انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «الأونروا» : النهب يفاقم مأساة غزة مع اقتراب شبح المجاعة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    م. الرميح رئيساً لبلدية الخرج    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «الأنسنة» في تطوير الرياض رؤية حضارية    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    إطلالة على الزمن القديم    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في مقابلة خاصة صريحة وشاملة عن الرحابنة وفنها . فيروز لپ"الوسط": عاصي ديكتاتور كريم حتى الفقر منصور داهية يثير الضحك زياد متمرد له المستقبل وأنا أحن الى أيام الفرح والطمأنينة
نشر في الحياة يوم 30 - 11 - 1992

يؤخذ على الفنانة اللبنانية الكبيرة فيروز ندرة مقابلاتها الاعلامية، المسموعة والمرئية والمكتوبة، الامر الذي جعل معظم اهل الصحافة يكتبون عنها وعن ظاهرتها بشكل سطحي بعيد عن الدقة والموضوعية تارة وظالماً في تارات مختلفة. وهذا ما ولّد الشك والريبة بين فيروز والاعلام، وجعلها مقلة وبخيلة في الكلام حتى الصمت.
"الوسط" زارت فيروز في منزلها في بلدة الرابية اللبنانية وتحدثت معها في العمق، كما لم تحاور من قبل، وكان التحقيق الآتي الشامل:
أيام الاخوين رحباني كان الحديث الصحافي مِ فيروز قليلاً ان لم نقل نادراً. فقبطان السفينة الاعلامية كان عاصي، اما منصور فكان الرديف لوجوده الدائم الى جانب عاصي. وفيروز كانت اطلالتها على المسرح كفيلة بأن تحكي كل "القصة".
هذا التوزيع الاوركسترالي للادوار الذي كان يقوده المايسترو عاصي رحباني صار منهجاً اعتمدته المؤسسة الفيروزية - الرحبانية وعمدت فيروز الى تطبيقه بعد رحيل زوجها.
نادراً ما أجرت احاديث صحافية او تحدثت الى صحافيين. مقابلاتها الاعلامية على الاذاعة او التلفزيون كانت شحيحة منذ العصر الرحباني الاول - باعتبار زياد رحباني اليوم عصراً رحبانياً ثانياً -، اخرها كان مقابلة على التلفزيون الفرنسي بمناسبة تقليدها اعلى وسام وتسليمها مفتاح "باريس" مدينة الفن والحب، بعد حفلة احيتها على مسرح "بيرسي". اما ظهورها الاجتماعي فهو أشح.
باختصار، لا تتعامل فيروز مع الاضواء الا حين تمتشق صوتها امام الآلاف المتجمعة لسماعها اينما حلت. لذلك كان التحدث عنها دائماً يغلب التحدث اليها. وان صادف ونشرت احدى المطبوعات مقابلة معها فيكون صاحبها قام بترتيبها بشكل "دردشة" اجتماعية غالباً ما تبتعد عن اجواء فيروز الداخلية وعوالمها الفنية.
كثيرون في الاوساط الصحافية اوجدوا لعلاقة فيروز بالاعلام تفسيرات وتعليلات عديدة وذهب البعض الى تسيير الاعتقاد بأن سيدة المقام مترفعة عن الاعلام ولا تبالي بهذه الوسيلة التي تتوج كل السلطات حتى باتت تصنع النجوم ورؤساء الدول.
لكن في عالم فيروز الصورة تختلف اذ ان اعمال الفنان هي التي تصنعه واعلام اليوم يبحث عمن يصنع! هذه الفكرة اتضحت اكثر لما بدأ حديثنا بپ"تصفية الحسابات" الاعلامية. فطرحت معها سبب غيابها التاريخي عن الاعلام او بتعبير اصح، ندرة حضورها الشخصي في احاديث اذاعية او تلفزيونية. اعتبرت فيروز ببساطة، ان انتاجها خير دليل على كلامها!
حديث يتلقفه الوجدان
منذ بدايته لم يأخذ حواري معها صيغة حديث صحافي. وكأنما المقابلة زيارة تعارف خارج ضوضاء النجومية… رغم أن الحديث كان مع فيروز!
لذلك لم اكدس على اوراقي اسئلة صالونية من نوع "ما لونك المفضل؟ ومن يعجبك من مصممي الازياء؟" ولا اسئلة من فئة "نزولاً عند رغبة الجماهير" كسؤال حول نظرتها في الحب او رأيها بالامومة او بفلانة من المطربات الصاعدات.
كان لا بد للحوار مع فيروز ان يبحر الى ابعد من ذلك.
فالمقام الفيروزي يختزن في خوابيه عصرين فنيين غنيين بإبداعهما، عصر الاخوين رحباني وعصر زياد رحباني. عصران عمرهما من عمر قضايا الوطن. واجواؤهما حملتا انفاسه واحلام ناسه: واليوم كأنما تاريخها يرفض الانحناء للازمنة الرديئة. استمر بإستمرار صاحبة المقام فيروز اكانت طاقتها محملة بزخم عاصي- منصور او بزخم زياد.
