وردّ الرئيس شارل حلو في حينه على منتقدي تصرف الدولة بالقول ان السفير الاميركي حذر من عواقب المواجهة المسلحة بسبب تأهب السفن الحربية الاسرائيلية للقيام بعملية تدمير واسعة في حال تعرض افراد الكوماندوس للأذى. وعلّقت المعارضة على تبرير التقاعس بإصدار بيان شجبت فيه المنطق القائل بأن "قوة لبنان في ضعفه"… وبأن حياده في حرب 1967 صانه من الاحتلال الذي تعرضت له مصر وسورية والاردن. وحذّر المنتقدون من نتائج سياسة الانفصال عن الموقف العربي، والخروج على التزامات ميثاق الجامعة ومبادئ الدفاع المشترك. وكان تحذيرهم صائباً بدليل ان الدولة اضطرت الى التنازل عن دورها وسيادتها في الجنوب لسلطة المقاومة الفلسطينية اتفاق القاهرة عام 1969. ونتج عن انشطار القرار السياسي الداخلي، ومشاركة المقاومة الفلسطينية، في سيادة الجنوب، ان استغلت اسرائيل الوضع المشرذم لتنفّذ هجومها الاول عام 1978 الذي عوقبت عليه بصدور القرار 425. ثم كررت التحدي تحت غطاء الحرب اللبنانية الداخلية بهدف طرد المقاومة الفلسطينية المسلحة، وفرض اتفاق سلام شبيه باتفاق "كامب ديفيد". وخرجت المقاومة الفلسطينية بقيادة ابو عمار لتحلّ محلها المقاومة اللبنانية التي أجبرت اسرائيل على الانسحاب من الجبل وبيروت ومنطقة صيدا! ومع خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان قرر مجلس النواب الغاء اتفاق القاهر ة عام 1987 بكل ما تحمله بنوده الملزمة من تبعات عطّلت سلطة الدولة لصالح سلطة دويلة "فتح لاند". ثم أُسند هذا القرار بدعم نيابي حدده اتفاق الطائف في الفصل الثالث المتعلق بتحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي. وتشير وثيقة الوفاق الوطني الى آلية التنفيذ بثلاثة بنود: اولاً - التمسك باتفاقية الهدنة الموقّعة في 23 آذار مارس 1949. ثانياً - العمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الامن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال الاسرائيلي ازالة شاملة. ثالثاً - اتخاذ كافة الاجراءات اللازمة لتحرير جميع الاراضي اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي، وبسط سيادة الدولة على جميع اراضيها، ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المُعترف بها دولياً، والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية في الجنوب لتأمين الانسحاب الاسرائيلي ولإتاحة الفرصة لعودة الامن والاستقرار الى منطقة الحدود. منذ صدور هذا الموقف الرسمي آخر الثمانينات، ولبنان يصرّ على المطالبة بتطبيق القرار 425، رغم اشتراكه في مؤتمر مدريد واعلان استعداده للدخول في عملية السلام الشامل. وحرص جميع الرؤساء اللبنانيين الذين تعاقبوا على الحكم منذ 1991 على ترديد لازمة معروفة خلاصتها ان الجيش النظامي قادر على حماية الحدود، وان الدولة اصبحت جاهزة لملء الفراغ الامني في حال نفّذت اسرائيل قرار الانسحاب. وكانت قيادة "حزب الله" تدعم هذا الموقف بإطلاق تصاريح مؤيدة للدولة تعرب فيها عن رغبتها في الانصراف الى العمل الحزبي السياسي إثر تحرر الجنوب من الاحتلال. بعد إقرار الحكومة الاسرائيلية خطة الانسحاب الاحادي الجانب في السابع من تموز يوليو المقبل، تبدّل الموقف اللبناني بطريقة أثارت العديد من الاسئلة حول المعاني المبيّتة وراء هذا التحول، خصوصاً عندما صدر بيان عن رئاسة الجمهورية يشدد على رفض لبنان ضمان حماية اسرائيل في معزل عن سلام شامل. وربط البيان شروط الحل المناسب بضرورة حل مشكلة اللاجئين في لبنان. وقال الرئيس لحود في بيانه: "ان الانسحاب يحلّ جزءاً اساسياً من المشكلة، لكنه يبقي الجزء الآخر الذي لا يقلّ اهمية في نظرنا، وهو موضوع اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة". واعتبر عودة اللاجئين الى بلادهم مسؤولية اسرائيلية في الدرجة الاولى. وتساءل البيان: "كيف