نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    منتدى المدينة للاستثمار.. يراهن على المشروعات الكبرى    انطلاق منافسات سباقات الخيل في ميدان الفروسية بالدمام الجمعة المقبل    عبد العزيز بن سعد يشهد الحفل السنوي لجمعية الأطفال ذوي الإعاقة بحائل 2024    المملكة تُطلق الحوافز المعيارية لتعزيز الصناعة واستقطاب الاستثمارات    مدرب البحرين مازحاً: تمنياتي للعراق التوفيق في كأس العالم وليس غداً    سفير المملكة لدى أوكرانيا يقدّم أوراق اعتماده للرئيس فولوديمير زيلينسكي    خطة تقسيم غزة تعود إلى الواجهة    225 مليون مستفيد بجمعية هدية الحاج والمعتمر    مسفر بن شيخة المحاميد في ذمة الله    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    فرصة لهطول الأمطار على الرياض القصيم الحدود الشمالية والشرقية    من رواد الشعر الشعبي في جازان.. عبدالله السلامي    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    "الوعلان للتجارة" تحتفل بإطلاق "لوتس إمييا" 2025 كهربائية بقدرات فائقة        "البروتون" ينقذ أدمغة الأطفال.. دقة تستهدف الورم فقط    الترفيه تعلن عن النزالات الكبرى في فعالية UFC ضمن «موسم الرياض»    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    قبل عطلات رأس السنة.. أسعار الحديد ترتفع    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    محمد بن سلمان... القائد الملهم    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    لتعزيز الروابط النيابية وتوعية الجمهور.. تدشين الموقع الالكتروني لجمعية النواب العموم العرب    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



افغانستان تدخل مرحلة الجهاد الأكبر
نشر في الحياة يوم 04 - 05 - 1992

باستقالة الرئيس نجيب الله في 16 نيسان ابريل الماضي ووصول المجاهدين الى كابول في نهاية الشهر الماضي، دخلت القضية الافغانية مرحلة جديدة من مراحل تطورها هي في ظن البعض طي لملف حرب اهلية دامت زهاء اربعة عشر عاماً، وفي تصور البعض الآخر استقرار للحرب ذاتها، على رغم اختلاف القضية وتنوع الآليات. والموقف بشقيه يجد له من الاسانيد ما يدعمه. يذهب الفريق الاول الى ان سقوط الوثن الشيوعي وعبدته في كابول هو التطور الاكثر اهمية، وان عباءة الاسلام الفضفاضة لا شك جامعة لكل الفرقاء، وإن هم كابروا حيناً. ويذهب الفريق الثاني الى ان شعباً تمرس على القتال الشرس لا يلقي سلاحه بسهولة، فتعقيدات التاريخ والجغرافيا والمجتمع تغذيه بأسباب الاستمرار لأمد غير معلوم.
ان مكمن الصعوبة في استشراف مستقبل افغانستان الحرة ينبع من عنصر المفاجأة التي انطوى عليها سقوط نظام الحكم في كابول، والمفاجأة المقصودة هنا لا تتمثل في غياب مؤشرات تقدم المجاهدين على مدار الشهور القليلة الماضية، لكنها تنبع من ان تلك المؤشرات ترجمت للمرة الاولى الى تغير فعلي في ميزان القوى لصالح المجاهدين، بعد ان حيل مراراً بينهم وبين سلطة كان دان قطافها. فما هي خريطة القوى والفصائل الافغانية؟ وما هي محددات علاقتها ببعضها البعض وبسائر فصائل المعارضة الاخرى في المجتمع؟ وما هو النمط السائد لتلك العلاقة؟
تساؤلات ثلاثة لا غنى عنها في تحديد وجهة التحليل.
اولاً خريطة فصائل المجاهدين الافغان: تتعدد زوايا تحليل خريطة المجاهدين الافغان وفصائلهم تبعاً لتعدد معايير تصنيفهم والتمييز بينهم لكن بوجه عام من الممكن الحديث عنهم من خلال اربع زوايا اساسية.
