فاجأ الشاعر المصري فاروق شوشة مشاهدي التلفزيون المصري حين ناشد السيدة فيروز وورثة الموسيقار الراحل رياض السنباطي بالتعاون معاً، كي تخرج القصائد الثلاث التي لحنها لها الموسيقار الراحل قبل نحو 20 عاماً إلى النور، وقال في برنامج تلفزيوني خصص للاحتفال بذكرى وفاة السنباطي: "لا أعرف الصيغة التي يجب أن تخرج فيها هذه الأعمال إلى النور، ولكن أناشد وزارة الإعلام المصرية بأن ترعى وتهتم بها لتخرج في الشكل الذي يليق بالسيدة فيروز والسنباطي". وأكد على أن هذه الأعمال هي بمثابة حدث فني كبير، لا يقل عن حدث اللقاء بين صوت فيروز وألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب. وطالب وزارة الإعلام بوضع كل الامكانات تحت تصرف السيدة فيروز، ودعوتها لتسجيل هذه الأعمال في القاهرة، وتنظيم حفلة خاصة بها تنشد فيها القصائد الثلاث لتكون أهم حدث فني عربي يختتم به القرن العشرون. وكان نداء شوشة بمثابة الحجر الذي ألقي في بحيرة ظلت شبه راكدة طوال 20 عاماً، وهي عمر هذه الأعمال، فعاد الوسط الغنائي المصري من جديد يتحدث عن هذه القضية، ولا سيما مع الوضع المتردي للأغنية العربية، وموقف السيدة فيروز الملتبس من هذه الأعمال. فهي كانت صرحت غير مرة بأنها في طريقها إلى تسجيل القصائد، غير أن ذلك لم يحدث على رغم تسجيلها عشرات الأغاني لملحنين آخرين على مدى السنوات ال20 الماضية، وهو أمر جعل من أحد أهم نقاد الموسيقى في مصر، هو الراحل كمال النجمي، يؤكد على أن السيدة فيروز لن تنشد هذه الأعمال، وعلل ترددها في غناء القصائد الى أنها وجدتها "غير مناسبة لمقاييس صوتها وخصائصه". فالسنباطي - حسب تعبيره - لم يكن يبدع في التلحين إلا على مقاييس صوت أم كلثوم وخصائصه التي لا يضاهيها صوت مطربة أخرى. ولكن الكثيرين في الأوساط الغنائية في مصر رفضوا هذا التبرير، مؤكدين على أن السنباطي وغيره من الملحنين يضع في اعتباره عند تلحين أي عمل، صوت المطربة أو المطرب، ومساحته، وإمكاناته، ودلالتهم على ذلك أن السنباطي كما لحن لأم كلثوم لحن لعبدالحليم حافظ، ونجاة وشادية ووردة وفايزة أحمد وميادة الحناوي وعزيزة جلال وحتى شريفة فاضل، ولم يعترض أحدهم من أن اللحن أكبر من امكانات صوته. والواقع أن أهمية هذه الألحان تنبع من التباعد، وربما التنافر، بين مدرسة رياض السنباطي المحافظ والكلثومي حتى النخاع وبين مدرسة السيدة فيروز الرحبانية المختلفة الاتجاهات، ولا سيما في مسألة التعاطي مع صوت المطرب ومفهوم الطرب، وابتعادها عن التفجع العاطفي. فمدرسة فيروز الرحبانية تتجه إلى التعبير عن هموم وقضايا أخرى أكثر أهمية من الهجر، والسهر، واللوعة، وهي من الأمور التي طالما كانت مادة ثرية لأعمال السنباطي الكلثومية. من هنا كان التقاء صوت فيروز وألحان السنباطي حدثاً فنياً كبيراً ونادراً، لا يضاهيه ربما سوى "لقاء السحاب" بين صوت أم كلثوم بألحان محمد عبدالوهاب العام 1964 في أغنية "أنت عمري". ويبدو أن الاسباب السالفة الذكر كانت وراء ابتعاد السيدة فيروز - بتخطيط من الراحل عاصي الرحباني - عن التعاون مع أعلام المدرسة المصرية في التلحين، باستثناء اثنين واحدهما هو أكثر من تأثر بهما عاصي ومنصور الرحباني موسيقياً، وأقصد سيد درويش والثاني محمد عبدالوهاب. فأنشدت فيروز للأول مجموعة مما تركه من تراث منها "زوروني كل سنة مرة" و"الحلوة دي" و"طلعت يا محلا نورها" و"يا شادي الألحان" و"أنا هويت" وأخيراً "أهود ده اللي صار"، فيما أعادت غناء عملين من قديم محمد عبدالوهاب عام 1960 هما "خايف أقول اللي في قلبي" و"يا جارة الوادي" ولحن عبدالوهاب لها ثلاثة أعمال "سهار بعد سهار" شعر الأخوين رحباني، "وسكن الليل" شعر جبران خليل جبران، و"مُرّ بي" شعر سعيد عقل، والأخيرتان قدمتا عام 1967. كما أنشدت فيروز من تراث الملحن المصري