يمكن ضمان الحدود مع اسرائيل فيما يوجد في المخيمات الفلسطينية آلاف اللاجئين؟". رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص أبقى الموقف اللبناني في حدود الممكن عندما اعلن ترحيبه بالانسحاب الاسرائيلي في اي وقت إنفاذاً لقرار مجلس الامن الدولي الرقم 425، مفضّلاً تحقيق الانسحاب بمقتضى اتفاق بسبب تشكيكه بالنيّات الاسرائيلية. اما وزير خارجية سورية فاروق الشرع فقد وصف الانسحاب من طرف واحد بأنه يشبه عملية الانتحار. في حين قال وزير خارجية مصر عمرو موسى ان بلاده ترحب بكل خطوة من جانب اسرائيل تحرر ارضاً عربية، معتبراً قرار الانسحاب "قراراً" صائباً لأن الاحتلال في رأيه يولّد المقاومة. وهكذا تفاوتت ردود الفعل على قرار الانسحاب في حين اتسمت تعليقات كثيرة نُشرت في صحف اسرائيلية واميركية وعربية بلهجة الاستغراب لأن البيان الرئاسي ربط السلام مع اسرائيل بقضية اللاجئين الفلسطينيين لا بقضية تحرير الجنوب فقط. وقالت صحيفة "هآرتس" ان لبنان ذهب في موقفه التفاوضي أبعد بكثير من سورية والسلطة الفلسطينية لأنه رهن السلام بحل مشكلة معقدة آثر حتى ابو عمار تأجيلها الى مرحلة المفاوضات النهائية خوفاً على اتفاق "اوسلو" من الفشل. واوضح الرئيس اميل لحود موقفه مرة ثانية في تصريح جاء فيه: "يقولون كلامكم يخدم سورية. انه كلام يخدم لبنان قبل كل شيء، اما اذا أفاد سورية ايضاً فما المانع، ما دام المطلوب ألا يفيد اسرائيل. ان بعض الدول العربية يتناسى ان طابع المشكلة الفلسطينية في لبنان ليس طابع لاجئين، بل انه في الدرجة الاولى مشكلة امنية عسكرية متراكمة منذ عشرات السنين. ومن حقنا ان نثيرها في وجه المحتل الاسرائيلي كأول مشكلة ستطرأ بعد الانسحاب". وعليه جدد الرئيس لحود رفضه اعطاء ضمانات لاسرائيل في حال تنفيذها انسحاباً احادي الجانب من دون حل هذه المشكلة. مخاوف لبنان الرسمي من عواقب الانسحاب اثارت العديد من الاسئلة حول طبيعة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، ومدى تأثير وجودهم على الوضع الامني الداخلي بشكل يختلف عن وجودهم في سورية والاردن. علماً بأن سورية الحاضنة اكثر من 400 ألف فلسطيني لم تضع هذه المسألة شرطاً ملزماً للتفاوض مع اسرائيل. ويبدو ان الدولة اللبنانية في تحذيرها تشير الى ترسانة الاسلحة داخل المخيمات المغلقة، ما يوحي لاسرائيل والولايات المتحدة بأن لبنان لا يستطيع اعطاء ضمانات امنية، وان الجهة الصالحة لكبح جماح المسلحين هي سورية. ومعنى هذا ان التفاوض حول موضوع الضمانات الامنية يجب بحثه مع دمشق. وربما يكون هذا الايحاء مخالفاً لطروحات الدكتور سليم الحص المردد باستمرار مع العميد ريمون اده، بأن اتفاق الهدنة يبقى المرجع الوحيد الذي يستند اليه لبنان في حال انسحبت اسرائيل تنفيذاً للقرار 425. وهو الاتفاق الذي وقّعه في رأس الناقورة الجانبان اللبناني والاسرائيلي يوم 23 آذار مارس 1949. ولقد استخدمته الدولة اللبنانية عشرات المرات وسيلة للتهرّب من مسؤولية التفاوض المباشر باعتباره يمثّل العقد الامني الموقّع من قبل اسرائيل ايضاً. وتنص المادة الاولى منه على ثلاثة مبادئ رئيسية هي: اولاً - يتعهد الفريقان عدم ممارسة اي عمل عدواني - براً وبحراً وجواً - ضد بعضهما البعض، مع الالتزام بإلغاء كل تهديد عسكري ضد الشعبين. ثانياً - يُحترم حق كل فريق في امنه وتحرره من الخوف بألا يكون عرضة للاعتداء بواسطة جيش الآخر. ثالثاً - ايجاد حالة هدنة بين الجيشين تُعتبر خطوة ضرورية ومقبولة باتجاه تصفية النزاع المسلح والحفاظ على السلام في "فلسطين". البيان الرئاسي يلغي تلقائياً اتفاق الهدنة من الجانب اللبناني بسبب اعلان الدولة رفض التعهد بمنح اسرائيل ضمانات امنية قبل ايجاد حل لمشكلة اللاجئين. وبما ان اسرائيل خرقت اتفاق الهدنة عشرات المرات في حين حافظت الدولة عليه كسلاح معنوي