هذه "الثلاثية الرحبانية" وفيروز كان الجو الذي لبس غالبية اسئلتي لما قرعت جرس البيت في الرابية الذي كتب عليه بوضوح: "عاصي رحباني".
أطلت فيروز بهدوء وكأنما فتحت عتبة خلوة كانت تساكن فيها نوعاً من انتظار لا يعرفه الا فنان اصيل شفاف. ولپ"طلتها" دائماً وقع مميز اذ انها تدخل على زائرها برصانة متماسكة ولا تنطلق على سجيتها الا بعد ان تتلمس جو الاسئلة وجو السائل معاً!
ولفيروز مفهوم خاص للمقابلة الصحافية. فهي تفضل ان يكون الحديث "على الطبيعة" دون آلات تسجيل وتصوير "لان اهم الكلام واصدقه هو ما يتلقفه الوجدان ولا بد للمحبين ان يوصلوا الامانة بالروحية نفسها" تقول ببساطة. وببساطة مماثلة اوقف شريط التسجيل لاسألها عن سبب غيابها. فمن الواضح افتقاد اللبنانيين لاطلالة فيروز. كمن ينتظر منبعاً اخر من الطمأنينة غير الذي صنعه صمت المدافع وعودة الامن.
تحني فيروز عيونها وتغوص قليلاً في مكان ما في الذاكرة، ثم ترفع صوت التلفزيون الذي كان يدور صورة دون صوت. كانت مذيعة البرنامج "ترندح" اثناء مقابلتها لفنان شاب من "الجيل الصاعد" الذي كان يدوزن لها على عوده وهو يصر على "مناطحة" نجومية اطلالته التلفزيونية!
"كوميديا" كان تعليق فيروز وتخفت الصوت الآلي من جديد. وصلني مقصد التعليق وتركت "الست" - كما درجت تسميتها - تقود الحديث على سجيتها: "سأطل عندما اقتنع بذلك للفن شروط لا أتنازل عنها. واعرف لبنان كثيراً. اعرف متى اغني ومتى لا اغني. هكذا كنت وهكذا سأبقى. صوتي حرسته صلوات الناس وحبهم يصونه".
على الرغم من حلقات الحرب المتعاقبة لم تترك فيروز الوطن ولا ناسه. لم تختر اياً من الديار المهجرية الواسعة مسكناً لها كما لم تفقد بوصلة التواصل مع محبيها اينما توزعوا. صوتها كان الحنين والعنفوان طيلة حرب كانت تلد في كل يوم وخلال 15 سنة، حرباً جديدة اخرى.
كالخبز اغنياتها. تغذى منها كل الناطقين بلغتها اكانوا مقيمين في الوطن او موزعين في مهاجر العالم وعواصمه وتوحدت فيها الاجيال، اجيال الحرب وما قبلها. في لبنان يطل دائماً صوت فيروز كيفما ادرت ابرة الاذاعات او قنوات التلفزيون. يطلع الصوت ويغور في القلب والاذن. اما عبر الحدود فيحضر الوطن وتعبق الاجواء به لما يحضر صوت فيروز.
تختزن "الثلاثية الرحبانية"
وجليس فيروز غالباً ما يلاحظ ان كلامها يتم على شكل "نقلات" قاطعة، موجزة فيها الرمزية الشعرية كما فيها المباشر الصريح. وهي ممن يجد ان الكلام ما قلّ ودلّ لكن لا غنى عن "سحبات" وجدانية وان بقيت موجزة، كما عندما تحدثت عن "الثلاثية الرحبانية". عن عاصي ومنصور وزياد. تتكلم ببساطة عفوية بعيدة عن "السفسطة". شفافة ودقيقة في الاصغاء كمن يسمع بأذن موسيقية. فالكلمات في عالمها كالپ"نوتات" يرسلها الوجدان الداخلي. لا تحب "اللف والدوران" وقاطعة اذا ما تواجهت بإصطناعية او بغير "لغة المحبين" كما تقول. مزاجياتها واضحة وحرة. اما النبرة الفيروزية فأمر وارد لكنه لا يدوس على حق احد. في ذلك رأى البعض عجرفة وقد غاب عنهم انسان فيروز الذي قطف على دربه الخبز والورد كما قطف الاشواك.
ولما سألت فيروز عن هذا الدرب اجابت بصورة رمزية وتحدثت عن "عمال المناجم الذين يعملون تحت الارض، ينقبون طيلة حياتهم وهم بالنهاية لا يعتمرون الضوء على قبعاتهم كما تراهم اكثرية الناس بل في قلوبهم".
