تتأهب السلطة الجديدة في الجزائر بقيادة محمد بوضياف رئيس المجلس الأعلى للدولة للاعلان عن قاعدة عمل بشأن "التجمع الوطني"، هذه الحركة السياسية المزمع انشاؤها لسد الفراغ الذي لم تستطع ان تملأه لا الجبهة الاسلامية للانقاذ المحلولة ولا جبهة التحرير الوطني المجمدة تقريباً. ويكثر التساؤل في الساحة السياسية الجزائرية عن شكل ومضمون "التجمع الوطني" هل هو حزب ام ائتلاف ام تجمع احزاب أم مجرد حركة جماهيرية واسعة... الخ؟ ويبدو من المعلومات الاولية التي حصلنا عليها في هذا الصدد، ان التجمع في مرحلته الاولى على الاقل من المنتظر ان يغلب عليه طابع الحركة الجماهيرية الواسعة المفتوحة على الجميع بصفة فردية. والمفروض ان تنطلق هذه الحركة من القاعدة لتكون اطار تعبئة حول مهام محددة، ولا يستبعد ان يرتكز هذا الاطار على تنظيمات قاعدية مرنة، خفيفة الحركة وسريعة التدخل والانتشار في الميدان. ومن الاهداف المحتملة "للتجمع الوطني" المنتظر الامور الآتية: 1- فرز قاعدة اجتماعية يستند اليها تحرك السلطة الجديدة، وتوفر الدعم الضروري لمشروعها الاجتماعي. 2- تشكيل قوة سياسية تدعم سياسة المجلس الاعلى للدولة. 3- مساندة مرشح مجلس الدولة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ومرشحيه في الانتخابات النيابية اللاحقة. وحسب التصور الاولي لفكرة التجمع تبدو الحركة الجديدة المزمع تأسيسها قريباً كاطار لمحاورة السلطة الجديدة، وتزويدها بكل ما يصدر عن القاعدة من اقتراحات وآراء. اي قوة للتحفيز والتنبيه والتوجيه، وليس مجرد هياكل قاعدية تتلقى الاوامر والتوجيهات من فوق لتحاول تطبيقها في الميدان. ويرى المراقبون السياسيون في العاصمة الجزائرية في خطوة "التجمع الوطني" محاولة لاعادة تشكيل الخريطة السياسية بعد عملية الهدم. المتواصل لجبهة الانقاذ، هذا الهدم الذي بدأ في ظل حالة الحصار المعلنة في حزيران يونيو 1991، واستمر بشكل سريع منذ اعلان حالة الطوارئ في 9 شباط فبراير الماضي. ومن أهم مراحل هذه العملية: * حلّ الجبهة الاسلامية بموجب حكم صادر في 4 آذار مارس الماضي عن الغرفة الادارية لمحكمة الجزائر، جرى تثبيته اخيراً بحكم صادر عن المحكمة العليا نفسها. * حلّ 450 بلدية كانت تحت تصرف الجبهة الاسلامية بحجة التقصير والعجز، ومعنى ذلك حل اداة هامة للعمل والتأثير في الجماهير. * إصدار 16 حكماً بالاعدام على بعض المتورطين في عمليتي قمار مركز حدودي شرق البلاد، والاميرالية، وقد سقط في العمليتين 20 قتيلاً. * الاعلان عن بدء محاكمة قادة الجبهة الاسلامية اعتباراً من 15 حزيران يونيو المقبل حيث من المنتظر ان تصدر المحاكم العسكرية في حق بعضهم أحكاماً قاسية. والملاحظ ان عملية "الهدم المنهجي" الذي تتعرض له الجبهة الاسلامية منذ قرابة السنة، بدأت تؤتي ثمارها، فقد وجهت نداءات ل "الثورة الشاملة" يوم 5 أيار مايو الجاري، لكن الشارع لم يتجاوب، عدا بعض الأعمال اليائسة التي استهدفت بعض المراكز الجامعية وكانت نتائجها الدعائية وبالاً على مرتكبيها. ويتأكد يوماً بعد يوم، أن صقور النظام بادروا الى ضرب الجناح المسلح في الجبهة الاسلامية قبل ان يشتد عوده ويعظم شأنه، ولعل هذا ما يفسر طابع الهواية الغالب على معظم العمليات المدبرة حتى الآن، ما يبعث على الاعتقاد ان الجزائر بصدد تجاوز ازمتها السياسية بأقل قدر من التكاليف! نكبة جبهة التحرير وإذا كانت الجبهة الاسلامية هي "اضحية العيد"، فمن المنتظر ان تكون جبهة التحرير هي "أضحية