عقدت "الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان" بقيادة العقيد جون قرنق مؤتمراً مهماً في احدى المدن التي تسيطر عليها في جنوب السودان وسط حضور كبير لقياداتها. وأكد مصدر قريب الى "الحركة" انها ناقشت في المؤتمر قضايا الوفاق وعلاقاتها الدولية والاقليمية بعد قرار اعادة العلاقات بين الخرطوم وكل من اوغندا وأريتريا. كما ناقشت "الحركة" علاقاتها بالمعارضة الشمالية السودانية، خصوصاً حزب الأمة. ولم يكشف المصدر نتائج المناقشات لكنه أكد انها ستعلن في الأيام المقبلة. وعلاقة الحركة وحزب الأمة بدأت في الشهور الاخيرة لحكم الرئيس السابق جعفر نميري وتطورت حتى وصلت الى اعلى درجات التنسيق بعد انقلاب حزيران يونيو 1989 الذي قاده الفريق عمر حسن البشير، ثم تدهورت الى درجة تبادل الاتهامات والقطيعة السياسية شبه الكاملة كما هي الحال هذه الأيام. وكان الفريق البشير، بعد تسلمه السلطة، جمع القيادات السياسية الحزبية في سجن كوبر في الخرطوم، وبلورت فكرة تأسيس "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض وصاغت ميثاقه. وبدأ بعد ذلك التفاوض بين حزب الأمة و"الحركة الشعبية" في ايلول سبتمبر 1989 في أديس اباباونيروبي اثمر توقيع اتفاق بين الطرفين في كانون الثاني يناير 1990 نص على انضمام "الحركة الشعبية" الى "التجمع الوطني" بعد تعديل ميثاقه. وبارك الحزب الشيوعي والحزب الاتحادي الديموقراطي هذه الخطوة في اذار مارس 1990. وكان دعم الحركة الشعبية لحزب الأمة في بداية عمل المعارضة كبيراً، خصوصاً ان حزبي "الاتحادي" و"الشيوعي" حمّلا "الأمة" مسؤولية الفشل في الفترة الديموقراطية الاخيرة الذي ادى الى انقلاب البشير، ورفضا اي دور قيادي لحزب الأمة. وبعد ظهور الخلافات والانشقاقات في اوساط "الحركة الشعبية" في آب اغسطس 1991، جرى التوقيع على اتفاق فرانكفورت بين المنشقين عن "الحركة" وحكومة الخرطوم ممثلة بالدكتور علي الحاج، واعترفت الحكومة في هذا الاتفاق بحق الجنوب في تقرير مصيره. لذلك وقف حزب الأمة الى جانب قرنق اضافة الى تجنيد علاقاته الخارجية لكسب الدعم ل"الحركة". وبعدما اخذ تقرير مصير جنوب السودان بعداً دولياً في مؤتمر واشنطن العام 1993 وخلق استقطاباً حاداً وسط القوى الجنوبية، دعا قرنق الى اجتماع في العاصمة الزيمبابوية هراري لكل القوى السياسية السودانية المعارضة بهدف الاتفاق على السلام ومستقبل الحكم ومواجهة حركة الاستقطاب التي تقوم بها حكومة البشير في صفوف القوى الجنوبية المناوئة له. ولم يلب الدعوة الا حزب الأمة، ورفض حزبا "الاتحادي" و"الشيوعي" الحضور بحجة انه يجب تأجيل البحث في قضايا المستقبل الى ما بعد سقوط البشير وان يركز برنامج "التجمع الوطني" على اسقاط النظام فقط. وجمَّد حزب الأمة نشاطه في "التجمع" احتجاجاً على موقف الحزبين ودعماً لموقف "الحركة". وعُقد إثر ذلك اجتماع في نيروبي برعاية المثقف الجنوبي الوزير السابق بونا ملوال تم الاتفاق فيه على اعتبار المواطنة هي الأساس للحقوق والواجبات الدستورية. وتواصل التنسيق بين "الأمة" و"الحركة" فعقدا سلسلة اجتماعات في العام 1994 اكتملت باتفاق شقدوم الشهير الذي عالج قضايا السلام وتقرير المصير والدستور، واصبح الأساس لمؤتمر القضايا المصيرية الذي عقد في أسمرا العام 1995 وتمخض عنه منح محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديموقراطي رئاسة التجمع كمنصب فخري، في حين تولى حزب الأمة، بدعم من "الحركة الشعبية" المنصب التنفيذي الاول الذي ما زال يشغله مبارك المهدي. ويعود حرص "الحركة الشعبية" وحزب "الأمة" على الحفاظ على التحالف الاستراتيجي بينهما الى وزن الاثنين، اذ يعتبر "الأمة" اكبر الأحزاب في شمال السودان في حين تعتبر "الحركة" اقوى احزاب الجنوب، اضافة الى ان دعوة "الحركة الشعبية" الى "سودان جديد" يهتم بالمناطق المهمشة في الجنوب والغرب والشرق، لاقت صدى ايجابياً في اوساط "الأمة"، لأن هذه الدعوة تشمل قواعده ومناطق نفوذه التاريخية في غرب السودان ووسطه وشرقه. اما أحد أهم الأسباب للتنسيق بين "الأمة" و"الحركة"، فيعود الى ان القبائل المتاخمة لجنوب السودان هي قواعد تاريخية للأمة، حتى ان الطرفين رعيا الكثير من المصالحات بين قوات "الحركة" وقبائل التماس. وتقاسم "الأمة" و"الحركة الشعبية" الأدوار في ساحة العمل المعارض لنظام الخرطوم في اتفاق