قرار الحكومة الباكستانية ترحيل وابعاد المقيمين بصورة غير شرعية في باكستان، وهو قرار يطال مجموعات من "الافغان" العرب - أي المجاهدين العرب الذين قاتلوا في افغانستان - ويؤدي الى اغلاق مكاتب الفصائل الافغانية وابعاد عدد من قياداتها، أثار تساؤلات وقلقاً لدى المعنيين بالامر ويضع قرار الابعاد هذا المجاهدين الافغان امام مفترق. فهناك عدد من الفصائل الافغانية تعارض انتخاب برهان الدين رباني رئيساً للبلاد، وثمة ما يشير الى بواكير تبلور تحالف باشتوني قلب الدين حكمتيار اوزبكي عبدالرشيد دوستم شيعي حزب الوحدة مضاد على نحو قد ينذر بتفجير الوضع مجدداً في البلاد. اكثر من ذلك، فان الخلافات المذهبية والعرقية والسياسية بين الفرقاء الثلاثة يمكن ان تنسف تحالفهم في أية لحظة، بشكل يصعب التكهن بآثاره المحتملة. لذلك تضاربت مواقف القيادات الافغانية من القرار الباكستاني الذي يطالبها بالعودة الى بلادها في وقت تبدو على شفا مرحلة جديدة من مراحل الحرب الاهلية. البعض من هؤلاء، مثل صبغة الله مجددي زعيم الجبهة الوطنية لتحرير افغانستان، أعلن أن المجاهدين بوصفهم لاجئين لا يملكون الا الاذعان لقرار الحكومة الباكستانية، فعلى رغم ان افغانستان على حد قوله تقع "تحت احتلال رباني" الا انه يمكن لهؤلاء المهاجرين ان يتخذوا مكاتبهم في مكان او آخر في افغانستان، البعض الآخر مثل منجل حسين المتحدث باسم قلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الاسلامي رفض تنفيذ القرار معرباً عن انه لا يمكن لقيادات المجاهدين ان تعود طالما انه لا يوجد هناك سلام او أمن في افغانستان. فكيف يمكن تحليل هذا القرار في ضوء الحسابات السياسية الباكستانية؟ وما هي دلالاته المحتملة بالنظر الى الصراع الداخلي في افغانستان وعلى ضوء احتمالات تطور الاوضاع في جنوب آسيا؟ وكيف تفاعلت الدول العربية مع ذلك الشق من القرار الخاص بترحيل "الافغان العرب؟" تلك هي اهم التساؤلات التي نسعى الى الاجابة عليها. بين "اصوليتين" لم تنفصل باكستان عن تطورات القضية الافغانية في أية مرحلة من مراحلها، لأسباب تاريخية وثقافية وأيضاً سياسية. فلقد انطلقت باكستان في موقفها من افغانستان من نظرتها اليها كمنطقة حاجزة بين الاتحاد السوفياتي وشبه القارة الهندية، واعتبرت من ثم ان سقوط افغانستان تحت النفوذ الشيوعي ليس له اكثر من معنى واحد هو اتخاذ اول خطوة على الطريق الى باكستان نفسها. ولذلك مثلت باكستان اكبر قاعدة لعمليات المجاهدين الافغان وعناصر اخرى من الحركات الاسلامية من الدول العربية ودول وسط آسيا وبولونيا من الفارين من الحكم الشيوعي، فضلاً عن قلة من الاميركيين السود الذين كانوا اعتنقوا الاسلام. كذلك تولت باكستان الدفاع عن القضية الافغانية في شتى المنظمات والمحافل الدولية، وأشرفت على توقيع اتفاقات جنيف في 1988 التي نصت على الانسحاب السوفياتي، كما رعت توقيع اتفاق بيشاور في 1992 الذي كرس نجاح المجاهدين الافغان وأرسى دعائم مرحلة ما بعد التحرير في افغانستان. ومع انتخاب مجلس الشورى الافغاني لبرهان الدين رباني رئيساً للبلاد، وجدت باكستان ان فصلاً جديداً من فصول التاريخ الافغاني بدأ وان الوقت حان لينقل المجاهدون الموجودون على اراضيها نشاطهم السياسي الى بلادهم في ظل السلطة الشرعية المنتخبة. ولكن بالاضافة الى هذا السبب