من "عتاب" لعاصي رحباني في الپ52 الى "معرفتي فيك" و"كيفك انت" لزياد رحباني في الپ91. ربما اكثر من الف أغنية وقصيدة ومغناة واربعين عاماً من العمل والجهد كانت فيروز عبرها ترتشف احاسيس الناس فتغنيها وتعبق حنجرة وجدانها بطقوس الارض - الوطن موشحاً وقصيدة ومقاماً.
وفيروز الآن اكثر من اي يوم مضى تختزن، وحدها، تلك "الثلاثية الرحبانية" ارثاً وطاقة. وقد قيم هذه الظاهرة "الفيروزية - الرحبانية" علي جهاد الراسي احد ابرز الباحثين في الموسيقى الشرقية في جامعة كاليفورنيا الاميركية والمتخصص في علم الموسيقى الاثنية في مقال صدر عام 81 في كتاب بعنوان: "فيروز: الاسطورة والارث" * 1 اعتبر فيه "ان الارث الشعري - الموسيقي للرحابنة وفيروز… امتلك قيماً فنية استطاعت ان تجذب اليه السامعين من مشارب اجتماعية ووطنية ومن خلفيات فكرية متنوعة. واصبحت فيروز بالنسبة للبنانيين والعرب رمز التحديث ومثال الفنان الذي حافظ على مقامه واحترم نفسه وموقعه… لم يتحجر فن فيروز ولم يركد اذ ان الطلاقة والرؤيا اللتين تختزنهما قدرتها الفنية، مكنتاها من التفاعل مع مناخات اجتماعية وفنية مختلفة".
لم تتوقف فيروز عن العمل ولم تتحجر طاقتها الفنية. استمرت دورة الانتاج وقدمت فيروز "نقلاتها" النوعية الجديدة مع زياد حاملة عبر صوتها زمن الاخوين رحباني وزياد رحباني. وكلاهما زمان لا ينضب ابداعاً وتجديداً. كالسحر يشدك الى مناخاته ورموزه مهما تنوعت واختلفت.
العصر الرحباني الاول
"لعلني الانسان الوحيد الذي يعرف اسرار اعمال الاخوين رحباني: ايهما اهم؟ من كتب اكثر؟ من لحن اكثر؟ هذا الكلام او هذا اللحن او هذه المسرحية لمن؟" هكذا افتتحت فيروز حديثها مع "الوسط" عن العصر الرحباني الاول. فذكرت ان "عاصي قرر ان تكون اعماله واعمال منصور تحت اسم "الاخوين رحباني" وكان على الجميع ان يحترم هذا القرار وهذه الرغبة. وقد تداخل عاصي ومنصور في اعمال كل منهما حتى اصبحا واحداً". وتابعت قائلة: "واذا كان اسم عاصي مذكوراً دائماً قبل اسم منصور فلأن الجميع يعلم بأن عاصي هو دائماً الاول. وهذا امر لا يسقط ابداً من قيمة منصور. لا بد ان نبدأ بإسم. ولكن، على هذا الاسم ان يستحق البدء به. وهذا ما استحقه عاصي. الاساس عاصي وكل البناء وما فيه للاخوين. من أكثر؟ من أقل؟ فلا علاقة لأحد بهذا الأمر حتى أنا".
الشيخ فايز مكارم الذي كان يشغل مركز مدير الاذاعة يوم دخل عليه عاصي رحباني وحليم الرومي يبشرانه باكتشافهما لصوت فريد من نوع تميزت خامته عن بقية اصوات كورس الاذاعة، شهد بدايات فيروز وتحدث الينا عن "اجتهادها الدؤوب والصابر في صقل الصوت والاداء بتوجيه متواصل من قبل عاصي الذي كان قاسياً في احيان كثيرة على تلك الموهبة الفتية" ويعتبر المدير السابق للاذاعة ان "هذه الست اكرمت وزوجها، الاذاعة اللبنانية. وانتاجهما فاض ليغمر المساحة الاغنى والاهم قيمة في تسجيلات الاذاعة حتى اليوم. ففيروز والأخوين رحباني هبة وخدمة لهذا البلد لا تثمّنان".
بداية الشرارة الفيروزية - الرحبانية كان العام 1952 بأغنية "عتاب" وفي صيف 1957 وقفت فيروز في بعلبك للمرة الاولى وأحيت اولى حفلاتها الجماهيرية "أيام الحصاد" التي أنذرت ببدء تكوين مسرح الرحبانيين الغنائي. وأتت "البعلبكية" في 1961 لتشيكل باكورة اعمال الاخوين رحباني وفيروز في المسرح الغنائي. منذ ذلك التاريخ صارت طلة فيروز في بعلبك طقساً فنياً ووطنياً. وتألق مسرح الاخوين رحباني عبر سلسلة مسرحيات غنائية: "جسر القمر" 1962، "الليل والقنديل" 1963، "بياع الخواتم" 1964، "جبال الصوان" 1965، "هالة والملك" 1966، "أيام فخر الدين" 1967، "الشخص" 1969، "يعيش، يعيش" 1970، "صح النوم" 1971، "ناس من ورق" 1972، "المحطة" 1973 ثم "ميس الريم" 1974 ومسك الختام "بترا" 1977 جميعها كرس المسرح الرحباني مدرسة فنية فريدة، قلّ من أفلت من نفوذ ابداعها.
