10.1 تريليونات قيمة سوق الأوراق المالية    1% انخفاضا بأسعار الفائدة خلال 2024    تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية الاخوين رحباني على لسان منصور رحباني . سعيد عقل كان منعطفاً مصيرياً في حياتنا وفيلمون وهبي كان محطة كبيرة في مسيرتنا 7
نشر في الحياة يوم 27 - 12 - 1993

في الحلقة السابقة روي منصور قصة بدايته مع شقيقه عاصي في التلفزيون وكيف انهما لم يشاءا "الاحتراق" به فانتقلا الى العمل السينمائي عملاً بنصيحة صديق لهما وحققا ثلاثة افلام ما زالت تعرض حتى اليوم. وحكى منصور ايضاً كيف انتشرت اعمالهما في العالم العربي، مركزاً على مقدرة فيروز وصوتها الخارق وحضورها المذهل.
ويروي منصور في هذه الحلقة قصة الكبار في الموسيقى والادب الذين تعاونوا معهما في مسيرتهما الفنية، ويوضح خلالها اكثر من حادثة وقعت مع هؤلاء وحام حولها بعض الالتباس.
كنت في مطلع العشرين من عمري، وكنت ما ازال ذاك الشرطي العدلي البسيط في بيروت، حين رأيت ذات مساء في ساحة البرج في بيروت جمعاً حولي يشيرون الى مكان قريب ويتهامسون: "هذا هو سعيد عقل". والتفت فاذا بي امام شاب طويل يسير بمشيته العنفوانية المهيبة وطلعته المشرقة. توقفت اتأمل الشاعر الذي تتحدث عنه كل بيروت والذي كان كتابه "قدموس" يومئذ شاغل الناس. ولم اصعد الى السيارة التي كانت ستقلني الى انطلياس الا بعدما غاب عني ذاك الشاعر الذي كانت مكانته الادبية بدأت تسيطر على بيروت الادب والشعر بمحافلها وأوساطها وصحافتها.
في تلك الفترة، كنت اقرأ شعره وأتصور بكل غرور أنني استطيع ان اكتب افضل منه. لم أكن، عهدئذ، واعياً اسرار تركيبته الجديدة ولغته الشعرية ولفتة الجملة لديه. كنت اكتب شعراً ولا اعي اهمية النسيج الشعري. الاحق الصورة ولا اهتم بتركيب العبارة المؤدية الى تلك الصورة. هكذا كانت مرحلتنا، عاصي وأنا، قبل ان نتعرف الى سعيد عقل.
التعرف على سعيد عقل
ذات يوم وكنا انطلقنا بأعمالنا مع فيروز وبدأت اغانينا تذاع، طلب منا صهرنا زوج شقيقتنا سلوى المحامي عبدالله الخوري ان يعرفنا الى سعيد عقل وكان هو على علاقة به عبر والده الاخطل الصغير. وفي زحلة، في مدرسة مار افرام التي كان يملكها سعيد عقل ويديرها، تعرفنا اليه. اسمعناه شعراً وبعض موسيقى. خرجنا من عنده بانطباع عميق. تلك الزيارة قلبت مفاهيمنا للشعر. من تلك الفترة بدأت علاقتنا به وثيقة ووطيدة ولم نعد ننفصل أبداً، علاقة مبنية على الوفاء والاحترام.
وأود هنا ان ارد اليه الوفاء بالمثل لما قاله عنا في مذكراته الى "الوسط" "سعيد عقل ان حكى" - الحلقة العاشرة - عدد 67 - تاريخ 10/5/1993 - ص 66: "ان لحن "شال" من مجموعتي "رندلى" هو من اروع ما سمعته في حياتي. وحين سمعته بصور فيروز ولحن عاصي ومنصور احببت القصيدة اكثر مما كنت احبها من شعري قبل التلحين ... صداقتي مع عاصي ومنصور أباهي بها. لم يشبها يوماً شائبة. وحين افاخر بأن وطني احبني، وأحبني فيه كبار، أعني في طليعتهم عاصي ومنصور الرحباني".