داود حسني أغنية "يا ماريا" عام 1966، في مسرحية "أيام فخرالدين"، وأغنية أخرى لحنها لها الملحن الشهير مدحت عاصم في مطلع الخمسينات بعنوان "يا بايع قلبك بالمال". وتعود قصة اللقاء السنباطي - الفيروزي الى أواخر عام 1979 بناء على اقتراح من وزير الإعلام الكويتي السابق الشيخ جابر العلي السالم الصباح للطرفين بتقديم أعمال فنية مشتركة. ورحبت السيدة فيروز بالأمر ولا سيما أنها كانت قد انفصلت للتو عن الاخوين رحباني على الصعيدين الفني والاجتماعي، وتردد أن السيدة فيروز أرادت أن تتحدى من أشاعوا في حينها بأنها لن تقدم أعمالاً فنية ذات قيمة بعد الأخوين رحباني. وعلى الفور بدأت جلسات العمل بين فيروز والسنباطي، وبدأت تمارين التحفيظ، أولاً على قصيدة "بيني وبينك" للشاعر جوزيف حرب، وبعدما انتهى السنباطي من تلحين القصيدة وتحفيظها للسيدة فيروز، أثنى كثيراً على صوتها وأعرب عن سعادته بالتقاء ألحانه بصوتها الذي وصفه بأنه "كامل وينطوي على خامة رائعة، وإحساس شفاف، وقدرة مذهلة على الأداء". ولعلّ أن إعجابه الشديد بصوتها الذي اكتشفه عن قرب وليس بواسطة الكاسيت أو الاسطوانة - هو ما جعله يصرح لأحد الصحافيين بأن "الباقي من عمره هو لصوت فيروز"، لكن السنباطي لم يعرف أن الباقي من عمره قصير. فبعد نحو عامين توفي في التاسع من أيلول سبتمبر 1981. وفي غضون هذه الفترة، أرسل الى السيدة فيروز من القاهرة قصيدتين آخريين بعدما انتهى من تلحينهما. الأولى بعنوان "أمشي إليك" شعر جوزيف حرب، والثانية "آه لو تدري بحالي" وتحمل مفاجأة كونها من تأليف الشاعر المصري الراحل عبدالوهاب محمد. وهي تعد الأغنية الثانية التي يكتبها شاعر مصري خصوصاً لصوت فيروز. وكانت الأولى للشاعر الراحل مرسي جميل عزيز بعنوان "سوف أحيا" سجلتها فيروز في الاذاعة المصرية من ألحان الأخوين رحباني عام 1955. ومنذ رحيل السنباطي والحديث يتردد عن حفلة وشيكة للسيدة فيروز في القاهرة تقدم فيها الأغنيات الثلاث، حتى أن الجمهور المصري أصيب بخيبة أمل لدى حضوره الحفلات التي أحيتها السيدة فيروز عام 1989 في القاهرة عند سفح أهرامات الجيزة، ولم يستمع إلى قصائد السنباطي، رغم إعلان متعهد الحفلات أن القصائد ستكون من ضمن ما ستنشده فيروز. واعتبر البعض أن فيروز فوتت على نفسها وجمهورها فرصة نادرة لتقديم القصائد في الشكل المناسب، زماناً ومكاناً، أي بين الجمهور المصري وعلى أرض مصر. وقبل سنوات عدة طبعت إحدى شركات الكاسيت في القاهرة القصائد الثلاث على أشرطة بصوت رياض السنباطي في مصاحبة آلة العود، وطرحتها في الأسواق، والطريف أن الجمهور الذي أقتنى الكاسيت لم يعرف أنها الأغنيات الخاصة بالسيدة فيروز. وعلمت "الحياة" من مصادر مقربة الى السيدة فيروز بأنها سجلت العام 1985 موسيقى القصائد في استديو بعلبك تحت إشراف المايسترو وليد غلمية، ولكن عند تنفيذ الميكساج أي مزج الصوت مع الموسيقى، اكتشفت فيروز أن التنفيذ الموسيقي سيئ، فأرجأت تسجيل القصائد فترة أخرى من الزمن. وتردد أن السيدة فيروز سجلت قبل نحو أربعة أعوام موسيقى القصائد تحت إشراف الموسيقار توفيق الباشا، ولكن لم يتأكد بعد من اتمام الميكساج، مما يجعل مصير هذه الأغنيات غامضاً، ولا سيما مع تأكيد البعض على أن امكانات فيروز الصوتية اليوم أصبحت أقل كثيراً منها في العام 1980. ومن بين اولئك الفنان أحمد السنباطي نجل الموسيقار الراحل وهو أكثر المعنيين بأمر القصائد الفيروزية وقد أعرب ل"الحياة" عن فقده الأمل في ظهور هذه القصائد بصوت فيروز، وأبدى استياءه الشديد من موقف فيروز تجاه هذه الأعمال، التي أهملتها، حسب تعبيره، طوال هذه السنوات، وموقفها تجاهه هو، شخصياً. يقول: "طوال 20 عاماً وأنا أسعى وراء السيدة فيروز واتصل بها للاستفسار عن مصير هذه الألحان ولا اتصال واحد منها ولا خطاب، هذه