* الزاوية الاولى، هي الزاوية الاثنية، ومصطلح الاثنية يستخدم في هذا المقام لا بمعناه الضيق الذي يصير بمقتضاه مرادفاً للعرق، بل بمعناه الواسع الذي يدخل في الاعتبار ايضاً "كلاً" من اللغة والدين. فالمجاهدون الافغان يعكسون الفسيفسائية الاجتماعية نفسها التي يتميز بها المجتمع الافغاني، فهم ينقسمون دينياً الى سنة وشيعة، ولما كانت الارض الافغانية ضاقت بهم لظروف الغزو وما تلاه، فقد وجدوا طريقهم الى دول الجوار والتوازي مع خطوط التمييز الديني - المذهبي بين فصائلهم.
استضافت باكستان تحالف الاحزاب السنية السبعة المكون من كل من الجمعية الاسلامية بزعامة برهان الدين رباني والحزب الاسلامي بشقيه جناح قلب الدين حكمتيار وجناح يونس خالص المنشق عنه في عام 1979 والاتحاد الاسلامي عبدرب الرسول سياف وجبهة أفغانستان الوطنية الاسلامية سيد احمد بيرغيلاني وحركة الثورة الاسلامية محمد بني محمدي والجبهة الوطنية لتحرير افغانستان صبغة الله مجددي، بينما حل في ايران حزب الوحدة الاسلامية الشيعي او "طهران - 8" كما يقال له احياناً في اشارة الى عدد فصائله التي لا يعرف عنها الكثير من أبرز هذه الفصائل سازمان - نصر، والحركة الاسلامية، وحرس الجهاد، وحزب الله، والنهضة، وحركة الشورى والاتفاق. والمجاهدون يتكونون عرقياً من جماعة الباشتون او الباتان الحزب الاسلامي - جناح حكمتيار، او من خليط من هذه الجماعة مع بعض الجماعات العرقية الاخرى مثل الطاجيك والاوزبك والتركمان باقي فصائل المجاهدين السنة ويتكلمون لغات شتى تبعاً لانتماءاتهم العرقية، ابرزها الباشتونية والاوزبكية والفارسية، كما ان بعضهم يتقن اللغة العربية بتأثير ثقافته الازهرية السابقة كما هو الحال مع برهان الدين رباني وعبدرب الرسول سياف.
* الزاوية الثانية، هي زاوية التركيب العمري، حيث يتوزع اكثر القادة المجاهدين الافغان على الفئتين العمريتين 30 - 40 عاماً قلب الدين حكمتيار ومنافسه احمد شاه مسعود القائد الميداني لقوات الجمعية الاسلامية و40 - 50 عاماً برهان الدين رباني وعبدرب الرسول سياف، اما اكبر القادة المجاهدين فهو الشيخ يونس خالص وهو في العقد السابع من عمره.
* الزاوية الثالثة هي زاوية التكوين الثقافي، وهنا نلحظ انه ما عدا كل من قلب الدين حكمتيار واحمد شاه مسعود الطالبين السابقين بكلية الهندسة اللذين تركا مدرجات الدراسة للانخراط في صفوف المقاومة، فإن كل القادة المجاهدين السنة هم من ذوي التكوين الثقافي الديني الذين تخرجوا من كلية الشريعة الاسلامية في جامعة كابول او نالوا شهاداتهم في التخصص نفسه من بعض الجامعات العربية والاجنبية.
* الزاوية الرابعة، هي زاوية القوة حيث نجد ان تنظيمي الجمعية الاسلامية والحزب الاسلامي جناح حكمتيار يحتكران التأثير على معظم ارجاء الساحة الافغانية. وتتبع القوة الاساسية لحكمتيار من قدراته التنظيمية الفائقة ومن انتمائه عرقياً ولغوياً لجماعة الباشتون التي ينتمي اليها بين 40 و50 في المئة من اجمال سكان افغانستان، اما احمد شاه مسعود فإنه يستمد قوته بالاساس من كفاءته القتالية العالية. والدارسون للشؤون الافغانية يعرفون مسعود باسم "أسد بنشير" بسبب تفانيه في حماية واديه بنشير الذي كان يمثل الممر الاستراتيجي الرئيسي لتدفق المساعدات السوفياتية لنظام كابول العميل.