واذا كنت هنا ارد اليه الوفاء باسم عاصي وباسمي، فإن علي ايضاً ان اقبل جبينه على قوله بي: "... واليوم بعد غياب عاصي، منصور لا يقل عن عاصي عبقرية وابداعاً. أرفض التمييز ولا أرضى بالانسياق الى تعظيم الغائب على حساب الاحياء. منصور شاعر كبير وموسيقى كبير" "الوسط" - العدد نفسه والصفحة نفسها. هذا الكلام اعيده الى "معلمنا" سعيد الجزم نفسه: كان سعيد عقل منعطفاً مصيرياً في مسيرتنا الفنية وفي حياتنا الشخصية.
على الصعيد الشخصي كان سعيد عقل أخاً حقيقياً لنا. دخل بيتنا وصار عضواً في العائلة. كانت ام عاصي تكن له تقريراً عظيماً. ذات يوم من 1954 صحبه عاصي الى بيت فيروز في حي "البطريركية". وحين خرجا قال له: "يا عاصي، بينكما حب غير عادي. يجب ان تتزوج هذه الفتاة". كانت تلك العبارة، في رأي عاصي، ذات اثر كبير على تعجيل زواجه من نهاد حداد. وفي ما بعد كتب سعيد عقل عن علاقتنا بفيروز: "كان عاصي ومنصور يسألان غير صديق لهما ثقيف عن رأيه في تحمل هذه او تلك من الاغاني سمو صوت فيروز. وغير مرة قيل لقصيدة صرفا اياماً من ضنى في اطلاعها اعجوبة صغيرة: "انت ايتها الطرفة لست اهلاً كفاية لأن يغنيك الصوت الطرفة". كان عندهما احساس بأنه ما من بيت جميل مرشح لأن تطلقه فيروز الى الناس الا ويتحتم عليه ان يرفع عينيه الى السماء. كان ذلك شرطاً مفروضاً حتى على الغزل، وحتى على القصة المأساوية وحتى على التوله بالصخرة المعلقة بالمنجم والتي اسمها لبنان".
وعلى الصعيد الابداعي وضعنا الحاناً للكثير من قصائده، بدءاً ب"مشوار" وبعض قصائد "يارا" الى قصائد فصحي هي من اجمل الشعر على الاطلاق. وكان لسعيد عقل تأثيره الكبير على شعرنا. صحيح اننا من اسلوبين شعريين مختلفين كان احياناً يلومنا على عبارات وردت في قصائدنا تكون فرضتها ظروف حوار مسرحي لكننا تعلمنا عليه اموراً كثيرة: اللفتة الشعرية، اللعب بالعبارات والكلمات، كيفية كتابة قصيدة من دون قواف وما اصولها للتعويض عن القوافي، النظرة الجمالية الى الامور، وسواها مما استفدنا به من سعيد عقل. صرف ساعات طويلة في البيت او في المكتب - وكان منزله في البناية الملاصقة لمكتبنا في حرش الكفوري بدارو في افهامنا الاصول والقواعد والتكنيك. لم يخرج شعرنا متأثراً بشعره، لكنه خرج غانماً من تقنيته العميقة ومن تضلعه بقواعد اللغة التي يملكها من بين قلائل في هذا العصر.
حين كتبنا "جسر القمر" طلبنا منه ان يطرزها بعبارة منه فكتب: "كل ضيعة بينها وبين الدني جسر القمر. وطالما فيها قلب بيشد قلب، مهما تعرض للخطر ما بينهدم جسر القمر". وحين خرجت المسرحية في كتاب، صدرنا الكتاب بهذه العبارة من سعيد عقل. وما كان لمسيرة الاخوين رحباني ان تكون ما كانت عليه، لولا دخول سعيد عقل اليها. افادنا بالكثير الكثير وما زلنا نغنم منه حتى اليوم.
العلاقة مع عبدالوهاب
كبير آخر في حياتنا: محمد عبدالوهاب.
