مثل نفق طويل معتم، لا تضيئه غير مصابيح قليلة، متباعدة، شاحبة الضوء، هكذا يبدو "المسرح القومي" المصري أكثر فأكثر مع مرور الوقت. فأهم المسارح المصرية والعربية واكثرها عراقة، لم يقدم طوال عام 1993 سوى مسرحية واحدة، هي "غراميات عطوة ابو مطوة" من تأليف الفريد فرج واخراج سعد اردش وبطولة يحيى الفخراني وعبلة كامل راجع "الوسط" 30/8/1993. والعمل ليس الا تجسيداً وامتداداً لتيار قوي في مسرح الدولة، يسعى الى منافسة المسرح التجاري ضمن هذا التيار يمكن ادراج ما قدمه المسرح القومي في سنواته الاخيرة: "أهلاً يا بكوات" و"البهلوان". وكما هو متوقع في هذه الحالات، وقعت "عطوة..." في فخ التنازلات والجمالية، ومالت نحو الاسراف في الاستعراض والفكاهة. وليس لنا ان نلوم احداً: الفريد فرج وسعد اردش اسمان كبيران في المسرح العربي، وهذا العمل المتواضع هو ما انتهيا اليه. وقد علمنا المسرح انه ليس ثمة ممثل عظيم في عمل رديء. نادرة هي الاعمال المصرية التي تجاوزت هذا العام اطار التجارب المتواضعة. وكان علينا ان ننتظر "مهرجان المسرح"، لنرى بعض العروض القيمة "تقاسيم على العنبر" جواد الاسدي، سوريا، "فاميليا" الفاضل الجعايبي، تونس، و"غزير الليل" العرض الجميل الذي قدمه المصري حسن الجريتلي، على الرغم من شحوب العلاقة بين عمله والواقع راجع مقالة الزميل بيار أبي صعب في مكان آخر من هذا الملف. رحيل عبدالله غيث في عام 1993 احتجب نجمان مسرحيان كبيران، هما عبدالله غيث الذي رحل في آذار مارس، وسهير البابلي التي اعلنت اعتزالها الفن خلال شهر حزيران يونيو الماضي. والاثنان ينتميان لجيل واحد، كان على موعد مع موجة صاعدة في المسرح المصري، فما اسرع ما اكتسب افراده الخبرة والمعرفة، وما اسرع ما أصبحوا "نجوماً"! بداية عبدالله غيث كانت اول الستينات حين لعب دورين مهمين لفتا اليه الانظار: عمار في "مأساة جميلة" عبدالرحمن الشرقاوي / حمدي غيث، ثم حمدي في "الدخان" ميخائيل روما / كمال ياسين. وبرز خلال موسم 64 بثلاثة ادوار ثمينة من المسرح العالمي: روبرت في مسرحية أونيل "وراء الافق" اخراج كرم مطاوع، ثم فانيا في "الخال فانيا" اخراج لسلي بلاتون. اما دور العمر الذي ارتبط به عبدالله غيث، فأداه في الموسم التالي مع "الفتى مهران" الشرقاوي - كرم مطاوع، المسرحية التي اعترت حدثاً مسرحياً وثقافياً وسياسياً. فعلى الرغم من تناقضات شخصية مهران وتشوشها واضطرابها، نجح عبدالله غيث في اختياره وجه الشاعر الصعلوك المتمرد ما جعل حضور هذا الممثل يرتبط بالاعمال ذات الطابع التاريخ او الكلاسيكي من ناحية، وبالدراما الشعرية من الناحية الاخرى. لعب غيث ايضاً دور ايجست في الجزاء الاول من ثلاثية اسخيلوس "الاورستيه" اخراج كرم مطاوع ايضاً، كما مثل في مسرحيتين من تأليف الفريد فرج: "الفخ" و"الزير سالم". ومع نهاية الستينات كان عبدالله بلغ اوج حضوره فلعب بطولة اعمال عديدة، منها "المسامير" سعدالدين وهبة / سعد اردتش، "المخططون" يوسف ادريس / سعد اردش، "ثأر الله" الشرقاوي / كرم مطاوع و"ثورة الزنج" معين بسيسو / نبيل الالفي. كان عبدالله غيث ممثلاً فقط، ممثلاً