خريطة المجاهدين
ثانياً، محددات العلاقات بين المجاهدين مع سائر فصائل المعارضة الاخرى، وهي داخلية وخارجية:
* في ما يتعلق بالمحددات الداخلية، فإنها تنبع من استخلاص الدلالات السياسية لخريطة القوى والفصائل الافغانية، ذلك ان التنوع الاثني الكبير لجماعات المجاهدين يلقي بظلاله على اي صيغة محتملة للتسوية، حيث تطالب كل جماعة بتمثيلها في السلطة بحسب نسبتها الى اجمال السكان وربما بأكثر منها. من هنا فإنه في غياب الاحساس بالمسؤولية واعلاء المصالح الذاتية على حساب المصلحة القومية، فإن أية صيغة ائتلافية مزمعة قد تنذر بتفجير حروب ضارية بين مئات القبائل التي يتوزع عليها الشعب الافغاني، وفي المقابل فإن اهمال تمثيل الاقليات المحدودة الاهمية مثل الشيعة 15 في المئة من اجمال السكان ينمي احساسها بالاغتراب ويكرس شعورها بالحرمان النسبي، وهذا تطور له خطورته في ضوء العلاقات الوطيدة بين الشيعة وايران. ومن الدلالات السياسية ايضاً لخريطة المجاهدين ان توازن القوة الدقيق بين حكمتيار ومسعود قد يختل في اية لحظة لصالح اي منهما دون الآخر. ومن الممكن القول ان هناك اطرافاً ثلاثة اساسية يمكن لها ان تؤثر لكن بدرجات متفاوتة في الاتجاهين السياسيين: الطرف الاول هو الجيش النظامي في كابول الذي يمكن ان يكون قوة ترجيحية في حال تحالف بعض جنرالاته المنقلبين على نظام حكم كابول مع حكمتيار او مسعود. الطرف الثاني هم المعارضون من غير المجاهدين، ذلك انه على رغم كون الاسلاميين ابرز رموز المعارضة الافغانية قاطبة، الا ان هناك رموزاً اخرى الى جانبها، وان كانت اقل منها اهمية، فهناك دعاة العودة الى الملكية التي اطاح محمد داود بها بعد اقصاء صهره الملك ظاهر شاه عن الحكم عام 1973، وهناك كبار الاقطاعيين والتجار الذين اصابهم نظام الحكم اليساري في مقتل، وهناك الاقليات غير الباشتونية مثل الطاجيك 28 في المئة والهذارة فضلاً عن قلة من النورستانيين والكاهار والايمق والجمشيد. وهناك اتباع النظام الشيوعي السابق من اعضاء خلق وبرشام جناحي حزب الشعب الديموقراطي. واهمية كل من تلك الفئات تكمن في قدرتها على التحالف التكتيكي او الاستراتيجي مع احد القائدين الافغانيين او مع بعض قادة المقاومة الآخرين، ما ينال من القوة النسبية لكليهما. والطرف الثالث هم المجاهدون من غير الافغان، ذلك ان فكرة الجهاد والمجاهدين جندت الكثيرين من الباحثين عن قضية يدلفون منها الى باب الاستشهاد، سواء كانوا من ديار العرب او من خارجها. كما ان فكرة الانتقام من القطب السوفياتي في ذلك الوقت راقت لنفر من المنتمين الى المعسكر نفسه كالبولونيين مثلاً. وأولئك جميعاً يصعب على المجتمع الافغاني ان يلفظهم بين عشية وضحاها بعدما استقر بهم المقام لمدة اربعة عشر عاماً. من هنا فإن تأثيرهم المحتمل يكمن في استنزافهم لقوة المجاهدين - ومنهم حكمتيار ومسعود - من خلال بعض الاحتكاكات او الاستفزازات المتبادلة بعدما صاروا عبئاً ثقيلاً على بلد لا تنقصه اسباب المشاكل والصراعات.
* والدلالة السياسية الثالثة والاخيرة هي انفصال التركيب العمري للمجاهدين عن بناء القوة السياسية، وأهم من ذلك هو انفصال التصنيف الشائع للمجاهدين الى متشددين ومعتدلين عن الخلفية الثقافية لهم. فليس من الضروري ان يشكل رجال الطرق الصوفية اصحاب التعليم الديني التقليدي لب الجناح المعتدل، ولا ان ينتمي ذوو التعليم الحديث الى الجناح السياسي المضاد، ذلك انه في الوقت الذي ينصف فيه حكمتيار كمتشدد ومسعود كمعتدل الى فصيلين مختلفين فإنهما يشتركان معاً في الخلفية الثقافية نفسها. وفي المقابل فإن بعض رجال الدين كثيراً ما يتوزعون بين الاتجاهين جيلاني كمتشدد ويونس خالص كمعتدل.