في طفولتنا، عاصي وأنا: كنا نصغي الى اغنياته وأدواره القديمة من فونوغراف "أبو عاصي" في "مقهى الفوار". وذات صيف في بحر صاف قرب بكفيا كان مقهى يبعد عنا نحو خمسمئة متر يضع صاحبه طوال النهار اسطوانة "يا جارة الوادي" من فونوغراف كبير، فكنا عاصي وأنا نصغي اليها وتشدنا دون ان ندري ماذا يخبء لنا القدر مع الموسيقى. في ما بعد، وقد بدأنا نهتم بالموسيقى، كنا نسير من انطلياس مسافة نصف ساعة كبي نصل الى بيت لنستمع من جهاز الراديو الى اغنيات عبدالوهاب القديمة "الجندول"، "يا جارة الوادي" ....
لذا كنا سعداء حين جاء صهرنا عبدالله الخوري يود تعرفينا الى عبدالوهاب. كان اللقاء الاول معه في فندق "عاليه" الكبير. لم يكن يعرف اعمالنا فأسمعناه بعضها. بدا فوراً شديد الاعجاب والتقط منها المعالم التي قالت جديداً. خرجنا من تلك الجلسة الاولى شاعرين اننا بتنا صديقين له.
بعد ذاك، توالت الزيارات المتبادلة بيننا وبينه. كنا كلما ذهبنا الى مصر يستضيفنا في منزله، وكلما وصل الى بيروت بالباخرة اجمالاً لانه يخاف ركوب الطائرة، وهي عادة اخذها على الارجح من احمد شوقي كان يتصل بنا مستفسراً بلهفة عن جديدنا الفني يريد سماعه، فنجتمع وندعوه الى بيوتنا ومكتبنا. وغير مرة قال لنا، في حضور جمع من الصحافيين والفنانين: "من دون عاصي ومنصور، ما كان امكن الفن اللبناني ان يكون بالمستوى الذي هو عليه".
ذات يوم، وقد ترسخت صداقتنا معه، كان عندنا في المكتب يستمع الى جديدنا. فعرضنا عليه اعادة تسجيل اغنياته القديمة بصوت فيروز ولها عنده مكانة خاصة، وكان سمع بصوتها كيف وزعنا "طلعت يا محلى نورها" و"زوروني كل سنة مرة" لسيد درويش واحبهما. رحب بالفكرة، وبدأنا بذاك التعاون مع اغنية "يا جارة الوادي"، وزعناها لم تكن موزعة ايام غناها هو وأدخلنا اليها توزيع ربع الصوت، مما فاجأ عبدالوهاب وأدهشه، واحبها كثيراً بصوت فيروز. ثم اتبعناها ب"خايف اقول اللي في قلبي". وكان يسعد جداً بالتوزيع الذي وضعناه لأغانيه. لم يكن يسمع توزيعنا قبل التسجيل لكنه كان احياناً يقرأه في النوطة، وأحياناً يسمع بعض نتائجه على الآلات.
مرة كان في بيروت يهيئ الحاناً لأحد افلام عبدالحليم حافظ. طلب منا كتابة اغنية بالعامية المصرية لعبدالحليم فكتبنا "ضي القناديل" ولحنها في فندق السان جورج حيث كان نازلاً، وكان يحبها، اعطيناه مجدداً من شعرنا "سهار بعد سهار ... ت يحرز المشوار" لصوت فيروز، ولاحقاً طلبنا منه ان يلحن لفيروز "سكن الليل" لجبران.
قصة "سكن الليل"
وهنا أتوقف لأوضح لبساً فاضحاً اوقعتنا فيه الصحافة حينذاك حول "سكن الليل"، حين تهيأ للبعض، خطأ، اننا "شاغبنا" على عبدالوهاب عند صدور "سكن الليل" باصدارنا "زهرة المدائن".