وعلى الرغم من ان الاخوين رحباني قدما اعمالاً مسرحية وغنائية مع صباح ورونزا واستمر فيما بعد منصور رحباني بعد رحيل عاصي فقدم مغناتين - احداهما "صيف 83" - الا ان ما بقي في ذاكرة الناس وخلّد، كانت تلك الاعمال المشتركة التي جمعت فيروز والرحبانيين!
عن اعمال الرحبانيين بعد الانفصال وفرط العقد الفيروزي - الرحباني كان تعليق فيروز معبراً وصريحاً: "اذكر ان منصور يقول ان هذه الاعمال - أي تلك التي تمت من دون فيروز - أهم وأروع وأنجح، كلمة وتوزيعاً، من الاعمال السابقة. فأين هي هذه الأعمال اليوم؟"
عاصي في عيون فيروز
في حضرة فيروز يصعب تغييب عاصي. فالرجل رغم رحيله لا يغيب.
في دارتهما في الرابية، كان هو الجليس الثالث، يبحر بعينيه الحاضرتين أبداً من صورة تتصدر الصالون.
وعلاقة فيروز بعاصي رحباني كانت مشوارا شاقاً وأخاذاً. فيه المر والحلو. عمر حصد الامجاد ودفع ضريبتها تضحيات وعذابات عميقة. في كافة الاحوال كنت قررت ألا أدخل في حيز علاقتهما الزوجية، وفضلت ان أجول مع فيروز في عالم عاصي الفنان الذي أخصب قدرتها الفنية بكنوز ربما لأزمنة لم تأت بعد.
أعطاها بوصلته وأسكنها مدارات ابداعه. لكن الفانوس انفجر بفعل ضوئه وخرج منه ذلك المارد الى افلاك اخرى بعيدة عن تلك الأرض الصغرى التي طالما عشق ضيعها وأهلها والقيم التي تعبق بها.
بالنسبة لفيروز بقي "فناناً عظيماً وإنساناً يمتلك نفسية طيبة مفتوحة كالكف الابيض ولا حدود لعطائها". لكنها وهي التي اختبرت عاصي الانسان كما الفنان تدرك في الوقت نفسه ان "عاصي كان ديكتاتورياً في الفن دائماً. هناك قرار يجب ان يأخذه أحد. وهذا الاحد كان دائماً عاصي. دائماً كان هناك الكلمة الاخيرة في النص الغنائي والموسيقي والمسرحي والاخراجي. هذه الكلمة الاخيرة كانت دائماً لعاصي. وتضيف "كان المؤلف في أغلب الاحيان وكان المقرر في كل الاحيان. سلطته لا يتجرأ أحد على ان يعترضها".
أوساط عديدة تحدثت عن قسوة عاصي في التعامل مع فيروز اثناء التدريبات وفي الكواليس، كثيراً ما كانت تؤدي الى مواقف عنيفة. الا ان فيروز ترى ان "طبيعة العمل كانت تفرض قسوة، وعلى الجميع كان يمارسها" لتضيف قائلة: "قد أكون انا وعاصي على خلاف قوي في الكواليس الا انه عندما اخرج الى المسرح وأبدأ بالغناء يتحول عاصي الى عاشق!"
وأترك "الست" تتحدث عن عاصي على سجيتها وتعيد احياءه: "عندما كان يؤلف، لم يكن يأكل ولا يشرب ولا يستريح. كان سريعاً في الكتابة. والمشهد الذي يعذبه يتجاوزه الى مشهد آخر ثم يعود اليه. عندما ينتهي من قطعة ما أو جملة موسيقية أو أغنية ينصرف الى أطيب المآكل".
وتجول فيروز في العوالم الباطنة التي شغلت عاصي الذي "كان دائماً مشدوداً الى عالم آخر، الى وطن يرسمه اجمل من كل الاوطان. كان كثير الاسئلة. يصيب الجميع بالارهاق وهو "يشارعهم" اي يجادلهم وكان يلقّب نفسه بپ"المشارعجي". كان يحاول ان يجد جواباً عن كل شيء. اجوبة الآخرين غالباً ما كانت غير مقنعة وعميقة بالنسبة اليه. كان يستدرج الجميع عبر الاسئلة لأن جواباً ما يريد ان يعرفه وحده. جاء ليعرف كما كان دائماً يردد: "جينا تا نعرف" لذلك كان كثير الشك والقلق وهو مأخوذ بأشياء لا يعرف ما هي. ينظر الى شجرة ولا يراها. يتطلع دائماً الى مكان غير موجود".