ايران وأميركا وباكستان
وفي ما يتعلق بالمحددات الخارجية وجوهر طبيعة الارتباطات الاقليمية والدولية لفصائل المجاهدين فإنها ارتباطات تتميز بسيولتها تبعاً لتقييم كل طرف لطبيعة مصلحته القومية. ففي وقت من الاوقات توطدت علاقة الحزب الاسلامي جناح حكمتيار بإيران، وعندما نتحدث عن ايران فإننا لا نتحدث فقط عن جارة مسلمة لأفغانستان، لكننا نتحدث بشكل اعمق عن وشائج تاريخية ممتدة جعلت من افغانستان جزءاً من الامبراطورية الفارسية مرتين اثنتين، المرة الاولى في عصر الهجرات الفارسية الكبرى في الألفين الاول والثاني قبل الميلاد، والمرة الثانية في عهد الدولة الساسانية بعدما اعترى الحكم الايراني لأفغانستان بعض الوهن. بهذا المعنى، فإن ايران لها اهتمامها الاصيل بتلك الدولة بحكم موقعها الاستراتيجي وتأثيرها على توازنات القوة في شبه القارة الهندية. ومن المفارقة انه في الوقت الذي توترت العلاقات الايرانية - الاميركية على مختلف الصعد في عهد الخميني، فإن مصلحة الدولتين كانت تصب في مجرى واحد على الساحة الافغانية، وكانت الولايات المتحدة لها مبرراتها في دعم جناح حكمتيار. فبالإضافة الى ان حزبه كان من اكثر فصائل المجاهدين تنظيماً، فإن كونه يتألف من اثنية واحدة الباشتون جعل منه كياناً متماسكاً مقارنة بسواه، في وقت كان يتعجل فيه الاميركيون النصر على خصومهم السوفيات.
ومن جانبها، كانت ايران تدعم او على الاقل لا تعارض الحزب الاسلامي جناح حكمتيار وكانت النقطة المهمة التي اتفقت معه عليها هي تلك الخاصة برفض اية مهادنة لنظام كابول والتمسك بالصيغة الاسلامية لتسوية القضية.
وعندما تحرك الموقفان الايراني والاميركي في الاتجاه المضاد فإن عوامل الاتفاق ظلت تفرض نفسها على هذا الموقف. اما ايران فلقد صادف اتمام الانسحاب السوفياتي من افغانستان في 13 شباط فبراير 1989 وصول علي اكبر هاشمي رفسنجاني الى قمة السلطة هناك، وارتبط ذلك بنظرة اكثر برغماتية الى العلاقات الخارجية الايرانية، ساعد على ذلك الرغبة في التخفيف من اللاجئين الافغان الذين اصبح وجودهم يمثل عبئاً حقيقياً على حكومة طهران. وفي الوقت نفسه، فان تغير النظرة الايرانية الى مبدأ الشرعية الدولية جعلها تقبل تسوية المشكلة من خلال الامم المتحدة بالدعوة الى حوار داخلي بين مختلف الاطراف ينتهي بإقامة حكومة تمثيلية جامعة. ومثل هذا التنازل عن شرط اسقاط نظام الحكم في كابول في فترة معينة وضع ايران وحكمتيار على طريقين مختلفين، ذلك انه في الوقت الذي دان زعيم الحزب الاسلامي ايران علناً بقوله: "من المحزن ان حكومة تدّعي انها الحكومة الثورية الاسلامية تعارض الثورة الاسلامية في افغانستان"، فان ايران هددت، في تطور لاحق، بالتدخل العسكري لمنع سقوط العاصمة كابول في ايدي قوات حكمتيار، واقتربت بذلك من موقف برهان الدين رباني زعيم الجمعية الاسلامية، وذلك مع التسليم بطبيعة الحال بوجود حدود للتعاطف الايراني الممكن مع تنظيمات الاسلام السني. بالنسبة الى الاميركيين فان مجموعة من الظروف المختلفة جعلت موقف الولايات المتحدة يتسم بالميوعة وعدم التحديد من حليف الأمس قلب الدين حكمتيار. اهم هذه