عام 1969 كنا نهيئ حفلة منوعات لمهرجانات الأرز. وكنا انهينا قبل فترة تسجيل "زهرة المدائن". طلب منى عاصي بنباهته المعتادة ان اسمع عبدالوهاب "زهرة المدائن". فقال بعدما سمعها: "ما فيهاش حاجة جديدة، فيها علم". ذهبنا الى الارز فاقتصرت اكثر البروفات على "سكن الليل". وليلة المهرجان، غنت فيروز "سكن الليل" و"زهرة المدائن" فتجاوب الجمهور مع "زهرة المدائن" بشكل واضح، ما حدا بالاصدقاء سعيد فريحة وسليم اللوزي وجورج جرداق الى ان ينتحوا بنا في الاستراحة ويلومونا على هذا "الكمين" الذي نصبناه لعبدالوهاب بوضع "زهرة المدائن" و"سكن الليل" في البرنامج نفسه. وعبثاً حاولنا اقناعهم بأن الاولى موضوعة قبل الاخرى وان عبدالوهاب نفسه استمتع اليها، فلم يقتنعوا.
على ان علاقتنا بعبدالوهاب لم تتأثر يوماً بأية شائبة. وبقينا على صداقة وطيدة لم تتزعزع.
وأذكر ان عبدالوهاب كتب في مكتبنا في بدارو نشيد "طول ما املى معاي معاي وف ايدي سلاح" ولحنه من نغمة الصبا وطلب مني ان اوزعه وأضع نحاسيات في الصبا كما فعلنا في "فخرالدين". وزعت له النشيد بحسب رغبته فأحبه، وسجله في استوديو بعلبك.
ومن طرائف ما جرى معنا واياه، وهو على ما اشتهر به من وسوسة، اننا كنا على الغداء يوما في بيت عاصي وفيروز. لاحظناه بين الفينة والاخرى يأخذ كوبه ويذهب الى المطبخ ليعود به ممتلئاً بالماء. عرضنا عليه ان نخدمه فقال: "ما تهتموش بيا". وعندما تكرر ذلك، لاحظت انه كان بملأ كوبه من ماء الخزان وهو يعتقد انها هذه هي المياه الصالحة للشرب. ووقعت في حيرة هل اخبره ام اسكت؟ وماذا اذا ما اصابه انزعاج من مياه الخزان هو الذي لا يأكل الا طعاماً خاصاً لشدة حرصه على صحته؟ بعد الغداء صارحته بالحقيقة فصرخ مذعوراً: "يا خبر !!!" وذهب من بيت عاصي مباشرة الى المستشفى فاستدعى لجنة اطباء طوال اربع وعشرين ساعة يراقبونه وهو مهلوس بما سيحدث له. وقد اكد لي احد اولئك الاطباء انه لم يصب بأي انزعاج واني لو لم أخبره بالحقيقة لما كان حصل له اي شيء.
مرة اخرى، كان مدعوا عندي على العشاء، فنادى زوجتي: "يا ست تريز، تعمليلي لو سمحتي بامية خاصة من دون زيت ومن دون ملح ومن دون بصل ومن دون ثوم ومن دون قلي". فأجابته "حاضر يا استاذ ... صحنك خاص". واذا بها تهيئ العشاء للجميع ثم تخصص منه صحناً تقدمه الى عبدالوهاب، فيأكل ويهنأ ويشكرها على هذا الصحن الذي هيأته خصيصاً له وفق طلباته وبعد العشاء همست لي تريز بأنها لم تهيئ ذاك الصحن خصيصاً بل فصلته لوحده عن سائر البامياء التي اعدتها للجميع.
كانت جلساتنا معه غنية بالمتعة والخبرة. وهو كان ذا شخصية قوية، متأنقاً جداً ومتألقاً جداً وناضجاً جداً وله تجارب عظيمة. وهو الوحيد ذو الفضل الاكبر على الغناء والموسيقى في الشرق.