صادر عن مجلس الامن… فإن اتفاق "تفاهم نيسان" يبقى الاطار الشرعي الوحيد الذي يستند اليه لبنان في عملية تحرير الجنوب. ولكي يتجنب باراك الالتزامات المنصوص عليها في ديباجة القرار 425 فقد اعلن ان القوات الاسرائيلية ستعيد الانتشار في مدة اقصاها السابع من تموز يوليو المقبل. ويؤكد سكان القرى الحدودية ان الجيش الاسرائيلي باشر في تثبيت اعمدة الاسلاك الشائكة بمحاذاة جدار من الاسمنت شبيه بجدار برلين. وهم يتعرضون يومياً لاغراءات مادية سخية بهدف استئجار اراضيهم المتاخمة لحدود اسرائيل والتي تصلح لبناء منازل لأفراد "جيش لبنانالجنوبي". وربما تكون هذه الاشغال رسائل تضليل لإيهام اللبنانيين بأن اسرائيل تحصّن حدودها وتنقل انصارها استعداداً لعملية اعادة الانتشار على نحو يبعد عنها تهمة الدولة المحتلة. يبقى السؤال المتعلق باحتمال تجديد نشاط المقاومة الفلسطينية عبر الجنوب… وما اذا كانت الاسرة الدولية تدعم حقهم في تحرير اراضيهم كما دعمت حق المقاومة اللبنانية في "تفاهم نيسان"؟ الملاحظ ان مجلس الامن تجنب الخوض في المشكلة القائمة بين الدولة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية من حيث شرعية عملها، تاركاً تحديد الاطراف المشمولين بالقرار 425 الى التدابير المشار اليها في القرار 426. اي التدابير التي اعلنها الامين العام فالدهايم في تقريره القاضي بتطبيق قرارات مجلس الامن المتضمنة طلب وقف القتال من كافة الاطراف. وجاء في التقرير ايضاً ان مهمة قوات الامم التحدة تتطلب اقامة منطقة عمليات في الجنوب تسيطر على كل تحرك فيها وتتخذ ما تراه مناسباً من اجراءات ضرورية لتأكيد سيادة الدولة اللبنانية. وواضح من هذه الديباجة انه لا يمكن تحقيق المطلب المُبتغى في تقرير فالدهايم وقرار مجلس الامن الرقم 426 من دون التزام جميع الاطراف المشتركة في القتال تطبيق شروط وقف اطلاق النار. اي الشروط التي قبلت بها المقاومة الفلسطينية ايضاً. وهذا ما جرى بحثه هذا الاسبوع بين امين عام الاممالمتحدة كوفي انان وبين المسؤولين الفرنسيين الذين اكدوا له مجدداً استعدادهم للمساهمة في تدابير امنية في جنوبلبنان بعد الانسحاب الاسرائيلي. ولقد اتفق الطرفان على مراجعة هذا الموضوع بهدف دراسة مختلف الخيارات المطروحة في حال تم الانسحاب الاسرائيلي في اطار اتفاق ام من دونه. ويبدو ان الدول الكبرى - وبينها فرنسا - مقتنعة بأن الجيش اللبناني لن يكون بديلاً من قوات الطوارئ الدولية. وكذلك الجيش السوري الذي رفض رئيسه جميع الاقتراحات الاميركية بحجة ان العرب لن يكونوا حرّاساً لأمن اسرائيل. ومعنى هذا ان قوة الطوارئ الدولية ستواجه مرحلة السلام في الجولان وجنوبلبنان والضفة الغربية باستنفار اعداد هائلة من المجندين الذين ينتشرون من سيناء، مروراً بالضفة والقدس وجنوبلبنان حتى مرتفعات الجولان. ومثل هذا الانتشار يمثل اطول حزام امني في العالم سوف تشرف على اعداده الاممالمتحدة بتمويل اميركي - اوروبي - ياباني. على العموم يعتقد ايهود باراك بأن تهديده بالانسحاب من لبنان سيساعد على ردم الهوة مع سورية، خصوصاً وانه يتمنى الخروج من الجنوب باتفاق يضمن للجليل الاعلى الهدوء والامن. ويتوقع العديد من المراقبين بأن تهيء اجواء التوتر التي سادت المنطقة بسبب التعاطف مع لبنان، فرصة البحث عن مخرج لائق للأزمة يؤمنه الرئيسان كلينتون وحسني مبارك. ويلمح داني ياتوم، مستشار باراك، الى حدود اختراق مفاجئ ضمن مهلة لا تزيد على الشهر. والسبب ان رئيس الحكومة الاسرائيلية يفضّل عرض مشروع السلام على الكنيست قبل 19 نيسان ابريل المصادف يوم عيد الفصح اليهودي. اما بالنسبة للاستفتاء، فإن باراك يسعى الى طرحه في ايلول سبتمبر بغرض اعطاء مرشح اسرائيل المفضّل آل غور جرعة سياسية قوية يمكن ان يوظّفها لربح معركة الرئاسة في تشرين الاول نوفمبر. * كاتب وصحافي لبناني