الظروف هي انتهاء حالة الغزو والتحول بالقضية برمتها الى قضية تتعلق بالصراعات الداخلية اكثر من كونها تتعلق بالتنافس الدولي، كما ان هناك متغيراً آخر يتعلق بيأس الولايات المتحدة من قدرة جناح حكمتيار على حسم الموقف عسكرياً لصالحه بسبب مجموعة من العوامل المعقدة والمرتبطة، بنجاح نجيب الله، قبل استقالته، في التحول بالحرب الى حرب نظامية بدلاً من حرب العصابات التي برع فيها المجاهدون، وقدرته على استغلال خلافات المجاهدين وطموحاتهم الشخصية بذكاء، فضلاً عن تصوير نفسه للمجتمع الدولي في شكل رجل الدولة القابل للحوار مع معارضيه السياسيين. في هذا السياق، جاء الاتفاق الاميركي - السوفياتي المشترك على وقف الدعم المادي والعسكري لفصائل المقاومة الافغانية. واليوم، وبعد انهيار الامبراطورية السوفياتية فان الولايات المتحدة لا تريد ان تضع كل بيضها في سلة حكمتيار. فالمستقبل الافغاني مفتوح على كل الاحتمالات. ومن ناحية أخرى، فان الصدام المباشر مع حلفاء السوفيات الاقدمين في كابول يثير حساسيات روسية لا مبرر لها، اضافة الى ذلك، فان الولايات المتحدة عازفة عن التورط في الخصومات الداخلية الافغانية لأن ذلك قد يضر بمصالحها في الامد الطويل. فهناك تشابك بين الاوضاع الداخلية في كل من افغانستان والجمهوريات الاسلامية السوفياتية في وقت لم تحسم بعد تلك الجمهوريات توجهاتها السياسية. فطبقاً لأحد المحللين الغربيين المتخصصين، اذا كان من المحتمل ان تجذب اوزبكستان الاوزبك الافغان، فان الارجح ان تستعين طاجكستان بأحمد شاه مسعود للدفاع عن حدودها.
وثمة جانب آخر للصورة يتضح بإدخال العنصر الباكستاني في التحليل، فباكستان تمثل الامتداد الجغرافي الطبيعي لبعض سكان افغانستان، وهذا يفسر انحياز باكستان طوال النزاع الى جناح حكمتيار الذي يتشكل اساساً من الباشتون نحو 4 في المئة من سكان باكستان تبعاً لاحصاءات 1987 ولعل هذا الدعم الكبير لمجاهدي الحزب الاسلامي جناح حكمتيار الحق ضرراً كبيراً بباكستان، فلقد اراد الاتحاد السوفياتي موازنة هذا الدعم لبعض الوقت عن طريق تأليب الباشتون والبالوش على نظام حكم اسلام آباد وكان حلفاء السوفيات في كابول يسمحون للباشتون بقدر اكبر من حرية الحركة عبر الحدود الافغانية - الباكستانية، لكن دعمهم لم يبلغ مستوى التكيف لوحدة القبائل الباشتونية على نحو يهدد نفوذهم في افغانستان. وهم ايضاً مولوا وسلحوا جبهة تحرير بلوشستان مستغلين النزوع الفطري لتلك الاقلية بين 5 و2 و3 ملايين نسمة الى الاستقلال. وفوق ذلك كانت الورقة الافغانية مهمة للغاية في تفاعلات علاقات باكستان مع كل من الهند والصين. فلقد حرصت باكستان على ألا تكون افغانستان ساحة لتصفية حساباتها القديمة مع الهند حول كشمير وبنغلاديش من خلال الدعم الهندي المعنوي لنظام كابول، ساعدها على ذلك ان الصين كانت لها مصلحة مؤكدة في عدم تثبيت النفوذ السوفياتي في هذا الموقع الاستراتيجي المهم: افغانستان. واليوم تحتاج باكستان الى ان تمد جسور التفاهم مع مزيد من فصائل المقاومة تحسباً لأي تغير في توازنات القوة السياسية، الامر الذي يؤدي الى تغيير علاقاتها بحكمتيار.