بعد مؤتمر 1932، تم حظر استعمال الهارموني في الموسيقى العربية وأية الات غير الوتريات القانون والعود ... فأدار عبدالوهاب ظهره لكل هذا الامر وأنشأ لنفسه امبراطورية استعمل فيها الآلات الاوروبية والنحاس والخشبيات بطريقة واسعة. لا يهم اذا كان هو وزع ام سواه، لكن هذه الآلات استعملت في قطعة. وعبدالوهاب هو الفنان الوحيد الذي لم يصدر عملاً الا شاع. انه سيد تأنيق الجملة الموسيقية واللفظ العربي. كان يعرف ماذا يريد وكيف يريده لأنه ذو اطلاع مذهل.
لم نكن نتدخل بألحانه لفيروز، الا حين يسألنا رأينا، واحياناً يعدل في مفصل موسيقى او جملة ميلودية وفقاً لاقتناعه برأي يكون سألنا اياه. وكلما زار بيروت، غالباً ما يمضي فيها وقتاً طويلاً، كان يزورنا في المكتب فنسمعه ألحاناً لنا جديدة قبل صدورها ونأخذ رأيه ونفيد من خبرته الفريدة.
الاخطل الصغير كانت علاقتنا به ودية وعائلية. كنا نعرف عنه من قبل حين يشار اليه على انه "شاعر العرب الاكبر". بعد زواج شقيقتنا سلوى من ابنه عبدالله، اخذنا نتردد عليه. كنت ارى في مكتبته كتباً مهداة اليه بخط اصحابها منهم جبران كان زميله في معهد الحكمة وخليل مطران وطه حسين وأحمد شوقي. وعلى ديوانه كتب اهداء يقول: "الى منصور، الشاعد الذي احب". كان شخصية طريفة جداً: مرحاً ساخراً طريف المعشر، يحب لعب الورق للذة واحدة، ان يغش. كثيراً ما ترددنا عليه نسمعه شعرنا فيحبه. وباكراً بدأنا بتلحين قصائد له: "يا ربي لا تتركي ورداً ولا تنسي اقاحاً"، "بيروت هل ذرفت عيونك دمعة الا ترشفها فؤادي المغرم"، بردى هل الخلد الذي وعدوا به"، "يا قطعة من كبدي"، "يا عاقد الحاجبين"، "يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً"، "قد اتاك يعتذر"، وسواها وحين تنادي كبار الشعراء الى مبايعته امير الشعراء قصر الاونسكو - بيروت - 4/6/1961 غنت فيروز قصيدتين من شهره رافقها على البيانو بوغوس جلاليان. وكان صهرنا عبدالله دائماً ينقل الينا ارتياحه واعجابه حين نلحن له احدى قصائده.
مع فيلمون وهبي
من الكبار ايضاً في رفقة الطريق : فيلمون وهبي.
ومعرفتنا به تعود الى وقت سحيق. كنا ذات يوم، عاصي وأنا، على باب دكان ابو عاصي في انطلياس، فدخل شام ليشتري علبة سجائر، وفهمنا من حواره مع ابي بأنه مطرب وملحن. ثم غاب عنا وقتاً طويلاً لم نعرف فيه شيئاً عنه الى ان صرنا نلتقي به في اروقة الاذاعة اللبنانية ونلاحظ عنده ما نسمع عن روحه المرحة وحبه للنكات والسخرية. في تلك الفترة كنا نهيئ لتسجيل سلسلة اسكتشات "سبع ومخول وبو فارس" وهي الشخصيات الباقية معنا من فارس" وهي الشخصيات الباقية معنا من الطفولة ايام كنا نرى هذه النماذج في محيط المنيبيع، شويا، عين المياسة، حملايا، عين الخروجة، الزغرين ... وبقيت في بالنا حتى خرجت لاحقاً من دون وعي منا في شخصيات سبع ومخول وبو فارس.