الأعمال النادرة لها اعتبار، هل يجوز لها أن تسجلها وتنفذها من دون الرجوع إليّ وتسجيلها تحت إشرافي فنياً، باعتباري نجل السنباطي صاحب الأعمال وممثل الورثة؟". وقال السنباطي بأسى: "لم أكن أتوقع من فنانة كبيرة وحساسة مثل فيروز أن يصدر عنها مثل هذا التصرف، وأنا أشهد الرأي العام في العالم العربي، هل يعقل أن تحجب فنانة كبيرة في حجمها أعمالاً فنية عظيمة كهذه عن جمهورها طوال هذا الوقت وتتجاهل القائمين على العمل؟". ودعني أتساءل: "هل يا سيدة فيروز أنت قادرة اليوم على أداء هذه الصروح الفنية خير قيام كما كان يراها السنباطي قبل 20 عاماً؟". واضاف السنباطي: "اتخذت قبل فترة خطوة ايجابية في هذا الشأن، فقد أعلنت إحدى القنوات الفضائية العربية أن السيدة فيروز في صدد الدخول الى الاستديو لتسجيل أعمال السنباطي، فما كان مني إلا أن أرسلت انذاراً إليها في بيروت عن طريق جمعية المؤلفين والملحنين المصرية بتاريخ 12 تشرين الثاني نوفمبر 1996 هذا نصه: إلى الفنانة الكبيرة السيدة فيروز المولودة نهاد حداد، جمعية المؤلفين والملحنين اللبنانية - بناية سكالا - فرن الشباك - بيروت: "بناء على الشكوى المقدمة لنا من ورثة الموسيقار الكبير رياض السنباطي، ننبهكم بعدم تسجيل أي لحن من ألحانه بصوتكم إلا بعد الحصول على إذن كتابي من الورثة والتصريح لكم بهذا التسجيل، علماً بأن مخالفتكم لهذا القانون تستوجب عقابكم بالحبس والغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه مصري عن كل أغنية ومصادرة الأعمال المعتدى عليها ومسؤوليتكم عن التعويض المدني عن الأضرار التي تلحق بالتركة الفنية للموسيقار الراحل رياض السنباطي". توقيع محمود لطفي مستشار جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين في مصر 10 شارع الألفي القاهرة". ويتابع السنباطي قائلاً: "لم تدفع فيروز مقابلاً مادياً لهذه القصائد لأنها كانت هدية من والدي لها، وبما أنها لم تصن هذه الهدية، ولم تضع اعتباراً لورثته، أعلن بأني سحبت الهدية، التي أهداها الوالد إياها. ولحسن حظي وحظ فيروز والجماهير العربية أني اكتشفت في مكتبة والدي شريطاً نادراً مسجلاً عليه تمرين تحفيظ قصيدة "بيني وبينك" في أداء مشترك بين فيروز والسنباطي وهو يحفظها اللحن على آلة العود، والتسجيل غاية في الروعة والجمال والنقاء الصوتي وهو تسجيل لا يقدر بثمن، وقيمته الحقيقية في وجوده في زمننا هذا. وقررت احتراماً مني للجمهور أن اصدره في ألبوم كهدية مني بل واحتراماً مني لتراث السنباطي. واعتبر أن حجب مثل هذا العمل جريمة. وكان مقرراً أن ينزل الى الاسواق في ذكرى رحيل السنباطي الشهر الماضي، لكني أرجأت الأمر قليلاً لدراسة غير عرض قدمته لي شركات الكاسيت والاسطوانات". أما قصيدتا "أمشي إليك" و"الآهات" فسوف اقدمهما في وقت لاحق بصوت مطربة ناشئة اسمها "وسام" تتمتع بامكانات صوتية جيدة. وسألنا من جهتنا عن أحقية السنباطي القانونية في إصدار قصيدة "بيني وبينك" مستشار جمعية المؤلفين والملحنين المصرية محمود لطفي فأكد على "أن القانون المصري لا يحمي سوى العمل الفني المتكامل، أي الأغنية في صورتها النهائية التي تخرج فيها إلى الجمهور، والكاسيت الذي سيصدره السنباطي يحوي تمريناً للأغنية، أي كاسيت تحفيظ من دون فرقة موسيقية، الملحن يقول الجملة والمطربة ترددها خلفه، هنا لا نستطيع أن نعتبره عملاً فنياً متكاملاً يحميه القانون ويحمي حقوق أصحابه". ويضيف لطفي: "إن ورثة عبدالحليم حافظ استغلوا هذا النص القانوني، وطبعوا شريط تمرين أو تحفيظ اغنية "من غير ليه" بصوت عبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب ملحنها وهو يحفظه الأغنية، ولم تستطع شركة "صوت الفن" المحتكرة لأعمال عبدالحليم وصاحبة الحق الوحيد في طبع الأغنية أن تعترض على تلك البادرة".