قضايا الفساد والرشوة شكلت في الأسابيع الاخيرة عناوين رئيسية من صحف جزائرية عديدة، وبينها صحف جعلت من هذه القضايا مصدر إثارة وحيلة تجارية لخدمة سمعتها وتحسين مبيعاتها، في سوق إعلامية ضاقت بالعدد الكبير من العناوين الجديدة. حتى بعض كبار السياسيين أصبحوا يشاركون في هذه الإثارة الخطيرة، من دون أن يقدروا نتائجها الوخيمة على الطبقة السياسية القديمة كلها وعلى نظام الحكم والدولة بصفة عامة. وأهم ما يميز هذه الإثارة الخطيرة المجازفة والمغالاة! فالرئيس الأسبق أحمد بن بللا يتهم الرئيس السابق الشاذلي بن جديد بتحويل ما بين 10 و 15 مليار بليون دولار لحسابه الخاص! ورئيس الوزراء الأسبق عبد الحميد الإبراهيمي يصرح منذ سنتين بضياع ما لا يقل عن 26 مليار دولار خلال العشرين سنة الماضية، في شكل عمولات واختلاسات! وأخيرا طالعتنا بعض الصحف بما مفاده أن الغرفة التجارية سمعت ما بين 1988 و1990 بتحويل 27 مليار بليون دولار في شكل رخص استيراد، منحت لمؤسسات خاصة أو لأشخاص من أصحاب المشاريع الجديدة! وتؤكد مثل هذه الأرقام اختلاط الحقيقة بالخيال في طرح قضايا الفساد والرشوة بالجزائر، وانطلاق التهمة أحيانا من دافع الانتقام السياسي أو خلط الأوراق بهدف تعميم المصيبة والتخفيف عن المتورطين الحقيقيين بمحاولة توريط أناس نزهاء بعيدين كل البعد عن مثل هذه القضايا. وتبين طريقة ومستوى الطرح استهتارا كبيرا بالشؤون العامة وتدني روح الدولة لدى بعض المسؤولين السابقين. فالسيد عبد الحميد الإبراهيمي مثلا، كان، من دون منازع، الرجل القوي طوال مرحلة الرئيس الشاذلي بن جديد قبل أحداث تشرين الأول أكتوبر 1988. فقد كان وزير التخطيط من 1979 إلى 1984 ورئيسا للحكومة من 1984 إلى 1988. وفي الحالتين كانت كل المشاريع الإنمائية والصفقات مع الخارج تمر على يديه أو بتأشيرة منه. لكن بعد أبعاده في أعقاب أحداث تشرين الأول أكتوبر 1988 وراح يتهم الآخرين بالرشوة والاختلاس! وفي ربيع 1990 فاجأ الرأي العام المحلي "بقضية ال 26 مليار دولار الشهيرة". ترى ما حقيقة هذه القضية؟ في مطلع السنة المذكورة آنفا، عقدت اللجنة المركزية لجبهة التحرير - الحزب الحاكم آنذاك - دورة لها، تدخل خلالها رئيس الحكومة يومئذ السيد مولود حمروش مبديا تأسفه لانعدام الصرامة وضعف الإحساس بالمسؤولية في عقد الصفقات الخارجية مما أضاع على الدولة الجزائرية مبالغ مهمة من العملة الصعبة. وانطلاقا من هذه الملاحظة التي لا غبار عليها، راح عبد الحميد الإبراهيمي يحسب ويستنتج، ليفاجئ الجميع بخلاصة اجتهاده في ربيع 1990، وهي أن العمولات المرتبطة بإبرام الصفقات مع الخارج تقدر خلال العشرين سنة الماضية من 1970 إلى 1990 ب26 مليار دولار بليون دولار! أي ما يعادل ديون الجزائر الخارجية! وقد أساء هذا التصريح إساءة بالغة للطبقة الحاكمة والحزب الحاكم بصفة خاصة، إذ تلقفت المعارضة الإسلامية هذا التصريح ووظفته في حملة الانتخابات المحلية التي كانت على الأبواب، مما ساعدها على تحقيق فوز ساحق فيها حوالي 60 في المئة من المقاعد. وكان هذا التصريح موضوع تحقيق لجنة برلمانية، استمعت إلى الإبراهيمي أكثر من مرة من دون التوصل إلى نتيجة كبيرة، لأن صاحب التصريح لا يملك مستندات كافية لدعم اتهاماته. وتم تحويل ملف القضية إلى العدالة التي لم تر في أواخر المرحلة الشاذلية من ضرورة لمعالجته بالسرعة التي يقتضيها. لكن يبدو أن العدالة غيرت موقفها الآن وأعادت فتح الملف الذي كشفت إحدى المجلات الفرنسية في الأيام الأخيرة عن شيء ملموس فيه يتمثل في "قضية معهد باستور". وخلاصة هذه القضية أن هناك مشروعا لبناء معهد باستور جديد في الجزائر - يعوض المعهد القديم - وهو مشروع طموح جدا، يستهدف إنتاج كميات كبيرة من اللقاح قد تغطي حاجات عدد من الدول الأفريقية الفرنكوفونية، خصوصا. وهذا