ذات يوم كنا نستعد لتسجيل اسكتش بعنوان "بارود اهربواش. كنت امثل شخصية مخول، وعاصي شخصية ابو فارس. واعطينا شخصية سبع لشاب كان يغني معنا في الكورس ولم اكن مرتاحاً لأدائه التمثيلي لأن شخصية سبع كانت مميزة وطريفة وتتطلب طواعية في التمثيل لم تكن موجودة مطلقاً لدى ذاك الشاب وهو في الاساس ليس ممثلاً محترفاً بل مغني كورس. يوم التسجيل - وربما من حسن الحظ واتاحة لفرصة تاريخية سترافقنا طوال مسيرتنا الفنية - مرض ذاك الشاب وتغيب عن الاذاعة. فخطرت فجأة فكرة في بال عاصي فقال لي: شو رأيك نجرب فيلمون للدور"؟ وهكذا كان. واذا بموهبة كوميدية مذهلة تنفتح امامنا خلال التمرين مع فيلمون على شخصية "سبع". واذا بنا، من شخصيته هو تتبلور عندنا شخصية "سبع" اكثر فأكثر. ومنذ ذاك الحين بدأنا مع فيلمون تعاوناً فنياً طويلاً انطلق من اسكتشات "سبع ومخول" بلغت خمسة عشر اسكتشاً ثم نقلنا الشخصيتين معنا الى المسرح والتلفزيون والسينما والكثير من اعمالنا الفنية اللاحقة.
وأشهد ان شخصية "سبع" انزرعت في شخصية فيلمون حتى اختلطت الشخصيتان فذاب فيلمون نفسه بشخصية "سبع" حتى في حياته الشخصية والعامة. مرات كثيرة كان ينسى نفسه في المجتمع ويبقى "سبع" حتى خارج التمثيل، وعاش في هذه الشخصية طوال حياته.
يبقى فيلمون وهبي، بشخصية "سبع" وشخصه هو كإنسان كبير، محطة كبيرة في مسيرتنا الفنية. وله فضل كبير في نجاح أغان كثيرة في اعمالنا، كتبناها ولحنها هو وغنتها فيروز وهي بين انجح اغانيها على الاطلاق.
مع وديع الصافي
ومسيرتنا عرفت كبيراً آخر في اول الطريق وخلاله: وديع الصافي.
باكراً جداً تعرفنا على وديع قبل دخولنا الميدان الفني. كنا جميعنا هواة ووديع عندئذ في ضبية ملتحقاً بفرقة "الانصار" في الجيش. كان نحيلاً وسيماً ويعزف على العود. تعرفنا به ،كنا نجلس معاً عاصي وأنا ووديع جلسات عدة. اول ما اسمعنا من تلحينه: "يا مرسل النغم الحنون / هيجت في قلبي الشجون" ولفتنا فيصوته جمال نادر. توثقت الصداقة بيننا. وكان كل يوم احد يرتل في احدى الكنائس في مدينة او قرية بيت شباب بكفيا فنغدو باكراً عاصي وأنا سيراً على الاقدام كي نستمع الى صوته الرائع. ثم بدأ يشتهر خاصة في اذاعة دمشق بأغنية "ع اللومه". وفي ما بعد بدأ التعاون بيننا في أغان اعطيناه اياها ايام اذاعة الشرق الادنى، منها: "أهون عليي يدمعو عيوني ولا يدمعوا عيونك" وسواها. واعطيناه من اغاني التانغو لأننا كنا نريد ان نطلق مجموعة كبيرة من تلك الاغاني الراقصة ولم يكن ممكنا ان تخرج جميعها بصوت فيروز فوزعناها على وديع وصباح ونجاح سلام وسواهم. وتعاونا معه في الاسكتشات الاذاعية مع فيروز ومع صباح، الى ان توجنا تعاوننا معه بأوبريت "موسم العز" في بعلبك مع صباح 1960 وبقي تعاوننا معه حتى "قصيدة حب" في بعلبك كذلك 1973.
صباح كذلك ركن اساسي في مسيرتنا الاولى. بدأ تعاوننا في الايام الاولى من الاذاعة اللبنانية. غنت لنا اعمالاً كثيرة وعلى مختلف المراحل التي انطلقنا بها في مطالعنا. ومن انجح الاعمال الاولى التي قدمتها معنا صباح: "الموسم الازرق" مع عاصي. واعطيناها مجموعة من الاغاني: "ع الندا"، "جيب المجوز يا عبود" ... ثم قدمنا معها "موسم العز" بعلبك 1960، و"دواليب الهواء" بعلبك 1965.
