويل السيناريو المكتوب الى شريط سينمائي. وعلى الرغم من نجاح الفيلمين اللذين حققتهما، على الأقل من حيث تقدير النقاد، اخترت التفرغ للأداء وترك الاخراج لمن هم يحسنون فعله. فلكل واحد تخصصه.