قضية اللواء المتقاعد مصطفى بلوصيف الامين العام السابق لوزارة الدفاع الجزائرية دفعت المراقبين والمحللين السياسيين الى طرح السؤال الآتي: هل يكفي اصدار حكم بالسجن لمدة 15 عاماً على بلوصيف لاقناع الجزائريين بأن حكومة بلعيد عبدالسلام تريد، فعلاً، محاربة الفساد او "المافيا" حسب التسمية المتداولة في الجزائر؟ قبل الاجابة عن هذا السؤال لا بد من عرض قضية بلوصيف بايجاز. فقد أصدرت محكمة البليدة العسكرية يوم 10 شباط فبراير الجاري حكماً بسجن بلوصيف وكذلك المقدم المتقاعد فقير محمد الهبري، مدير التخطيط والموازنة السابق في وزارة الدفاع الجزائرية، لمدة 15 عاماً، كما اصدرت حكماً غيابياً بالسجن المؤبد في حق الدكتور علاوة بن شوفي صاحب عيادة "هارتمان" في باريس وهو يحمل الجنسية الفرنسية. وقررت المحكمة مصادرة "فيلا السطيحة" الفخمة في الابيار في العاصمة و"فيلا الحمامات الرومانية" في العاصمة ايضاً وهما ملك بلوصيف. والتهم الموجهة الى بلوصيف هي "اختلاس اموال الدولة والتحايل واساءة استعمال السلطة" بينما اتهم الهبري "باختلاس اموال عمومية وتبديدها" والدكتور بن شوفي "بالمساعدة والمعاونة على ارتكاب الجناية المذكورة". وقد حاول بلوصيف اتهام الرئيس السابق الشاذلي بن جديد بأنه هو الذي طلب منه استخدام اموال من موازنة وزارة الدفاع لتأسيس شقة في باريس يملكها بن شوفي، كما طلب منه دفع اموال لبن شوقي. وقد نفى بن جديد هذه الاتهامات في رسالة بعث بها الى محكمة البليدة. وقدم بلوصيف طعناً بالحكم الصادر ضده امام المحكمة الجزائرية العليا. المعروف ان بلوصيف كان يحتل مركزاً مرموقاً في عهد الشاذلي بن جديد، وكان يعتبر خليفته والشخصية الأقوى في الجيش، وهو أول ضابط جزائري يحمل رتبة لواء. وكان يشغل حتى العام 1986 منصب الأمين العام لوزارة الدفاع فضلاً عن رئاسة اركان الجيش ومناصب اخرى، وكان معروفاً بحبه للبذخ والحياة المرفهة، من هنا حرصه على اقتناء منازل وفيلات في اماكن مختلفة من الجزائر واحتفاظه بحسابات مالية في سويسرا. وكان بلوصيف خلال فترة عمله في وزارة الدفاع الأكثر تظاهراً ببذخه من رجالات آخرين في الجيش والدولة، حسب تأكيدات جزائرية ترافقت مع محاكمته، وقد أظهر التحقيق القضائي انه متهم بتحويل أموال الى الخارج والتلاعب بها، ويصل حجم هذه الاموال الى 40 مليون فرنك فرنسي، وأنه متهم بتبديد ما يقارب من 70 مليون فرنك فرنسي في الداخل للعناية بمنازله وفيلاته. وتكفي هذه التهم لتقديمه للرأي العام بوصفه نموذجاً للفساد الظاهر ومثالاً على محاربة الفساد. المتهمان الآخران هما المقدم المتقاعد الهبري مدير التخطيط والموازنة في وزارة الدفاع خلال الفترة الواقعة بين 1970 و1985. وكانت الاموال المهربة والفواتير المزيفة والاختلاسات من كل نوع تمر عن طريقه وبعلمه، وهو لم ينكر التهم الموجهة اليه، ولكنه اكد انه كان ينفذ اوامر بلوصيف ومرؤوسيه. ولم تتمكن المحكمة من سماع اقوال الطبيب الجزائري الاصل بن شوفي، الذي يملك مستشفى صغيراً في ضاحية نويي الباريسية