مع نصري شمس الدين
وإذ اذكر وديع وصباح، لا يسعني الا ان اذكر كبيراً آخر في مسيرتنا: نصري شمس الدين.
تعود علاقتنا بنصري الى ايام اذاعة الشرق الادنى حين بدأ معنا عضواً عادياً في الكورس على غرار الكثيرين ممن دخلوا معنا مرددين في الكورس ثم شقوا طريقهم ليصبحوا فنانين كباراً.
اخذنا نكتشف موهبته الاكيدة ونعطيه مقاطع سولو. حين بدأنا استكشات "سبع ومخول وبو فارس" اسندنا اليه في الاسكتش الاول دور "نصري ابو دربكة". برع في تأدية الدور فأبقيناه معنا يتدرج من السولو الى الاسكتشات الى الاغاني حتى تخصص في مسرحنا وبات عنصراً ركناً في مسيرتنا الفنية. كان نصري يتمتع بكفاءات فنية نادرة. وحتى الآن لا يعوض بمن له كفاءاته، وأبرزها غناؤه على المسرح بعظمة وهيبة امام اوركسترا تعزف نوطات اخرى بحسب التوزيع وهو يستمر في غنائه مسلطناً بثبات وثقة ولا يضيع بينما الكثيرون يضيعون في موقف صعب كهذا.
اتذكر ايضاً صديقاً في مسيرتنا: نجيب حنكش. كان احد اركان محور صداقة كبير يجمعنا بسعيد فريحة. كنا نسهر معاً الى ان غنى امامنا ذات ليلة "اعطني الناي وغن" لجبران، وكان اصدرها في البرازيل على اسطوانات بصوته. احببنا ان نتبناها لتغنيها فيروز. وانطلقت واحدة من انجح اغانيها.
من الكبار في مسيرتنا كذلك: عمر أبو ريشة. كنا نجلس اليه نسمعه شعرنا ونصغي الى شعره. ومن اكثر اللحظات تأثراً في حياتي، يوم انتهى عرض احد مهرجانات معرض دمشق الدولي وجاء يهنئنا، عاصي، وأنا، فقال: "خذا كل شعري، واعطياني قصيدتكما "لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب" وخاصة البيت الذي يقول:
نسيت من يده ان استرد يدي
طالب السلام وطالت رفة الهدب.
نزار قباني كذلك ركن كبير في حياتنا الفنية لحناً له: "لا تسألوني ما اسمه حبيبي"، "يروون في ضيعتنا" و"لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا" افتتاح احد مهرجانات معرض دمشق الدولي. تعرفنا به في دمشق ومنذئذ جمعتنا به علاقة من انبل الصداقات. كان يحب عاصي عميقاً. وفي ذاكره الاولى كتب: "... وغداً، يوم يعلمون بعد ألف سنة في مدارسنا اسماء الجبال في لبنان، سيكون عاصي الرحباني اعلى وأهم جبل في اطلس لبنان". واخيراً، حين ارسلت اليه مع ابني مروان الى لندن مجموعتي الشعريتين "انا الغريب الآخر" و"أسافر وحدي ملكاً" منشورات "دار النهار" - 1988، أرسل يقول لي عن شعري كلاماً نبيلاً ليتني املك ان اعيده اليه بمثل هذا الوفاء.