حتى التفضيلات الخاصة به كانت فيروز تعيد رسمها فتذكر انه "كان يكره الزهرة اذا كان لونها نيلياً مثلاً والنكتة اذا كان فيها موت. كان يحب الاغنية القصيرة اذ ان الاغنية الطويلة بنظره كانت مملة وغير عصرية. وهو كان مأخوذاً دائماً بعالم من النور والفرح والغفران والسلام".
بقي ان "لا رجل له دمعة بجمال دمعة عاصي". هكذا اضاءت فيروز على الكنز في قلب الفنان العظيم.
أما عاصي مع الآخرين فتراه فيروز "كريماً حتى الطفر الفقر. كان يغني أوبرا ليضحكني. كل الاشياء التي كنت احبها كتبها لي من "ستي" الى "شجرة الحور" الى "الدبية"، قرية أمي. مرة كان جالساً هو وليال على الشباك المطل على البحر، سأل ليال: كم تحبيني؟ فقالت له: شايف البحر شو كبير. قد البحر بحبك. فتحولت الى أغنية. احب منصور حتى لا يشعر بالضياع. لما يغيب منصور كان يطلبه الى جانبه". بالنسبة لاصحابه وأفراد عائلته كان عاصي، تتابع فيروز، "الحائط، وهكذا كان يسمي نفسه. الجميع استند اليه. والجميع احتمى به. والجميع استراح اليه. اعطى حبه للجميع. اسمه للجميع. وأكثر من يعرف ذلك هو منصور".
"الترويكا" الرحبانية
وفيروز هي الوحيدة التي تستطيع ان تتساوى ومنصور من حيث القرابة الوثيقة لعاصي الانسان - الفنان. فكان الثلاثة في رفقة متواصلة، يلهون ويشقون ويشحنون معاً الأعصاب والعواطف والقدرات. فتعيد فيروز بعضاً من فصول تلك الرفقة:
"كنا نخاف معا ونفرح معاً. عندما نكون عائدين من المسرح في سيارة واحدة، عاصي ومنصور يجلسان في المقعدين الأماميين وأنا في المقعد الخلفي استريح عليه. ونضحك حتى نضطر الى تسكير الزجاج. ولا يوقف هذا الضحك الا طريقة قيادة السيارة. وكان اكثر الايام منصور هو السائق". لكنها تضيف: "ضحكت مع منصور اكثر مما ضحكت مع عاصي. كنا معاً تحت سلطان ذاك الفنان العظيم الذي اسمه عاصي الرحباني".
اما تحالف الاخوين رحباني فتصفه فيروز بتحالف متراص رغم التطرف في اختلاف الواحد منهما عن الآخر اذ تقول: "يخططان ضدك معاً: عاصي فيه القليل من الأذى ومنصور فيه الكثير من الدهاء. منصور يتقن اخفاء ضعفه وعاصي يعلن ضعفه".
وكنت قرأت في الآونة الاخيرة في احدى المجلات ان هناك دعوة لاعادة التعاون مع فيروز من قبل منصور. ازاء هذا الطرح، صفنت فيروز دون ان تستبعد حدوث أي شيء. معها لا شيء مستحيل. فالجليس يستشف دائماً من كلامها ان الاطلالة الفيروزية فراشة في شرنقة تتجنح للانطلاق.
هل تفتح ملف منصور؟ قالت: "لم يستطع منصور ان يكون معي وسطاً في التعاون الفني. اما كل شيء وإما لا شيء. وهو يحب ان تكون علاقته معي اليوم كتلفون "كحلون" بعد انتهائي من أغنية "ستي يا ستي".
ولا تخفي فيروز مساهمة منصور في شحن قدرتها الفنية "فالكلام الذي غنيته له هو الذي ساعدني على ان يكون وجهي وتكون اعماقي قريبين من الشعور بطقوس الحب الطاهرة" وهي ترى في منصور "موسيقي، شرقي، ارستقراطي ومؤمن. يحب الجمل التي يصفق لها الناس او يضحكون لها ليطمئن الى انه استطاع ان يصل الى اعماقهم - عاصي كان يرفض ذلك". جملة اعتراضية وتتابع: "كل ما في روح منصور من شعر يشبه جمال البرية في ايلول سبتمبر. آخر الصيف منصور. أول الشتي منصور. وهو أجمل من كتب عن العمر".
العصر الرحباني الآخر.
رحل عاصي وتصدعت المؤسسة الرحبانية التي شيدها. واليوم تعمل فيروز يرافقها زياد رحباني على اعادة بناء تلك المؤسسة التي تجسد طاقة عاصي وتطلعاته الفنية السباقة، تلك التي تجاوزت حدود زمانه ولم يحصرها حتى عقله الخلاق.