غير معلن تقود فيه "الحركة الشعبية" العمل العسكري ل"التجمع" ويتولى حزب الأمة العمل السياسي والديبلوماسي. وتنفيذاً لهذا الاتفاق طالب حزب الأمة بضرورة تشكيل القيادة العسكرية المشتركة تحت قيادة قرنق بعدما كان "الاتحادي" و"الشيوعي" يعارضان العمل العسكري في شرق السودان، ووصفه القيادي الشيوعي التجاني الطيب بأنه غزو مرفوض، اما "الاتحادي" فكان يرى فيه محاولة لايجاد جيش بديل عن الجيش الوطني وساندهما في ذلك تنظيم "القيادة الشرعية" آنذاك بقيادة المرحوم الفريق فتحي احمد علي القائد السابق للجيش السوداني الذي كان يؤكد قدرتهم على تنفيذ انقلاب عسكري مضاد في الخرطوم يعود بعده النظام الديموقراطي مرة اخرى. ثم بدأت الخلافات بين الطرفين في الظهور الى العلن في العام 1996 عندما اعلن زعيم "الأمة" الصادق المهدي ان مفاوضات هيئة "ايغاد" لن تساعد في حل القضية السودانية وان نظام الخرطوم و"الحركة الشعبية" ليسا غالبية الشعب السوداني ليقررا مصيره. ولم ترحب حركة قرنق بهذه التصريحات، ثم جاءت مطالبة "الحركة"، خلال جولة مفاوضات برعاية "ايغاد" العام 1996، بالكونفيديرالية ونشرت وقتها خريطة لتقسيم السودان كونفيديرالياً، وضمت الخريطة اجزاء كبيرة من جنوب شمال السودان التي تعتبر مناطق نفوذ الأمة. وكان اعلان "الحركة" مفاجئاً لكل شركائها من الأحزاب الشمالية. ومع ان "الحركة" بررت ذلك لاحقاً بمحاولتها رفع السقف التفاوضي مع نظام البشير، الا ان حالاً من عدم الثقة بين الحليفين "الأمة" و"الحركة" كانت تشكلت، وبدأ حزب "الأمة" يضع في حساباته ان ل"الحركة" اجندة سرية وان ما تعلنه يختلف عما تبطنه. وبدأ "الأمة" في المطالبة بضرورة توسيع لجنة "ايغاد" المكلفة الملف السوداني لتشمل كل الفصائل المعارضة الاخرى، وادخال مصر ضمن شركاء "ايغاد". وقاومت "الحركة" هذه الخطوة بصورة غير معلنة. مما دفع حزب الأمة الى البحث عن صيغة اخرى لتهميش مبادرة "ايغاد"، فكان اللقاء بين المهدي والأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان حسن الترابي في جنيف، ثم المبادرة المصرية - الليبية واخيراً لقاء جيبوتي بين المهدي والبشير، ما رفع حال العداء بين "الأمة" و"الحركة" الى اقصى درجاتها. وهاجمت "الحركة" الأمة في اجتماع هيئة قيادة "التجمع" الاخير في كمبالا بصورة مهينة، ما دفع كثيراً من المراقبين الى القول ان العلاقة بينها وصلت الى الطلاق. وطالب قرنق "الأمة" بالتراجع عن مواقفه الاخيرة او الانسحاب من "التجمع الوطني" وقال ان الحزب تنصل من اتفاقاته السابقة مع احزاب "التجمع". وبدا واضحاً ان الأمة يسعى الى تهميش "ايغاد" ورص صفوفه خلف المبادرة المصرية - الليبية، وكشفت "الحركة" موقفها وأكدت انها لن تذهب الى اي مفاوضات الا تحت سقف هيئة "ايغاد". ومع ان "الأمة" و"الحركة الشعبية" عقدا اجتماعاً سرياً في كمبالا بعد اجتماعات هيئة القيادة لردم الهوة التي اصبحت تفصل بينهما، لكن الهوة ظلت تتسع وطرح كل طرف في الاجتماع تبريره للهجمات المتبادلة. حزب الأمة عاتب "الحركة" على الانتقادات الحادة التي اطلقها قرنق في افتتاح اجتماعات "التجمع" وأكد رفضه مبادرة "ايغاد" بشكلها الحالي، ولام "الحركة" على تراجعها على التزامها تأييد المبادرة المصرية - الليبية. واتهمها بأن لديها اجندة سرية خاصة مع الغرب. ودانت "الحركة الشعبية" حزب الأمة لاتفاقه مع نظام الخرطوم من دون استشارته، وأوضحت ان ما يثيره الأمة ويردده من خطورة التدخل الأجنبي وتفتيت السودان هو اتهام غير مباشر لها. وعلى رغم ان الاجتماع عقد على مستوى رفيع من الجانبين وليس على مستوى القمة، الا انهما اتفقا على مواصلة الحوار، وعلى اثر ذلك خاطب الأمة "الحركة الشعبية" بخطاب استراتيجي وطالبها بالتأكيد على اتفاقاتها مع المعارضة السودانية. وظن المراقبون للعلاقة بين الفصيلين ان الأمور في طريقها للتحسن، الا ان التوتر ازداد بعدما اعلن قرنق في الأيام الماضية ان الكونفيديرالية لا بد ان تسبق استفتاء تقرير المصير للجنوب، ما يعني ان السودان سيقسم فعلياً قبل الاستفتاء على تقرير المصير. كما اعلن الميرغني ان حزبه سيعقد اتفاقاً استراتيجياً مع "الحركة الشعبية"، اي ان الاتحادي الديموقراطي سيحل محل حزب الأمة في التحالف مع "الحركة الشعبية"، والا لماذا العلاقة الاستراتيجية في هذا الوقت مع وجود التحالف تحت سقف "التجمع الوطني"؟