اولاً وأخيراً، لذا نأى عن لعبة السلطة والادارة التي اندفع اليها جيله من المسرحيين، فانهكتهم وانهكت المسرح على السواء. تخرج في "معهد المسرح" 1956، لكنه تعلم حرفته الفعلية على يد اخيه الاكبر احمدي غيث الذي قاد خطاه على دروب المسرح. ولعل تأثره بحمدي، هو الذي اضفى على اداء غيث احياناً لمسة ميلودرامية، تنحو نحو المبالغة في تلوين الصوت والتصاعد بالاداء في الكلمة والحركة، على نحو ما كان سائداً في العقود الاولى من هذا القرن. انسحاب سهير البابلي اما سهير البابلي. فكانت بدايتها الرائعة مع فرسان هذا المسرح الجديد انفسهم في "سقوط فرعون" لألفريد فرج، و"الناس اللي فوق" لنعمان عاشور. ثم تتابعت ادوارها وتنوعت تنوعاً كبيراً، وكانت هي - بشبابها المنطلق وحيويتها وحضورها الآسر ورغبتها في التعلم الى جانب جمال الوجه ورشاقة القد وبحة الصوت - محل رعاية واهتمام من جانب كثرين اتاحوا لها الحضور الدائم، ونشير بوجه خاص الى اثنين من المخرجين الكبار: فتوح نشاطي وعبدالرحيم الزرقاني. فتحت ادارة الاول، مثلت في "الصفقة" لتوفيق الحكيم، في "بيت من زجاج لجان كوكتو، في "مصرع كليوباترا" لأحمد شوقي، في "صنف الحريم" لنعمان عاشور، وفي "بيت برناردا ألبا" للوركا. ومن اخراج الزرقاني لعبت ادواراً لا تقل اهمية في "الوراقة" لهنري جيمس، و"القضية" للطفي الخولي، و"سليمان الحلبي" لألفريد فرج، ثم في "ليلى والمجنون" لصلاح عبدالصبور وكانت آخر أعمالها المهمة 71/72. ولم يقتصر حضورها على الخشبة، بطبيعة الحال، على التعاون مع هذين المخرجين. بل لعبت دوراً متميزاً مع كرم مطاوع في "يرما" لوركا، وتألقت معه ايضاً بدور فاطمة بنت بري في "بلدي يا بلدي" لرشاد رشدي. كما مثلت مع مخرجين آخرين، مثل كمال ياسين وسعد أردش وحمدي غيث ... فبدت سهير البابلي في تلك الاعمال كلها وجهاً مضيئاً من وجوه المسرح المصري، وممثلة مرهفة ذات حضور جذاب وحيوية دافقة، تخلص لدورها وتلتزم، تجيد الاداء بالفصحى وتحسن اداء الشعر دون تعثر. تصحيح انها لم تكن اكملت الاعداد الاكاديمي، لكن الممارسة صقلتها، وأتت تلقائيتها وموهبتها، لتجعلا منها جوهرة تتألق على الخشبة. وحين اخذ ميزان المسرح في الهبوط بعد 67 بوجه خاص، ثم تابع هبوطه السريع في سنوات السبعينات الكالحة، اذا بالسيدة سهير في طليعة الفنانين الذين سارعوا الى النزول من القطار تاركين اياه يواصل رحلة انهياره، ولاذوا بالمسرح التجاري. وكانت "مدرسة المشاغبين" مع جلال الشرقاوي هي البداية، بعدها تتابعت الاعمال، وانحازت سهير الى هذا المسرح انحيازاً كاملاً، طارحة ماضيها المتألق في المزاد. وابدلت وجهها القديم بوجه جديد وجه النجمة المصنوع والمصبوغ، المفتعل والزائف. ضاع وجه الممثلة القادرة المستجيبة لدورها بتلقائية وحساسية ونقاء، وبدا وجه المحترفة التي تؤدي لازمات وكليشيهات، في عصبية وافتعال. ولم نعد، نحن جمهور محبيها، حريصين على رؤيتها في وجهها الجديد. حتى هي لم تعد تحتمل ذلك الوجه، فانسحبت! ومضت واحدة من الذكريات المريرة التي جرفها معه عام متعب، شهد ما شهده من ملامح الغياب والحضور في المسرح المصري والعربي.