وعلاقة فيروز بزياد الفنان واحة راحة وموطن انتماء واقتناع. لذلك تقول قول المؤمن: "المستقبل لزياد انها المرة الاولى في العالم العربي التي يأتي فيها موسيقي يدعو الناس لسماع الموسيقى مع الاغنية، وهو يريد ان يجعل من الموسيقى الشرقية العربية موسيقى عالمية. كيف؟ بأي طريقة؟ هذا الامر عائد الى مدى قدرته على الابداع. وهو يتمتع بهذه المقدرة".
وبين فيروز وزياد تواصل لا سيما في مساحات المرح والضحك والسخرية من الاعوجاج والزيف والمتحجر والسائد. وقد قال البعض ان زياد ورث عن ابيه قدرته على الابداع ومن امه قدرته على النكتة المثيرة والسخرية المرحة على الرغم من ان الفكرة السائدة عن فيروز انها قلما تضحك!
عند الاشارة الى هذا الملمح في زياد ضحكت فيروز وعللت ان "هناك شخصية لفيروز لو لم تكن قريبة جداً من صورة المرأة في ذهن عاصي - خاصة المرأة التي تمثل الفكرة الاساسية على مسرح الاخوين رحباني - لما استطاع عاصي ان يكتبها ولما استطاعت فيروز ان تجسدها"، ولكن، تتابع قائلة "هناك دائما انسان آخر هو انت، تخبئينه في داخلك. هذا الانسان الذي غالبا ما اخبئه والذي هو انا، شبيه جداً بزياد. وعندما يلعب زياد دوره على المسرح، انا وزياد وحدنا نعرف انه قد يكون مكاني على المقعد وقد اكون انا مكانه على المسرح". كان لابد ان تبدع وحدة الحال هذه بين فيروز وزياد مداراً فنياً جديداً يضاف الى مدارات فيروز الرحبانية. وصارت فيروز في أذهان الناس فيروزين: فيروز الاخوين رحباني وفيروز زياد رحباني. كل منهما يشكل زمناً وجواً وفكراً واتجاهاً وما يجمع بينهما هو ذلك الابداع السباق ابداً والذي ربما بقيت مفاتيحه تتوزع ضمن البيت الرحباني بالتحديد بيت عاصي.
وتذكر فيروز اول حضور مشترك مع زياد حين لبت دعوة لاقامة حفلة في لندن وكانت يومها تعيش في المستشفى الى جانب عاصي. "لم يكن هناك وقت للتمارين ولكن من حسن الحظ ان قائد الاوركسترا البريطاني كان من المطلعين والمتذوقين لفننا فاكتفى الجميع بتمرين قصير يوم الافتتاح. في تلك الجولة رافقني زياد وقد شعرت بوجدان الناس في القاعة الذي عبر عن ارتياحهم وحماسهم لحضورنا معاً في عمل واحد".
ترتاح فيروز للتعاون الفني مع زياد وتعتبر ان اعمالهما المشتركة "وصلت الى الناس واثرت بهم". و"معرفتي فيك" كان العمل الاول لقي صدى كبيراً".
سبق هذا الانتاج المشترك الاول مجموعة موسيقية غنائية للاخوين رحباني اعاد توزيعها الموسيقي زياد وغنتها فيروز في حفلاتها خارج الوطن. وفي العام الما ضي نزلت الى الاسواق كاسيت "كيفك انت" لفيروز وزياد التي تداولت اغنياتها اوساط الشباب او جيل الحرب كما درجت تسميته، فصارت ايقاعاً لغوياً في دوائر شعبية متنوعة. فيها كشفت فيروز عن طبقات صوتية واجواء تعبيرية جديدة لم يعهدها الناس بها من قبل. فالموسيقى الرقيقة التي غنتها لعاصي والتي حملت كثيراً من الكلاسيكية الموسيقية الغربية تجددت مع زياد في مناخات الجاز الشرقي الذي يلون هذا العصر الرحباني الثاني.
أعطى زيادة الصوت الفيروزي حقه كما فسح مجالا واسعاً ل"السحبات" الموسيقية الشرقية المطعمة بإيقاعات متنوعة. وصار هناك جو فني مميز وخاص احاط اعمال فيروز - زياد. البعض ربما لانه لم يرد ان يصغي من الاساس، ورفض هذا التغيير عن الارث الفيروزي - الرحباني الاول واعتبره خانقاً لسحبات فيروز الصوتية ومتهكماً على روائع الاخوين رحباني. وقد استخدم هؤلاء مسرحية زياد رحباني "شي فاشل" كوثيقة اثبات. المهم وحسب قواعد الفولكلور الاجتماعي اللبناني تحزبت طائفة من الناس لثنائية فيروز - زياد وبايعت طائفة اخرى العراقة ب "الترويكا" التاريخية فيروز والاخوين رحباني.