المشروع توقف إنجازه سنة 1985 وهو في منتصف الطريق، بدعوى نفاذ المبالغ المخصصة له من العملة الصعبة. وقد أثار مقال المجلة الفرنسية شبهات حول بعض الشخصيات الجزائرية والفرنسية التي كانت لها علاقة بمصرف "اتحاد البنوك المتوسطية". وفي هذه المرحلة من التحقيق تبدو هذه القضية هي الشيء الملموس الوحيد في "ملف ال26 مليار دولار"، هذه الملف الذي يستدعي الاستماع من جديد إلى عبد الحميد الإبراهيمي الموجود حاليا في لندن. اتهامات بن بللا ويعتبر هذا الملف مثالا على مدى استخفاف بعض الأوساط السياسية بالأرقام رغم الاتهامات الخطيرة التي تتضمنها. ويمكن أن ندرج في الإطار نفسه اتهامات الرئيس الأسبق أحمد بن بللا للرئيس بن جديد بتحويل ما بين 10 و 15 مليار دولار من أموال الدولة إلى حسابه الخاص. وقد اصبح بن بللا مطالبا من العدالة بتقديم البينة على ما يدعيه، لا سيما بعد أن نفى الرئيس الشاذلي هذه الاتهامات وعبر عن استعداده التام لمساعدة العدالة في تبيان الحقيقة، كل الحقيقة. بعض الأوساط الإعلامية أيضا تستخف بالأرقام أسوة ببعض السياسيين، وأهم شاهد على ذلك "قضية الغرفة التجارية" التي سمحت - حسب صحيفة "لو متان" - في الفترة ما بين 1988 و 1990 بتحويل مبالغ طائلة من العملة الصعبة تقدر ب 27 مليار دولار! وخلاصة هذه القضية أن حكومة عبد الحميد الإبراهيمي وهي تضع الأسس القانونية للاصطلاح الاقتصادي الشامل سنة 1988 أعادت تنشيط الغرف التجارية التي كلفت بتسهيل مهمة المقاولين من القطاع الخاص لاستيراد المواد الأولية أو توسيع مشاريعهم أو إنجاز مشاريع جديدة. وكانت هذه المهمة قبل 1988 من اختصاص هيئة حكومية هي "ديوان مراقبة الاستثمارات الخاصة". في أواخر سنة 1990 وقع خلاف داخل الهيئة التي تدير الغرفة التجارية المكونة من مقاولين من القطاع الخاص، فقام أحد نواب رئيس الغرفة بتسريب معلومات للصحافة، مفادها أن هناك تلاعبا في منح رخص الاستيراد أدى إلى ضياع أموال طائلة! وبناء على هذه المعلومات تألفت لجنة برلمانية حققت في الموضوع مدة ستة أشهر، وصادق النواب على تقريرها قبل تقديمه إلى العدالة التي شرعت في دراسته منذ بضعة أيام. وحسب رد الغرفة التجارية على تهم الصحافة، يتبين أن تدخلها في الفترة المذكورة 1988 - 1990 شمل الجوانب التالية: أولا: منح رخص استيراد في إطار إنجاز 1164 مشروعا، لم ينجز منها سوى 282، أكثرها في قطاع مواد البناء والبلاستيك. وتقدر المبالغ الجمالية الموظفة في هذا الصدد بمليار و778 ألف دينار. ثانيا: منح رخص استيراد مواد أولية قدرت قيمتها الإجمالية بحوالي 4.225 مليار دينار. وتلاحظ الغرفة في هذا السياق أن رخص سنة 1990 لم يستعمل منها إلا القليل. ثالثا: منح رخص استيراد لمؤسسات لها امتياز الاحتكار في ميدان بعض المواد الأولية وقطع الغيار خصوصا. وتبلغ المبالغ الموظفة هنا 7.749 مليار دينار. ومعنى ذلك أن مجموع المبالغ المستعملة في الأبواب الثلاثة المذكورة لا تتجاوز 625 مليون دولار! ويرى الخبير الدولي مالك سراي الذي استشارته اللجنة البرلمانية في موضوع الغرفة التجارية "أن الحديث عن تحويل مبالغ طائلة عن طريق الغرفة أمر مبالغ فيه، لأن هذه الهيئة لا تتعامل مع النقود مباشرة ودورها استشاري بالدرجة الأولى لأن القرار النهائي يعود إلى مصالح وزارة التجارة". ويضيف الخبير الدولي أن "الهجومات التي استهدفت الغرفة مصدرها بعض الجماعات الضاغطة التي لم تحقق بواسطتها ما تريد". والى جانب "قضية الغرفة التجارية" و"قضية ال26 مليار دولار" اللتين طغى فيهما عنصر المجازفة والمبالغة لأغراض سياسية واضحة، هناك قضية ثالثة هي "قضية اللواء بن لوصيف" التي تستند إلى معلومات أكثر دقة وأقرب إلى التصديق". والسيد مصطفى بن لوصيف هو أول ضابط سام يتحصل على رتبة لواء في "الجيش