عاشوراء"! والسبب المباشر في ذلك بصفة خاصة ان اعلام جبهة التحرير - لا سيما صحيفة الشعب - حل محلّ إعلام الجبهة الاسلامية في التشويش على السلطة الجديدة، ومحاولة عرقلة جهودها الرامية الى تهدئة الاوضاع وفرض هيبة الدولة وسلطتها من جديد، واعادة المياه الى مجاريها في بلد أدخل نفسه بنفسه في دوامة عدم استقرار رهيب. وكان رد حكومة سيد احمد غزالي اخيراً عنيفاً قاسياً على جبهة التحرير الحزب الحاكم سابقاً حين قررت استعادة املاك الدولة التي بحوزتها، ومنها ما تملكته في عهد حكومة مولود حمروش، مثل صحيفة "المجاهد" اليومية ومطبعتها، وكذلك صحيفة "الشعب". ومن الاملاك المستردة من الجبهة اهم مقراتها في العاصمة، مقرها الرئيسي بقصر زيغود يوسف ومقر ساحة الامير عبدالقادر الذي يحتضن الوسيلتين الاعلاميتين المركزيتين للجبهة، "المجاهد" الأسبوعي - بالعربية - و "الثورة الافريقية" - بالفرنسية. وبالاضافة الى هذه المقرات والصحف تطالب الحكومة قيادة الجبهة باعادة اكثر من 3 آلاف سيارة! وتكمن المشكلة القائمة بين السلطة الجديدة وقيادة جبهة التحرير، في ان الاولى تتهم الثانية بتشجيع الرئيس السابق على التواطؤ مع الجبهة الاسلامية، هذا التواطؤ الذي كاد يوقع البلاد في حرب اهلية لا تبقي ولا تذر. والجدير بالذكر ان قيادة الجبهة حاولت بعد "استقالة" الرئيس الشاذلي بن جديد ان تحرف هذا الجهاز الحزبي عن مقاصده الرئيسية: من امتداد سياسي للنظام القائم منذ الاستقلال الى حزب معارض! وقد تجلى ذلك في معارضة تعيين المجلس الاعلى للدولة يوم 14 كانون الثاني يناير الماضي، ومعارضة كل ما يصدر عنه من اجراءات، ومنها اخيراً تعيين "المجلس الاستشاري الوطني"! ويعزو المراقبون محاولة تحريف جبهة التحرير عن وظائفها التقليدية الى عوامل عدة منها: 1- القراءة الخاطئة للنتائج التي حصلت عليها جبهة التحرير في انتخابات حزيران يونيو 1990، وكانون الأول ديسمبر 1991. وهي نتائج تحسب للنظام ككل، اكثر مما تحسب للجبهة كحزب قائم بذاته. 2- علاقة المصاهرة القائمة بين الرئيس السابق والسيد عبدالحميد مهري الامين العام لجبهة التحرير الوطني. 3- الطموح الجنوني لبعض اعضاء المكتب السياسي المحيطين بمهري، وفي مقدمتهم الثنائي حمروش - قنيفذ. فالسيد حمروش رئيس الحكومة السابق يبدو كأنه لم يهضم قرار ابعاده صبيحة 4 حزيران يونيو 1991 في خضم العصيان المدني الذي شنته الجبهة الاسلامية، بدءاً من 25 ايار مايو 1991. مثل هذه العوامل ادت الى نكبة جبهة التحرير الوطني نكبة لم يسبق لها مثيل، بعد ان جعلت منها حكومة غزالي مجرد حزب كالاحزاب الاخرى، وهي التي كانت على مدى 27 سنة تقريباً الحزب الحاكم الواحد والوحيد! وبديهي ان الهدف من ضرب الجبهة الاسلامية للانقاذ، ثم زعزعة جبهة التحرير على النحو السابق، تمكين "التجمع الوطني" - السند السياسي لمجلس الدولة - من النشوء والانتشار في ظروف مناسبة نسبياً. بعيداً عن مضايقات الاسلاميين بصفة خاصة، وهم عناصر كانت تمتلك مقدرة فائقة على احتلال الميدان وعرقلة نشاطات الاحزاب المنافسة. وفي انتظار الاعلان عن قاعدة عمل "التجمع الوطني" تتخوف بعض الاوساط من احتمال اسناد هذه العملية المهمة الى عناصر من الحزب الشيوعي الجزائري، او "حزب الثورة الاشتراكية" - الحزب السابق لرئيس مجلس الدولة - لأن مثل هذه العناصر تتميز بنزعتها النخبوية المرفوضة من عامة الشعب، ومن ثمة فقد تكون عامل تحفظ وانكماش بدل ان تكون حافزاً للعفوية والانتشار.