الراقية، كان يستقبل فيها كبار الضباط الجزائريين لقاء فواتير خيالية، من نوع ان كلفة الزيارة الواحدة الطبية هي سبعة آلاف فرنك فرنسي 1400 دولار، فضلاً عن اتهامه باختلاس اموال جزائرية عامة وبالتواطؤ مع بلوصيف والهبري. وقد ظهرت تفاصيل قضية بلوصيف ورفاقه على اثر احداث تشرين الأول اكتوبر الدامية 1988، وانتشار انتقادات علنية في الشارع ضد الفساد، وتوجيه اصابع الاتهام الى عناصر في الجيش الجزائري وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، الأمر الذي دفع الشاذلي بن جديد الى رسم سياسة قائمة على المعطيات الجديدة التي اظهرتها احداث اكتوبر 1988، وتقضي هذه السياسة بابعاد جبهة التحرير الوطني مصدر شكوى الشارع عن الحكم تدريجياً وبفك الارتباط بين الجيش والجبهة عبر سحب العسكريين من قيادة الجبهة اولاً ومن ثم ابعاد الجيش عن ممارسة السياسة المباشرة وحصر مهمته بالدفاع عن الوطن. في هذا الوقت بالذات بدأت تظهر الى العلن روايات خرافية عن الفساد، من بينها ما ذكره رئيس الوزراء السابق عبدالحميد الابراهيمي من ان ديون الجزائر الخارجية تعادل تقريباً حجم العمولات التي حصل عليها مسؤولون جزائريون من جراء الصفقات مع الخارج، اي 20 مليار دولار، وكان بلوصيف في طليعة المتهمين بالفساد والأكثر ظهوراً من غيره من الفاسدين، وكان بالتالي هدفاً سهل المنال. الطريق الثالث لم يكن الشاذلي بن جديد قادراً على تبرير سياسته الجديدة من دون محاربة الفساد، أو على الأقل التظاهر بذلك امام الرأي العام، خصوصاً ان الامر يتعلق بأحد المقربين منه سابقاً، فشكل لجنة تحقيق عسكرية 1989 من خمسة جنرالات، بينهم اللواء خالد نزار وزير الدفاع الحالي، للنظر في التهم المنسوبة لبلوصيف ورفاقه. وقد توصلت اللجنة الى اثبات هذه التهم وطلبت من بلوصيف ايداع الاموال المسروقة النيابة العامة على أن تنتهي القضية عند هذه الحدود، لكن بلوصيف امتنع عن ذلك وفي ظنه ان محاكمته، اذا حصلت، ستكون محاكمة للنظام بكامله، باعتبار ان الفساد لم يكن محصوراً بثلاثة أشخاص فقط. منذ العام 1989 وحتى اوائل شباط فبراير 1993 تأخرت محاكمة بلوصيف بسبب الاضطرابات السياسية الجزائرية، وشكك كثيرون باحتمال تقديمه للمحاكمة. الا ان حكومة سيد احمد غزالي التي رفعت شعار محاربة "المافيا" و"الفساد" ما كان بوسعها تجاهل هذه القضية، تماماً كما كان هو الحال بالنسبة الى حكومة السيد بلعيد عبدالسلام، خصوصاً ان معالجة الأوضاع السياسية المعقدة في الجزائر لا بد لها ان تمر بمحاربة الفساد مصدر شكوى الشارع الجزائري والاسلاميين بصورة خاصة. وقال بلوصيف خلال محاكمته، كما قال الهبري أيضاً، أن مبالغ أكبر وأكثر أهمية اختلست من طرف مسؤولين كبار في الدولة، وأنه اذا لم تكن هناك اثباتات ضدهم فلأن الأوامر والمعاملات الادارية في الجزائر، خصوصاً على مستوى عال، كانت تتم شفوياً، ذلك ان أي موظف لا يستطيع رفض امر شفوي لرئيس الدولة او لوزير الدفاع ولم يكن اي وزير يستطيع التمرد على "الفساد" المكرس كنظام وليس كظاهرة