من الكبار ايضاً في مسيرتنا، جورج شحادة. كنا عاصي وأنا نذهب اليه نقرأ له ما نكتبه، او يجيء الى مكتبنا فيصغي الى اعمالنا بكل انتباه. أفادنا في بناء الهيكلية المسرحية ونوع اللغة التي نكتب بها. علمنا مبدأ التضاد الهبوط من اقصى الرمانسية الى ادنى الواقع. كان يحذرنا من الاسترسال في اللغة الوردية المعطرة الزائدة العذوبة. نبهنا الى استعمال اللغة القاسية مرات. احياناً حين نقرأ له في منزله ويمر مقطع يعجبه يروح يقفز في صالون بيته فرحاً ويعلق على صدرينا اوسمة وهمية بكل طفولية رائعة، حتى اذا مر مقطع آخر لا يعجبه يغضب و"ينزع" عن صدرينا تلك "الاوسمة".
ومن الكبار ايضاً في مسيرتنا، ميشال طراد. صديق كبير على الصعيد الشخصي لكنه لا يحب شعرنا. كنا نعقد معه جلسات طويلة ايام مهرجانات بعلبك وكان هو مدير القلعة لكنه لا يبقى ليحضر الحفلة خوف الا يعجبه العمل. لم يكن يستوعب الكتابة المسرحية. لحنا له قطعاً كثيرة، منها: "جلنار"، "بكوخنا يا ابني"، "كم بنفسجة"، "رح حلفك بالغصن يا عصفور".
كان مكتبنا في حرش الكفوري - بدارو ورشة عمل مستمرة خلية فنانين، ومقر "الفرقة الشعبية اللبنانية" التي كان صبري الشريف الى جانب ادارته المكتب يدير شؤونها، وهي التي قيل فيها انها اكبر فرقة فنية خاصة انشأها افراد. من الطبيعي اذاً ان يكون المكتب كذلك ملتقى مبدعين كبار نسألهم دائماً ويصبحون تلقائياً مستشارين لنا دائمين: سعيد عقل، جورج شحادة، عبدالله الاخطل، جورج سكاف، كامل التلمساني، رفيق خوري، انسي الحاج، طلال حيدر، واخرين كنا نقرأ لهم اعمالنا، نأخذ رأيهم في الفكرة والنص والحوار وما اذا كان بعض التعابير يليق مثلاً ان يكون على لسان فيروز.
على انني لن اقفل فصل الكبار في مسيرتنا الفنية من الاصدقاء دون ان اختم بالكلام على كبير من اهل البيت: الياس الرحباني.
توفي الوالد أبو عاصي وكان الياس طفلاً فتعهدناه عاصي وأنا. منذ صغره كان ذكياً ونابهاً فأخذنا نصطحبه معنا الى حفلاتنا على الدورة وفي بعض القرى. كنا نكتب له مونولوجات صغيرة: "بتعرف انت يا خاي، انو الداعي قبضاي"، او "يا الله شو عندا قرايب"، فيؤديها الياس في شكل مرح يقطف تصفيقاً لكونه اصغر مونولوجيست ارتقى المسرح. ولاحقاً صار ضارب ايقاع يعزف الطبلة في حفلاتنا. هكذا نشأ في الوسط الفني واحب الموسيقى. حين شب اخذ يوازن بين دروسه في فرير الجميزة ودروس البيانو على ميشال بورجو، حتى بلغ درجة مهمة في العزف طامحاً ان يغدو عازف بيانو للكونشرتوات.
لكن الماً اصابه في ابهامه حال دون مواصلته دروس العزف العليا. ولعل ذلك من حسن الحظ لأنه تحول الى التلحين وبات من كبار المحلنين في لبنان والشرق العربي. ثم اكمل في الكونسرفاتوار دروسه وعلى برتران روبيار. ورحنا نفرد له دوماً اغاني وفواصل يلحنها في جميع اعمالنا اللاحقة. لم ينضم الينا فنصبح "الاخوة رحباني" بسبب فارق العمر بيننا لأنه حين بدأ كنا نحن قطعنا شوطاً بعيداً، فأخذ يوقعه باسمه منفرداً.
وكنا نتهيأ للقيام بمرحلة منتجة تتركز على الثلاثة معاً: عاصي ومنصور والياس، لولا ان القدر كان لنا بالمرصاد فاذا بالمأساة الفاجعة تحل علينا عام 1972 : توقف دماغ عاصي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.