المباشر وراء القرار الافغاني، تقاطعت مجموعة اخرى من العوامل الداخلية والاقليمية والدولية المتشابكة على نحو يصعب معه فهم قرار الابعاد من دون الرجوع اليها وتحليلها. أحد أهم هذه العوامل يتمثل في الوضع الاقتصادي الداخلي، ذلك ان وجود ما يقرب من ثلاثة ملايين لاجئ افغاني يرهق الموازنة العامة لباكستان علاوة على كونه يجعل المواقف الاساسية للدولة هدفاً لهجمات القبائل المتصارعة ويرتبط بهذه النقطة ان نواز شريف رجل البلاد القوي يخطط، منذ توليه رئاسة الحكومة، لانطلاقة كبرى لاقتصاد بلاده تضعها في مصاف اقتصادات النمور الآسيوية الأربعة: تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ. وفي هذا السياق، اقدمت الحكومة الباكستانية على اتخاذ مجموعة من الاجراءات المهمة استهدفت تحرير اقتصاد البلاد بقصد جذب وتشجيع الاستثمارات الاجنبية والوطنية، فضلاً عن التخفيف عن الدولة عبء دعم بعض شركات القطاع العام الخاسرة. ووفقاً للأرقام والاحصاءات الباكستانية الرسمية، بلغت حصيلة الدولة من بيع 57 شركة ومشروعاً عاماً حوالي 400 مليون دولار خلال عامين اثنين فقط. كذلك انخفض العجز في ميزان المدفوعات من 1،2 مليار دولار في عام 1990 - 1991 الى 6،1 مليار دولار في عام 1991 - 1992. اكثر من ذلك تهدف الخطة الخمسية الراهنة 1993 - 1998 الى تحقيق زيادة في الناتج القومي ثابت تدور حول نسبة 7 في المئة سنوياً، وفي هذه الظروف فان باكستان تجد نفسها في حاجة الى فك اشتباكها مع القضية الافغانية وتحقيق الاستقرار الداخلي كشرط اساسي لدفع عجلة التنمية. عامل آخر مهم يتمثل في ترتيب البيت الافغاني عن طريق فرض القبول بسياسة الامر الواقع حتى تتفرغ باكستان لاعادة تشكيل الاوضاع الاقليمية على نحو يسمح بموازنة النفوذ الهندي في المنطقة. يرجع ذلك الى ان باكستان ربما كانت اكثر احساساً بالانكشاف الامني، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الصديق التقليدي للهند، منها في وجوده. ولعل اخشى ما تخشاه باكستان في ضوء نشاط الطموحات الايرانية في الجمهوريات الاسلامية المستقلة ان تجد نفسها مطحونة بين سندان "الاصولية الاسلامية" ومطرقة "الاصولية الهندوسية". وتدرك باكستان اكثر من أي وقت مضى ان انفجار الصراعات المذهبية أو العرقية في تلك المنطقة الحيوية لا بد ان يترك اثاره المباشرة على تكوينها الديموغرافي الداخلي. ولا ينبغي ان ننسى في هذا الخصوص التجربة المحيرة التي تختزنها الذاكرة الجماعية الباكستانية بسبب انفصال اقليمها الشرقي في مطلع السبعينات وتكوينه لدولة بنغلاديش، وفي هذا الاطار، لا تجد باكستان مفراً من السعي بكل قوتها لبناء تحالف اقتصادي - سياسي - ديني مع الجمهوريات الاسلامية المستقلة، مع محاولة تدجين النفوذ الايراني عن طريق منظمة التعاون الاقتصادي التي تشاركها عضويتها مع تركيا. الدور الاميركي العامل المهم الثالث يتمثل في العلاقة مع الولاياتالمتحدة الاميركية والرغبة في تحقيق نوع من الترضية السياسية للصديق الاميركي القديم من خلال اتخاذ قرار ابعاد المجاهدين. وكانت العلاقات الباكستانية - الأميركية شهدت مرحلة من التوتر بسبب رفض باكستان وضع منشآتها النووية تحت التفتيش الدولي او التوقيع على معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية، واشتراطها ان يجري ذلك في اطار