استثنائية. وما قاله بلوصيف هو بمثابة نقد ذاتي متأخر، لكنه يجد كثيراً من الفوائد التي ستعود على الدولة من جراء هذه المحاكمة، خصوصاً ان وسائل الاعلام الجزائرية المستقلة بدأت تتحدث عن الفساد بوصفه جبل ثلج لم يكشف منه سوى كوة صغيرة فقط. لكن على رغم محدودية تأثير محاكمة بلوصيف على تحسين سمعة الدولة في الشارع الجزائري، فان هذه المحاكمة كشفت اموراً جديدة في الجزائر لم يعد بالامكان تجاهلها. فقد أظهرت المحاكمة ان ضباط الجيش يمكن ان يخضعوا للمحاكمة، وذلك للمرة الاولى في فترة ما بعد الاستقلال حيث كان يقدم الجيش بصفته الاسطورية التي اكتسبها خلال حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، ويمكن لهذه المحاكمة ان تشكل عنصراً رادعاً للممعنين بالفساد في المؤسسة العسكرية. ان مبادرة الحكومة الى جعل المحاكمة علنية استجابة لضغط الرأي العام الجزائري الذي استمع الى تفاصيل اتهامات من نوع شراء سجادات ايرانية بثلاثة ملايين فرنك فرنسي وعطورات وملابس فاخرة من اشهر الماركات الفرنسية في وقت يعاني فيه الشباب الجزائري من البطالة والفقر... الخ ان هذه الخطوة تؤكد عزم الحكومة الجزائرية على التصدي لملفات العهد السابق ومن ضمنها الفساد لكن من الصعب ادراك المدى الذي يمكن ان تذهب اليه الدولة في هذا المجال، طالما ان التداخل بين العهدين السابق والحالي واختفاء الحدود الواضحة بينهما، ما زال قائماً. وتبقى محاكمة بلوصيف ورفاقه مؤشراً على نية الحكومة التصدي لما تسميه بپ"المافيا"، لكن "المافيا" ما زالت قوية في الجزائر، بدليل ان محاكمة بلوصيف اقتصرت عليه وعلى رفاقه من المتهمين الظاهرين وشكلت فرصة لمسؤولين كبار لدحض التهم التي وجهها اليهم بلوصيف بامتناع المحكمة عن النظر في هذه التهم وبامتناعها عن استدعاء الرئيس الاسبق الشاذلي بن جديد للحضور الى المحكمة كشاهد في القضية والاكتفاء برسالة منه توضح ان التهمة التي ينسبها اليه بلوصيف بصرف اموال لتأثيث منزل لعائلته في باريس باطلة وانه كان بوسعه ان يفعل ذلك بطريقة قانونية!! من جهة ثانية تندرج محاكمة بلوصيف ورفاقه في ما يمكن وصفه بالطريق الثالث في الجزائر، وهو الطريق الذي حاول فتحه الرئيس الراحل محمد بوضياف، ويقضي بمواجهة الاصوليين من ناحية واستخدام انتقاداتهم ضد الدولة والعهود السابقة في مواجهة "المافيا"، اي اولئك الذين تحملوا مسؤوليات معينة في جبهة التحرير الوطني والسلطة البومدينية. وتأمل الحكومة الجزائرية أن تعيد بناء ثقة الشارع بالدولة من خلال خطوات من هذا النوع، أي من خلال التشديد على الجانب الاخلاقي والنزاهة في المسؤوليات العامة. وبهذا المعنى تكون محاكمة بلوصيف ورفاقه برهاناً على نوايا الحكومة الجديدة لكنه برهان لا يكفي وحده لردم الهوة الواسعة التي تفصل الدولة عن مواطنيها منذ ثلاثة عقود، خصوصاً ان حساب الملايين التي اختلسها بلوصيف لا يغطي حساب المليارات المختلسة التي تحدث عنها رئيس الوزراء السابق عبدالحميد الابراهيمي والتي يتحرق الشارع الجزائري لمعرفة مصيرها.