الصيغة الوسط هي الحل
ثالثاً، نمط العلاقة بين فصائل المجاهدين الافغان:
الواقع ان المجاهدين عرفوا اكثر من نمط واحد من انماط التفاعل:
1- فهناك اولاً النمط التعاوني او الائتلافي، اذ تكشف الخبرة التاريخية للمجاهدين الافغان عن بزوغ ائتلافات عدة بين فصائلهم، اكثرها نجح في استقطاب بعض تلك الفصائل، وقليل منها نجح في اجتذابها كافة. فالخلافات السياسية عادة ما تكفلت باحباط محاولات التوحيد. ففي آذار مارس 1980 تشكل التحالف الاسلامي الموحد بزعامة عبدرب الرسول سياف، وهو التحالف الذي تخلف عنه حكمتيار لرفضه الانضمام اليه على اساس من المساواة او بشيء يسير من التميز، ولما كان التحالف فشل حتى في التنسيق بين فصائل المجاهدين الستة الباقية، فسرعان ما اندلعت الخلافات بين ممثليها لينفض بذلك التحالف السداسي وينشأ على انقاضه تحالف ثلاثي من فصائل غيلاني ومجددي ومحمدي. وفي وقت لاحق انتعشت فكرة التحالف الجامع بزعامة سياف ايضاً ثم عادت لتنتكس مجدداً. وتكررت هذه الظاهرة كثيراً في العلاقة بين المجاهدين، وضخمها غياب التحدي الخارجي انتهاء الغزو وجسدها تعثر الجهود الحالية للاتفاق على مجلس موحد يتسلم السلطة من نظام كابول.
2- وهناك ثانياً النمط الصراعي، وهو نمط عبر عن نفسه احياناً بالطرق السلمية من خلال الاختلاف المشروع في الرأي في بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك، مثل التسوية السياسية والموقف من مفاوضات موسكو، لكنه عبر عن نفسه في احيان اخرى بأساليب عنيفة من خلال التصفية الجسدية للمعارضين. ففي 9 تموز يوليو 1989 لقي 30 قائداً ميدانياً ينتمون الى حزب الجمعية الاسلامية حتفهم في فخ نصب لهم اثناء عبورهم ممراً ضيقاً في وادي نهر خارخار، وقد اتهم الحزب الاسلامي جناح حكمتيار بتدبير هذا الحادث على رغم نفيه له. والواقع ان قادة المقاومة الافغانية شديدو الحرص على تأكيد وحدتهم وجعلها اطاراً للتنوع الذي يثري النقاش، بيد ان ذلك لا يدحض بعض الشواهد التي تظهر ان العنف بين المجاهدين، على امتداد سنوات الحرب الاهلية، هو المسؤول عن مقتل الف مجاهد منهم.
3- وهناك ثالثاً واخيراً النمط التساومي، ويمكن القول ان هذا هو النمط المرشح ليحكم العلاقة بين المجاهدين في مرحلة ما بعد سقوط نظام كابول، ذلك ان احد المخارج المحتملة من مأزق الحرب الاهلية بين المجاهدين يتمثل في التوصل الى صيغة وسط يتنازل بمقتضاها كل قائد عن جانب من طموحاته الشخصية لمصلحة المجموع. ويصعب التكهن بحدود تلك الصيغة وتفاصيلها، لكن الخيال قد يشرد بعيداً الى احتمال تفكيك الدولة الافغانية او بعض اقاليمها اذا رفض بعض القادة الصيغة الوسط. ولنتذكر في هذا الخصوص ان اقتطاع احمد شاه مسعود وادي بنشير وتمتعه فيه بالحكم الذاتي كان يعد احدى الصيغ الوفاقية التي قدمت للسوفيات عام 1983 على رغم ما كانوا يضمرونه حينئذ من نية عدوان كاسح على جيش مسعود وواديه.
تلك هي المحنة الافغانية بكل تعقيداتها الداخلية، وبكل تداعياتها الاقليمية على منطقة لها حساسيتها الفائقة، حيث يحتاج الافغانيون ان يخرجوا منها بسلام لأن قضية الوحدة ليست القضية الوحيدة المدرجة على اعمالهم في المرحلة المقبلة، وان كانت مدخلاً لا بد منه لحسم قضايا اخرى لا تقل اهمية، مثل قضية الديموقراطية وقضية التنمية. والنقطة المهمة في هذا الخصوص هي ان عنصر الوقت له اهميته الكبيرة، ذلك ان الافغانيين مطالبون بانتهاز فرصة وجود مفتاح المستقبل حتى الآن بين ايديهم وهي فرصة تفرض المتغيرات الدولية الراهنة عليها الا تدوم. وفي كل الاحوال، فان المحك الاساسي لعبور المحنة يتمثل في قدرة الافغانيين والمجاهدين على الانتقال السلس من مرحلة جهاد النظام الشيوعي الحليف الى مرحلة جهاد النفس الجامحة: وهذا هو الجهاد الأكبر.
* خبيرة في شؤون ايران وافغانستان واستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد في جامعة القاهرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.