تنظيم يشمل منطقة جنوب آسيا ككل ويسري على الهند بالأساس، ومع استمرار الدعم الباكستاني للمجاهدين الافغان، على رغم الانسحاب السوفياتي، اضيف مبرر جديد الى مبررات توتر العلاقة بين البلدين، ولوحت الولاياتالمتحدة، في اكثر من مناسبة، باحتمال ادراج اسم باكستان على لائحة الدول الداعمة للارهاب. واعتبرت باكستان ان قرار التخلي عن المجاهدين يعد اقل كلفة من أي قرار آخر كالتضييق على برنامجها النووي مثلاً تتطلبه المصالحة مع الولاياتالمتحدة. ولعله ليس من قبيل المصادفة ان تتزامن عملية "اعادة الامل" الاميركية التي تضع بين اهدافها ضبط نشاط الاسلاميين في القرن الافريقي لا سيما في السودان مع قرار باكستان بابعاد المجاهدين وغلق معسكرات تدريب الاسلاميين من الدول العربية. ان نجاح باكستان في توظيف قرار الابعاد للتقدم على طريق تحقيق اي من الاهداف السابقة او كلها، هو قضية موضع نظر، بل ربما كان من الممكن القول ان هذا القرار، من وجهة نظر المصلحة الباكستانية، بني على مجموعة من الحسابات والتقديرات الخاطئة. فمن ناحية، تقرن باكستان بين قرار الابعاد وبين انتهاء مسوغ الجهاد في افغانستان وتظهر من ثم بمظهر الدولة الداعمة لشرعية نظام حكم برهان الدين رباني، وتلك خطوة تحفها المحاذير. فالجمعية الاسلامية التي يترأسها رباني تمثل الاثنية الطاجيكية وهي احدى اقليات الشمال، بيد ان الاثنية الباشتونية نحو 59 في المئة من السكان تمثل الجماعة السكانية الرئيسية والتي انحدر منها حكّام افغانستان منذ استقلت، ومثل هذا الوضع يخلق مبرراً للتشكيك في شرعية حكم رباني ويضاف الى جملة الانتقادات التي وجهت اليه خلال فترة رئاسته الموقتة للبلاد. ومن ناحية اخرى فان باكستان التي تتخلى اليوم عن قلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الاسلامي والمعروف بتشدده، هي نفسها التي وقفت داعمة له في معظم مراحل الحرب الافغانية وخصته بالقسط الاوفر من السلاح على نحو عرضها لاتهام الفصائل الافغانية الاخرى بتشجيع حكمتيار على توجيه هذا السلاح ضدها. ومن هنا قد يفسر تخليها عنه بأنه نوع من التخلي عن التوجه الاسلامي الذي يمثله حكمتيار. وفي واقع الامر فان النقطة الاخيرة تعد من اخطر الآثار المترتبة على قرار الابعاد لارتباطها باحتمالات تفجير الوضع السياسي الداخلي، حيث ان هناك بعض التيارات السياسية الباكستانية تؤيد الحزب الاسلامي وتعتبره مجسداً للنموذج الاسلامي كما ينبغي ان يكون، وأحد أبرز تلك التيارات السياسية تيار الجمعية الاسلامية للقاضي حسين محمد الذي كان شعوره ببداية التحول في السياسة الباكستانية تجاه حكمتيار واحداً من أهم أسباب توجيهه الانتقادات الى حكومة نواز شريف حول أمرين أساسيين، الأول اتهام نواز شريف نفسه بالفساد السياسي وهي التهمة التي اطاحت من قبل حكومة بنازير بوتو، الثاني هو ان نواز شريف تدخل في بعض المرات لابطال احكام المحكمة الشرعية عندما تعارضت تلك الاحكام الخاصة في مجال تحريم الربا مع الرغبة بتشجيع الاستثمارات الاجنبية. ومن ناحية ثالثة وأخيرة هناك الموقف الايراني، وأهميته تنبع فقط من كون ايران قادرة على منافسة صيغة التسوية الداخلية في افغانستان عن طريق تشجيع الفصائل الشيعية على التنسيق مع هذا الطرف أو ذاك وتهديد استقرار البلاد، كما حدث طيلة النصف الثاني من عام 1992، لكنها