عدنا الى المرجع وسألنا فيروز عن رأيها وموقعها من المثار حول "تعددية" خطها الفني. فردت من موقع الخبيرة "بنبض" الناس الذين اعتادت على قطف احاسيسهم وهي تغني لهم. واعتبرت ان "ذاكرة الناس ممتلئة بفيروز مع عاصي. فإذا حاولنا ان نضيف الى هذه الذاكرة فيروز مع زياد، من الطبيعي ان يقف الناس الى جانب فيروز - عاصي".
اما بالنسبة لما اشيع من مهاترات حول زياد وتهكمه على إرث ابيه فعند فيروز اجابة واضحة وحاسمة: مسرحية "شي فاشل" لزياد ليست تهكماً على فن عاصي، وليس "نور" الذي يلعب فيها دور المؤلف والمخرج هو عاصي. الذي انتقده زياد في "شي فاشل" هو العقلية السائدة حتى الآن في الفن اللبناني والحياة اللبنانية". اما علاقة زياد بعاصي فتلخصها بقفلة كلمات بسيطة تقول كل شيء: "أحب زياد عاصي كما لم يحد احد اباه. وقد رفض الاشتراك في كل حفلات تكريم عاصي اذ اعتبرها تافهة جداً ولا تتعدى كونها مناسبة لظهور الخطباء على المنابر".
ولا غرابة في ذلك. فتكريم زياد رحباني لعاصي رحباني لا بد ان يتم عبر اللغة الرحبانية التي تكلم بها عاصي والتي ساكن اجواءها وعوالمها زياد. لذا اعتبر زياد رحباني ان اهم تكريم للفنان العظيم هو باعادة توزيع ألحانه. فاختار من الحان عاصي رحباني 25 لحناً تعبر عن مراحل الابداع عند عاصي. قام بتوزيعها من جديد وبتسجيلها على حسابه الخاص في اليونان. هذا الانتاج التكريمي لعاصي من زياد سينزل الى الاسواق قريباً.
وفي هذه العلاقة بين عاصي وزياد رحباني التي تضم في آن معاً تواصلاً وتنافراً نظرتان مختلفتان لفيروز. كل منهما نظر اليها وعمل معها من مداره او جوه الخاص.
"نظرة زياد اليّ، تقول فيروز، فيها الكثير من التمرد والشعبية والمستقبلية والعالمية. هذا الذي يراه ويستحضره في. ولن انتظر من زياد الا ان يمارس نفسه عبر شخصيته هو وهي تبني الحانها وموسيقاها للاجيال الآتية. وهذا ما احب الذهاب معه اليه".
في مخاض الابداع لا بد لجرأة مبدعة ايضاً. وفيروز مع زياد في هذا الموقع. لهذا تجد انه "من الطبيعي ان يقف المستمع اليوم الى فيروز بالحان زياد، موقف الرافض وموقف الموافق".
ومن الصعب بل وربما من غير الطبيعي الفصل بين فيروز الفنانة وفيروز الانسانة والام. في حديثها عن عاصي لا يغيب "سلطان ذلك الفنان العظيم". اما في حديثها عن زياد فلا تغيب فيروز عن عاطفة الامومة. تحكي عن زياد الابن كما عن زياد السند وزياد الحضور المرح ابداً. "فالحرب، كما تقول، لم تستطع ان تسرق ضحكته الساخرة. اما زياد الابن فهو "حنون رقيق. يفكر بنا، يحمل الي هدايا تضحكني، ويحب ريما ويخترع لاخيه هلي العاباً مسلية ومضحكة". ولا تخفي فيروز احترامها وفهمها لاستقلاليته ف"زياد ترك البيت لانه ضاق عليه كحرية شخصية. ولم تكن مغادرته للبيت العائلي الا رغبة في تحقيق ذاته وطموحاته". لذلك بقيت علاقتها معه كأم "علاقة مريحة". تعود اليه في امور كثيرة. وهو يأخذ بعين الاعتبار آراءها وافكارها. "رغم ان اعماقه تضج بألف ثورة الا انها لا تحمل اي ثورة ضدي او ضد عاصي". تختم كمن يضع النقاط الاخيرة على كل ما قيل في هذا الموضوع.
الطريق الى المصاف العالمي
ويخطئ من يعتقد ان فيروز تستكين. لما قابلتها في المرة الاولى كانت ترتدي جبة التأمل، تبدو وكأنها في حالة من انتظار يطوي تأهباً آتياً. الاحتمالات كثيرة. هناك من يقول بأن نقلة اخرى لفيروز مع زياد تتبلور. هذه المرة باتجاه خشبة المسرح. وقد ألمحت في حديثها عن تواصلها مع زياد مسرحياً. ففيروز صوت ينبع من بواطن الروح ولكنها ايضا حضور رسخ مكانته في المسرح الرحباني. لذا كان من الصعب احياناً كثيرة خلال الحديث من "تفريغ" فيروز - اذا جاز التعبير - من الادوار التي قامت بها في المغناة الرحبانية حيث كان الملكة القادرة التي لا تحني الجبين وبنت الناس الطيبة التي تحب الفرح والمحبة ولا تغيب عنها حكمة الدنيا. وتميزت فيروز على المسرح كما في وقفتها الغنائية بتلك "النبرة" الجريئة والصلبة بإيمانها.
وقد توقفت فيروز عند هذا لما اشارت في حديثها الى ان الناس في اغلب الاحيان يرونها ب "عيون الاغنية او الادوار على المسرح" هل كادت تضيف "فقط" الى ملاحظتها هذه؟ لم تقلها. ولكن عند فيروز حنين عتيق دائم لاجواء ايام مضت. فتتحدث عن تلك الايام "للفرح الذي كان فيها وللطمأنينة" كما تصفها. مما يشعر جليسها - اذا كان من الذين يتلقفون الوجدان قبل الكلمة - بأن بين فيروز - الاسم الذي البسها اياه الفنان الراحل حليم الرومي - ونهاد حداد - اسم فيروز الاول - انسان يتجدد في دروبه ولا يطلب سوى الامان!
وان اطلت فيروز على ناسها ام تأخرت قليلاً فهي ابداً حاضرة كالاسطورة. حافظت على مقامها واحترمت موقعها - كما كتب عنها علي جهاد الراسي، الباحث في الموسيقى الشرقية. كانت "سفيرة لبنان الى النجوم" كما اسماها الشاعر سعيد عقل بل اكثر. صارت رمز لبنان وبقائه.
لما تهاوى البلد بقي حياً في ذلك الرمز! لا مهرب من المناخ الشعري في الحديث عنها. ف"سلطان الفنان العظيم" عاصي اغرق الاجواء بطاقته وما زال يملأ الذاكرة ويغني قدرة فيروز. كتب عنها ولها كبار الشعراء وقد قال فيها احدهم: فيروز اكبر من فنها كما شكسبير اكبر من مسرحه وتولستوي اكبر من رواياته". ألم تقف فيروز على حدود العالم في خريف ال81 حين امتشقت صوتها في مقر منظمة الامم المتحدة امام مجموعة الدول العظمى تنقل رسالة وطن يريد الحياة والحرية. يومها قبل ان يرفع المايسترو جوزيف إيغر، مؤسس وقائد اوركسترا منظمة الامم المتحدة عصاه ليرافق فيروز، توجه الى الحضور قائلا: "يشرفني ان ألفت انظار الجمهور الى فنانة لبنانية عظيمة. فحضور فيروز في هذا المقر ترافقها فرقة جمعية الامم المتحدة ليس الا تجسيداً لمقامها العالمي".
ولما تحدثت فيروز عن نظرة زياد لها و"فيها الكثير من الشعبية والعالمية" لم يكن ذلك نابعاً من وجدانيات شخصية اذ عبرت السيدة تلك الطريق من قبل!
الحوار منذ بدايته لم يأخذ صيغة مقابلة صحافية وتحدثت فيروز على سجيتها. الجديد ان التحدث الى فيروز قد غلب - ولو بقليل - التحدث عنها. وربما للمرة الاولى بعد انقطاع طويل، جالت في مدار "الثلاثية الرحبانية" على صفحة مطبوعة اعلامية! افسحت عن آرائها وعبرت بصور يملأ منها القاصد ايحاءات ومعاني عن اجوائها الداخلية كما عن بعض الزوايا والخبايا في سيرة العائلة الرحبانية الفنية.
اعترضت على التسمية الاخيرة قائلة: "لا أؤمن بالعائلات في الفن. وليس هناك عائلة رحبانية في الفن. حنا الرحباني هو الذي خلق عاصي ومنصور الفنانين. والذي ساعد زياد ليعمل في الفن هو انه ابن فيروز وعاصي. اما العبقرية فلا احد يعطيها لاحد".
هكذا تمت المقابلة مع فيروز: زيارة تعارف، بعيدة عن ضوضاء النجومية و"الصالونيات" الصحافية من فئة "ما لونك المفضل؟" اذ ان التواصل الوجداني هو الذي يتحكم بالعلاقة مع فيروز. من هناك ظلت علاقة الناس بها تشابه تلك التي تحدث عنها ادونيس حين كتب من احد مهاجره إبان الحرب اللبنانية:
"اكثر من اي يوم مضى، اشعر بأنني على علاقة اوثق بالذين اسميهم رفقاء الدرب، الحاضرين ابداً في غيابهم. من هؤلاء، الاغلى على قلبي صوت فيروز، القادر على التملك مما هو محصن في الانسان، انه ليس دائماً كلمات مغناة بل في اغلب الاحيان انشودة صمت".
لذلك كان لا بد من ان يبحر الحديث مع فيروز الى ما ابعد من النجومية!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.