الوطني الشعبي"، كان ذلك في بداية الثمانينات وكانت أعلى رتبة قبل ذلك هي رتبة عقيد، أعلى رتبة في جيش التحرير الوطني قبل الاستقلال. وبفضل هذه الرتبة وعلاقة الثقة التي تربط بن لوصيف بالرئيس الشاذلي بن جديد تبوأ هذا الضابط السامي منصب الأمانة العامة لوزارة الدفاع، ثم قيادة أركان الجيش. وخلال تولي بن لوصيف منصب الأمانة العامة لوزارة الدفاع، كشفت الرقابة المالية عن ثغرات كبيرة كانت موضوع تحقيق سنة 1989 قام به خمسة ضباط رفيعو المستوى هم: اللواء عبد الله بالهوشات، المفتش العام السابق للجيش. والعميد الأكحل عياط، مسؤول الأمن العسكري سابقا. والعميد محمد عطايلية، قائد الناحية العسكرية الأولى منطقة العاصمة وضواحيها. والعميد الهاشمي هجرس، مدير سابق للمحافظة السياسية بالجيش. والعميد خالد نزار، قائد القوات البرية ووزير الدفاع الحالي. وقد تم تسريب تقرير هذه اللجنة أخيرا إلى صحيفة محلية فبادرت إلى نشره قبيل فتح ملف "قضية بن لوصيف" من جديد، واستدعائه من قبل العدالة العسكرية في 2 أيار مايو الماضي وإيداعه الحبس الاحتياطي! خلاصة هذا التقرير أن اللجنة الخماسية المذكورة توصي بما يلي: 1- أن يعوض المعني مبالغ مالية تبلغ حوالي 38 مليون فرنك فرنسي، و2.5 مليون دينار. 2- أن يعيد فيلا بحي الأبيار العاصمة كانت تابعة لوزارة الدفاع، وفيلا ثانية بمدينة عنابة، مكان إقامة بن لوصيف العائلية. وقد قام المعني بإصلاح الإقامتين من خزينة وزارة الدفاع ورئاسة الجمهورية! 3- أن يعيد ما قيمته 8،5 مليون دينار من الأثاث الذي حصل عليه بطرق غير قانونية! ومن الأمور الخطيرة التي يكشفها التقرير المذكور، أن اللواء المتهم حاول أثناء التحقيق معه توريط الشاذلي بن جديد وعائلته. وقد أدانت اللجنة في تقريرها ما اعتبرته "محاولة ابتزاز" ووجهت على اثر ذلك سؤالا مباشرا للمتهم: "هل تلقيت تعليمات محددة من رئيس الجمهورية بخصوص تأثيث شقة باريس وتحويل الأموال من الخارج"؟ فكان جواب بن لوصيف: "إن ذلك تم بمبادرة منه". بعض المراقبين يرى في إعادة فتح ملف بن لوصيف، محاولة لتوريط الرئيس الشاذلي شخصيا الذي سبق للرئيس بن بللا أن اتهمه بتحويل ما بين 10 إلى 15 مليار دولار! والواقع أن شرائح واسعة من الرأي العام تنتظر محاسبة أخوة الشاذلي بن جديد وأصهاره بصفة خاصة الذين لم يكونوا يتحرجون من استغلال اسمه للثراء والاستفادة من امتيازات كثيرة على مرأى ومسمع عامة المواطنين. وكان الشاذلي يسكت عن ذلك، خلافا للرئيس الراحل هواري بومدين الذي قطع على ذويه طريق المتاجرة باسمه. والغريب في أمر هذه القضايا الخطيرة أن السلطة الجديدة تتنصل منها وترفض أن تكون لها أية علاقة بإثارتها! رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي يرى فيها صراحة محاولة لضرب استقرار حكومته، ومنعها من تطبيق خطة الإنعاش الاقتصادي التي وضعتها في ظل الهدوء والوضوح. ولا يتحرج من الإشارة بأصابع الاتهام ألي الأوساط الإعلامية ذات الارتباط بخصومه السياسيين وفي مقدمتهم "عصابة جبهة التحرير الوطني" حسب تعبيره! والدوائر المقربة من المجلس الأعلى للدولة ترى فيها محاولة استدراج إلى قضايا ثانوية في المرحلة الراهنة، نظرا إلى العديد من القضايا التي تطرح نفسها بإلحاح على السلطة الجديدة. ويتخوف الرأي العام بصفة عامة من أن تفتح السلطة الجديدة على نفسها جبهات عديدة في آن واحد، قبل أن تمكن نفسها وتتحكم في الأوضاع الأمنية، الأمر الذي يطرح علامات استفهام حول مقدرتها على المواجهة الشاملة وحظوظ النجاح فيها. فالتوقيت في نظر الرأي العام غير مناسب والطرح غير سليم لما يتميز به من مجازفة ومبالغة، لأن القصد منه هو التشويش على السلطة الجديدة أكثر من مساعدتها على التحكم في الأوضاع وأداء عملية التطهير الضروري في كنف الوضوح والجدية والإنصاف.