تنبع ايضاً من امكانية طرح ايران لنفسها "كبديل اسلامي" في العلاقة مع جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة. مصير الافغان العرب كانت العلاقات العربية - الباكستانية شهدت تطوراً ايجابياً ابان ازمة حرب الخليج الثانية، فقد اتخذت باكستان موقفاً متوازناً تمثل في المطالبة بانسحاب العراق من الكويت وقامت في هذا الاطار ببعض جهود الوساطة السلمية فضلاً عن مشاركتها بزهاء احد عشر ألف جندي في قوات التحالف الدولي. ساعد على ذلك أن اندلاع ازمة الخليج الثانية شهد تشكيل حكومة نواز شريف الحالية 26/10/1990. وفي تلك الحدود فان قرار الابعاد الذي شمل المقاتلين العرب استهدف تسوية واحدة من اهم القضايا الشائكة التي ظلت مؤجلة في العلاقة بين العرب وباكستان. فمنذ اتمام الانسحاب السوفياتي من افغانستان برز على الساحة العربية ما عرف باسم "الظاهرة الافغانية" - او "الافغان العرب" - والمقصود بذلك هو تنفيذ سلسلة من اعمال العنف السياسي بواسطة بعض العناصر الاسلامية العالية التدريب التي سبق ان شاركت في تحرير افغانستان. وكانت الجزائر في طليعة الدول العربية التي عانت من تلك الظاهرة منذ تناقلت وسائل الاعلام مشهد طلائع الافغان الجزائريين بملابسهم المميزة، وهم يتصدرون تظاهرات جبهة الانقاذ ويرفعون الاعلام البيض التي تحمل الشهادتين، ومن بعد سلكت تلك الظاهرة منعطفاً خطيراً في الجزائر من خلال الكشف عن بعض الخلايا السرية التي قامت بتنظيم اعمال عنف متفرقة، مثل جماعة الطيب الافغاني المسؤولة عن تنفيذ حادثة قمار الحدودية، والجناح المسلح للحركة الاسلامية الذي باشر الاعتداء على رجال الامن وتولى الاشراف عليه بعض الاعضاء السابقين في الحزب الاسلامي الافغاني مثل قمر الدين خردان. كذلك برزت قضية العائدين من أفغانستان على سطح المجتمع المصري وفجرت جدلاً قانونياً واسعاً في أعقاب احكام الاعدام التي صدرت في حق عناصرها، وامتدت الظاهرة الى اليمن من خلال تورط افغان اليمن في عمليات اغتيال شخصيات سياسية بارزة. وعلى ضوء ذلك فان قرار الابعاد يمثل نوعاً من الاستجابة للضغوط العربية على الحكومة الباكستانية لغلق معسكرات تدريب المقاتلين العرب وترحيلهم خارج اراضيها. بيد ان النقطة محل الاعتبار في هذا الخصوص هي ان المحك الحقيقي لفعالية القرار يتمثل في الشق التطبيقي منه، بمعنى عدم السماح باعادة انتاج التطرف عن طريق نقل معسكرات التدريب هذه من باكستان الى واحدة من الدول المجاورة. ولقد تلقى المقاتلون العرب بالفعل عرضاً من قلب الدين حكمتيار لاستقبالهم في افغانستان. وعلى رغم صعوبة تصور الاحتمال الاخير، بالنظر الى طبيعة الاوضاع الامنية في افغانستان وتوزع المقاتلين العرب على الفصائل المتصارعة، الا انه ليس ثمة ما يمنع من نقل مراكز نشاطهم الى مكان آخر أو حتى تسريب بعض عناصرهم بطرق غير مشروعة الى داخل الأراضي العربية. صفوة القول، ان هناك الكثير من النتائج الآجلة المتشابكة والمتناقضة أيضاً لقرار الحكومة الباكستانية الأخير. وعلى رغم ان من حق باكستان ان تتفرغ لاعادة ترتيب البيت الداخلي والاقليمي فان عليها في ما يبدو ان تدفع ضريبة التداخل بين التاريخين الباكستاني والافغاني الى ما لا نهاية. * خبيرة في شؤون العالم الاسلامي واستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة.