بعد نشوء دولة اسرائيل على جزء من ارض فلسطين في العام 1948، وقبل بدء حروب اللبنانيين وغير اللبنانيين في لبنان في العام 1975 عاش فريق واسع من الشعب اللبناني خوفاً كبيراً على الجنوب الذي لم يخفِ بناة اسرائيل في اثناء سعيهم الى اقامتها رغبتهم في الاستيلاء عليه وضمه الى دولتهم. وكاد ذلك ان يحصل لو لم يرفضه بطريرك الموارنة لانطاكية وسائر المشرق في حينه، ولو لم تؤازره في هذا الرفض آنذاك فرنسا الخارجة منتصرة من الحرب العالمية الثانية والمنتدبة على لبنان وسورية. وكذلك عاش فريق آخر من اللبنانيين خوفاً على مياه الوطن، وتحديداً تلك التي في الجنوب خصوصاً بعدما حال الاسرائيليون مرات عدة مباشرة ومداورة وبالديبلوماسية غير المباشرة والاعتداءات العسكرية فضلاً عن التدخلات والمداخلات دون تمكين لبنان من استثمار مياهه. لكن هذا الفريق لم يعر المسألة الاهتمام الكافي لأن اهتمامه كان منصباً على امور اكثر جوهرية في رأيه هي كيان لبنان وطريقة المحافظة عليه سيداً وحراً ومستقلاً، خوفاً من الذوبان في محيطه المسلم بأكثريته الساحقة. ولذلك، كان يعتبر في عقله الباطن وفي عقله الواعي والبراغماتي وربما المركنتالي ان وجود اسرائيل في هذه المنطقة من العالم على رغم عدم عدالته وعلى رغم الظلم الذي ألحقه بالشعب الفلسطيني قد يرسي توازناً بينها وبين محيط لبنان العربي والاسلامي عماده الخوف والحذر والترقب والعداء وما الى ذلك. وقد يريح لبنان من اطماع هذا المحيط. وساهم العدوان الاسرائيلي - الفرنسي - البريطاني على مصر في العام 1956 وحرب العام 1967 التي اكملت السيطرة الاسرائيلية على كل ارض فلسطين، في مضاعفة خوف الفريق الأول من اللبنانيين على وطنهم من اسرائيل. كما ساهم التأييد العارم للتيار الناصري في لبنان ودعوته الوحدوية في الخمسينات والستينات والتأييد للثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها في العام 1965، في مضاعفة خوف الفريق الآخر من اللبنانيين خصوصاً بعدما انعكس هذا التأييد خللاً امنياً حيناً وأزمة سياسية حيناً آخر وشبه ثورة حيناً ثالثاً. من الخوف الى الرعب وفي اثناء الحروب التي عاشها اللبنانيون وشاركوا فيها بالاصالة عن انفسهم وبالنيابة عن غيرهم والتي دامت نيفاً و16 سنة نفذت اسرائيل عملين عسكريين: الأول في العام 1978 وكان محدوداً اذ اسفر عن احتلال منطقة جنوبية - بقاعية غربية اطلق عليها اسم الشريط الامني او الشريط الحدودي. والثاني في العام 1982 وكان اجتياحاً عسكرياً واسعاً لمناطق لبنانية عدة ثم تقلص بفعل ضغوط المقاومة والخلافات اللبنانية - اللبنانية والتدخلات الخارجية الى الشريط الامني... ولكن موسعاً هذه المرة. واستولت الثورة الفلسطينية في مرحلة معينة على معظم البلد. ثم دخلت القوات السورية الاراضي اللبنانية ولا تزال تنتشر فيها الى الآن. وكان دخولها بطلب لبناني رسمي ومباركة خارجية. وحول ذلك كله الخوفين اللبنانيين رعباً، اذ رأى اصحاب الفريقين بأم العين ان تحقيق اسرائيل مطامعها في لبنان بات امراً ممكناً، وان احتواء المحيط العربي والاسلامي للبلد من خلال التدخل العسكري السوري بات خطراً جدياً. ولم يفلح انهاء الحروب في لبنان على قاعدة اتفاق الطائف الذي ارسى على الاقل في النص توازناً داخلياً بين اللبنانيين وتوازناً في العلاقة مع سورية وان مميزة، في ازالة المخاوف، وذلك لسببين اثنين: اولهما ان المجتمع الدولي الذي بارك الطائف وأيده وكانت له مساهمة مباشرة في وضعه لم يفِ بالتزاماته ولا سيما منها المتعلقة بازالة الاحتلال الاسرائيلي لأجزاء من الجنوب والبقاع الغربي عن طريق تنفيذ القرار الرقم 425. فاستمر بذلك الاحتلال وخطر توسعه. وثانيهما ان سورية التي ساعدت في تطبيق الاتفاق حرصت على ان يكون تطبيقه في مصلحتها وان على حساب روحه وبعض نصوصه، ولم تنفذ احد بنوده الداعي الى انسحابها من البلد في مهلة معينة. لا بل ان المخاوف ازدادت وتشعبت وتنوعت بعدما بدأ مؤتمر السلام للشرق الأوسط اعماله في مدريد قبل اكثر من سنتين. ومن هذه المخاوف تعرض لبنان لتقاسم النفوذ بين اسرائيل وسورية في جنوبه وبقاعه وشماله وامكان تحول المناطق الباقية منه كياناً هشاً يتمتع ببعض مقومات الحكم الذاتي. ومنها ايضاً ان يكون السلام على حسابه. وقد عزز هذه المخاوف عجز السلطة اللبنانية عن مواجهة التطورات الاقليمية بصف موحد، واستمرارها عرضة لتجاذبات خارجية، وتصرفها في احيان كثيرة بلا استقلالية في هذا الموضوع المصيري المهم. وعزّز المخاوف التصرف الخارجي - وتحديداً الاميركي - مع هذه السلطة الذي اتسم بالتجاهل، خصوصاً بعدما تجاهلت بدورها نصائحه "السلمية" وضغوطه لتحقيق تقدم في المفاوضات مع اسرائيل وربطت نفسها نهائياً بسورية مشترطة عدم التوصل الى اي شيء قبلها ومن دون موافقتها. مخاوف في محلها اولاً انها موجودة ولا يفيد انكارها، يجيب عارفو لبنان وتركيبته المعقدة وعلاقاته مع اشقائه ومع محيطه، وفيها الكثير من الصحة. وأسباب بعضها قديم وتاريخي وبعضها الآخر حديث. وما يفيد في هذه المرحلة - في رأي هؤلاء - فيما لبنان وسورية والمنطقة عموماً على اعتاب استئناف مفاوضات جدية مع اسرائيل والخوف من تقاسم نفوذ وأراض بين سورية واسرائيل قائم، هو شرح الأسباب التي تفرض التنسيق بينهما على رغم الخلل الفاضح في ميزان القوى بينهما، وعلى رغم الامساك الشديد لسورية بكل شيء في لبنان، والتي تفرض تحديداً عدم انسياق اللبنانيين وراء النصائح - وان غربية - التي تدعوهم الى تخليص اراضيهم من الاحتلال الاسرائيلي، وان عجز السوريون عن الشيء نفسه في الجولان المحتل بسبب رفض تل ابيب وتمسكها بمطالب مستحيلة. وهذا الشرح ينطوي على الآتي: 1 - في العام 1967 شنت اسرائيل حرباً على مصر وسورية والاردن اسفرت عن هزيمة كبيرة واحتلال اراض مصرية واسعة والضفة الغربية التي كانت خاضعة لاشراف الاردن والجولان السوري. واعتبر لبنان في حينه انه ليس معنياً بهذه الحرب، وتصرف على هذا الأساس. واعتبر في الوقت نفسه ان ديبلوماسيته حققت نجاحاً بارزاً فلم يقع احتلال لأرضه، ولم تستعمل اراضيه في عملية احتلال الجولان. 2 - تبين للبنان بعد ذلك وتحديداً بعدما بدأت القلاقل تعصف به بين 1967 و1975 وبعدما نشبت فيه حرب اهلية وحروب اقليمية على ارضه وبواسطة اهله انه كان مخطئاً، وان البقاء بمنأى عن تأثيرات حرب 1967 وتفاعلاتها كان من الصعوبة بمكان. ذلك ان الثورة المسلحة التي بدأ فلسطينيو الخارج بشنها على اسرائيل منذ العام 1965 واتخذت حجماً كبيراً بعد هزيمة 1967، خصوصاً عندما قرر العرب المهزومون دعمها. ذلك ان هذه الثورة بدأت تعزز وضعها في لبنان للانطلاق منه ضد اسرائيل. يساعدها في ذلك وجود جوٍ مواتٍ عند فريق واسع من اللبنانيين وهم مسلمون بأكثريتهم الساحقة، وتركيبة سياسية ومؤسسات داخلية هشة ومرتبكة على رغم مظاهر القوة. وأول محاولة على هذه الطريق كانت عندما ارسلت حركة "فتح" عدداً من فدائييها للتمركز في العرقوب، ونجحت في الامساك بهذه المنطقة وتحويلها قاعدة انطلاق للعمل الفدائي، وفي ابعاد اي مظهر للسلطة اللبنانية فيها. وتم ذلك بقبول من السلطة وعلى رأسها الرئيس شارل حلو، اما لعدم تقدير خطورة الخطوة واما لضغوط عربية واما لضغوط داخلية واما لكل هذه الأسباب مجتمعة. ولم تنفع التحذيرات او النصائح التي قدمها له ديبلوماسيون لبنانيون مطلعون. سباق على تدمير الدولة وأقلقت هذه الخطوة اسرائيل لأن خروج العرقوب عن السلطة الرسمية واحتمال توسع هذه المنطقة سيجعل وجودها في الجولان معرضاً لمخاطر عدة. وبدأ منذ ذلك الحين السباق بين اسرائيل والفلسطينيين على تدمير الدولة اللبنانية. وسعت اسرائيل الى ايجاد وضع لبناني متمسك بالسيادة والاستقلال وخائف على الكيان من الفلسطينيين، أو من أجل خلق وضع مسيحي خائف من الطغيان الاسلامي على البلد في ظل تحالف مسلميه مع الفلسطينيين، يكون الهدف منه التصدي للفلسطينيين وضربهم الأمر الذي يزيل خطرهم على وجودها في الجولان وكذلك على مناطقها الشمالية بعدما وسع الفلسطينيون رقعة نشاطهم من خلق وضع لبناني شعبي ورسمي متعاطف معهم وان أدى ذلك الى تدمير الدولة والمؤسسات. ونجح الفريقان في ما سعيا اليه، ذلك ان الدولة دمرت والشعب انقسم وسيطر الفلسطينيون على مناطق واسعة. وتحالف الاسرائيليون علناً مع جهات لبنانية، ما أعطاها الذريعة لاحتلال الشريط الحدودي في عملية الليطاني عام 1978 ثم الاجتياح الواسع في العام 1982. فحمت ظهرها في الجولان. وانشغل العرب بلبنان، وتعممت نظريتها المتعلقة بالدويلات العنصرية والطائفية. وتورط الفلسطينيون في رمال لبنان وكان ذلك بداية نهاية وضعهم العسكري والسياسي. 3 - انهارت السلطة والدولة في لبنان عندما انهار الجنوب، وصار أرضاً يمارس الفلسطينيون عليه السلطة والسيادة كما على اجزاء لبنانية أخرى. وكذلك عندما احتلته اسرائيل ورفضت الانسحاب منه واستغلته لتحقيق مكاسب أخرى أبرزها ضرب الثورة الفلسطينية وجرّ لبنان الى السلام والسيطرة على خيراته أو على الأقل اقتسامها معه. ولن تعود هذه السلطة الى عافيتها وكذلك الدولة قبل عودة الجنوب الى لبنان. ولا يعني ذلك بالطبع إبقاء الوضع اللبناني هشاً الى أن تتم هذه العودة. ذلك ان تماسكه وصلابته ضروريان لتحقيقها. لكنه يعني انه من دون هذه العودة ستبقى بذور الانقسامات الداخلية موجودة، وسيبقى المجال مفتوحا أمام بقاء الجيوش غير اللبنانية على أرضه. كما ان سلامه الداخلي سيبقى هشاً، وكذلك أمنه، خصوصاً أن الذين يقاومون اسرائيل من أهله ينوون ازعاجها وفرض الانسحاب عليها، سيعملون على توظيف عملهم من أجل فرض تركيبة معينة للبنان الوطن والدولة لا يرتاح اليها كثيرون من أبنائه فضلاً عن الخارج. لا جنوب قبل الجولان 4 - لن يعود الجنوب الى لبنان قبل أن يعود الجولان الى سورية. والسبب في ذلك ليس فقط اعتبار سورية ان لبنان ورقة في يدها توظفها للحصول على ما تريد من اسرائيل، وتشديدها القبضة عليه لئلا ينفرد بالتوصل الى تسوية وتالياً لئلا تستفرد وتُفرض عليها شروط تمسها وطناً وكياناً ونظاماً ورصيداً عربياً كبيراً، وانما هو أيضاً لوجود مصلحة للبنان. ذلك ان اتفاقاً اسرائيلياً - لبنانياً بمعزل عن سورية سيعيد الأراضي المحتلة في الجنوب والبقاع الغربي الى لبنان شكلاً، لكنه سيبقيها فعلاً تحت سيطرة الدولة العبرية، بسبب حاجتها المستمرة الى حماية احتلالها للجولان ووجودها العسكري فيه، وذلك يعني ان لبنان سيكبل بسلسلة طويلة من الشروط والاجراءات الأمنية التي تمس بالفعل السيادة والاستقلال، فضلاً عن أنها لا بد أن تشكل ثغرة تستطيع اسرائيل بواسطتها ان تتدخل في وضعه وتؤثر فيه. في حين ان انسحاباً اسرائيلياً متزامناً من الجنوب ومن الجولان بتنسيق لبناني - سوري وبتفهم دولي وبتدخل أميركي يمكن أن يخفف كثيراً شروط اسرائيل والاجراءات الأمنية التي تطلب. واتفاق 17 ايار الذي وقعه لبنان معها ثم ألغاه في ظروف معروفة خير دليل على ذلك، اذ كبلت نصوصه الأمنية لبنان، فضلاً عن أنه لم يلتزم تحقيق انسحاب من الجنوب. وفي هذا المجال يقول العارفون والمطلعون ان التنسيق مع سورية يخفض سقف المطالب الأمنية لاسرائيل في لبنان، بينما التقدم عليها أو الانفراد يؤذيها كونه يؤذي لبنان. ذلك انه يكون سابقة لا يمكن تجاهلها ويدفع اسرائيل الى رفع سقف مطالبها الأمنية من سورية للانسحاب من الجولان. وفي المجال نفسه يدعو هؤلاء لبنان الى أخذ هذا الأمر في الاعتبار ليس فقط لأنه صحيح علماً ان بعض اللبنانيين لا يعتبره كذلك، وانما لضرورات الحرص على السلم الأهلي وعلى التركيبة اللبنانية المتوازنة وعلى الكيان نفسه. ذلك ان دمشق لن تدع لبنان - ولا شيء يدل الى عجزها على الأقل في هذه المرحلة - يؤذيها بالانفراد في التوصل الى تسوية. وستستعمل كل الوسائل لمنعه وان أدى الى ضرب السلم الأهلي فيه والى عودة الحرب اليه والى تغيير تركيبته وربما الى صفقة على حسابه حفاظاً على نفسها. فهي موجودة في لبنان عسكرياً وسياسياً من خلال مجموعات سياسية وطائفية قوية، ورسمياً من خلال المؤسسات الدستورية. والتجربة على هذا الصعيد مضرّة، خصوصاً ان هناك تجربة حصلت في العام 1984 وكانت لمصلحة سورية اذ أجبر لبنان على إلغاء اتفاقه مع اسرائيل بضغط داخلي هائل باركته دمشق ودعمته والكل يعرف أنها لم تكن في ذلك الحين في أوج قوتها خصوصاً بعد الذي تعرضت له أثناء اجتياح العام 1982. هل يعني ذلك التسليم لسورية في المفاوضات وتالياً في كل شيء؟ طبعاً لا، يجب العارفون والمطلعون أنفسهم، وانما يعني البحث عن المصلحة الوطنية الفعلية للبنان والسعي الى تحقيقها. والتنسيق مع سورية ضروري في هذا المجال، لكنه لا يعني مطلقاً الخضوع والتفريط. طبعاً هناك شكوك وحذر من سورية حيال لبنان واللبنانيين نتيجة تاريخ طويل من الممارسات. وهناك شكوك وحذر وأحياناً عداء من لبنان واللبنانيين حيال سورية نتيجة تاريخ قديم وحديث وممارسات. لكن مصلحة البلدين في هذه المرحلة المصيرية تقتضي تخليهما عن المناورة واعتماد الصراحة والتعاون الكامل. ونهج كهذا لن يقضي على لبنان ولا على استقلاله بل قد يعزز استعادتهما أراضيهما خصوصاً ان الجميع يعلم ان تسوية أزمة الشرق الأوسط ستزيل حتماً الاحتلال الاسرائيلي لبعض لبنان وستؤدي حتماً الى انسحاب الجيش السوري منه. ولكي يكون لبنان العائد باستقلاله وسيادته وحريته قوياً ومستمراً لا بدّ له من علاقات وثيقة مع سورية.