في 13 تشرين الأول اكتوبر الجاري تنقضي ثلاث سنوات كاملة على العملية العسكرية اللبنانية - السورية التي أدت الى اخراج العماد ميشال عون من قصر بعبدا، بعد 750 يوماً من تعيينه رئيساً ل "حكومة العسكريين". وفي هذه السنوات الثلاث تغير لبنان وتغيرت المنطقة بعدما تغير العالم فهل تغير الجنرال؟ في منفاه الجديد في "هوت ميزون"، وبعد المرور باجراءات أمنية صارمة، استقبلني الجنرال بابتسامة مرفقة ببعض العتب. كان يحدق في أربع ارزات صغيرة زرعها في الحديقة المطوقة بالأسلاك الشائكة والكاميرات التي تسهر مع الحراس. وعادت بي الذاكرة الى ذلك اليوم من آب اغسطس 1991 حين راح زورق مطاطي من طراز "زودياك" يصارع الموج حاملاً أول منفي رسمي في تاريخ لبنان المستقل. وكان المنفي ميشال عون وهو سيمضي الليل في البحر في سفينة فرنسية قبل أن تقله طائرة من لارنكا الى مرسيليا أول محطات المنفى بعد اقامة دامت 320 يوماً في السفارة الفرنسية في بيروت. تحدث العماد عون في حواره الشامل مع "الوسط" عن 13 تشرين الأول 1990 وقرار ازاحته والعروض السياسية والمالية التي سبقته. وكشف قصة الاقامة في السفارة الفرنسية معتبراً اشتراط الحكم عليه بالتوجه اليها فخاً استهدف قتله. وتطرق الى السلام المقترب في المنطقة وتصوره للبيت الجديد في الشرق الأوسط وخوفه على لبنان الموجود "على طاولة المفاوضات". واعتبر الجنرال عودته "حتمية اذا بقي لبنان" مؤكداً ان لا علاقة لهذه العودة باجراء ابعاده لخمس سنوات "فأنا منفي الى الأبد إذا بقوا". ولم يجد الجنرال ما يهديه الى الحكم والحكومة غير بيت من شعر المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت ايلام وهنا نص الحوار الذي تنشره "الوسط" على حلقتين: سنة جديدة في المنفى، ماذا تشعر وماذا تقول؟ - هناك شعوري تجاه وطني وشعوري الذاتي. وجدانياً لم تغير الأحداث شيئاً من راحة ضميري. لم يتبين أنني كنت مخطئاً في شيء وأشعر الآن بالندم بسببه، أو أن هناك ما يهز وجداني. لا بل ان المواقف التي اتخذتها وما اعتبر تصلباً من جانبي عثر حالياً على تبريراته في ضوء ما يحدث في لبنان والمنطقة. قلت سابقاً انه يجب ألا يكون لبنان على طاولة المفاوضات بل الى طاولة المفاوضات. وتبين الآن ان لبنان على الطاولة وليس ممثلاً في مفاوضات السلام. هناك وجود جسدي ولكن ليست هناك سلطة معنوية تمثل اللبنانيين في مسيرة السلام، ومصالحهم ليست مؤمنة. وما يبقى للبنان هو نتيجة التناقض القائم بين المتفاوضين الآخرين وليس نتيجة وجود لبنان في المفاوضات. هذا الشيء يريحني على الصعيد الشخصي كونه يثبت صحة مواقفي، لكنه في الوقت نفسه يقلقني جداً على الصعيد الوطني. ليس مهماً أن يرتاح الانسان ويذوب الوطن، المهم ان يتعب الانسان ليضمن خلاص الوطن. ما زلت أقوم بأكبر مجهود ممكن مع من أعرفه من ديبلوماسيين وسياسيين وما لنا من تنظيمات في العالم لها تأثير في بعض مراكز القرار حتى يكون لبنان موجوداً في هذه المفاوضات أو على الأقل ان يحفظ حقه فيها وان كان غائباً، خصوصاً ان التغييب جاء نتيجة ل 13 تشرين الأول اكتوبر 1990 تاريخ اخراج العماد عون من قصر الرئاسة في بعبدا. هل تقصد القول انك خائف على لبنان من السلام في المنطقة؟ - كل تغيير في حياة الفرد أو المجتمع يشكل مصدر قلق في حد ذاته. هناك مرحلة جديدة وعلى الانسان ان يواجه حالات جديدة، ولبنان ليس مهيئاً للسلام نفسياً أو تقنياً أو في أي ميدان اذ لم يعدّه أحد لمواجهة السلام. اللبناني سيلحق بالعملية القادمة بفعل قوة التأقلم لكنه لن يلتقي معها لأنه لم ينتظرها ولهذا سيلحقها. هل يستطيع اللحاق بحالة السلام أم سيبقى متخلفاً وكل مصالحه متضررة؟ نحن الآن في صدد دراسة عن وضع الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد السلام. لن يكون هناك بعد السلام تصور للبنان لوحده وللدول الأخرى لوحدها. سنرى مرحلة جديدة وآفاقاً جديدة مفتوحة. وكل الحواجز النفسية التي كانت قائمة ستسقط والحواجز المادية ستسقط، وسيكون هناك تفاعل جديد. أما كيف ننظر الى هذا التفاعل فحتى الآن اعتبر ان اللبنانيين ليسوا مُعدَّين وربما العرب أيضاً. التعايش ومبررات الوجود السلام سيفتح باب التعايش في بيت الشرق الأوسط الجديد. فهل تعتبر ان لبنان سيعثر في حالة التعايش هذه على مبررات جديدة لوجوده؟ - مبررات وجود لبنان قائمة فيه أصلاً. لو لم تكن هناك مبررات لوجوده لما وجد. لم يكن وجد كإمارة أو كبلد ذي استقلالية ذاتية في الامبراطورية العثمانية. لولا مبررات الوجود لما كان قام أصلاً. ولبنان أصلاً منطقة تفاعل. انه على حدود المنطقة العربية والشعوب التي تسكنه تتحدر من جذور مختلفة منها عرب ومنها غير عرب. وإذا قصدنا معنى الحضارة نعرف اننا عصارة حضارات، من الحضارة الفينيقية الى الحضارة اليونانية الى الرومانية والبيزنطية والعربية. هناك حضارات متراكمة في لبنان وكلها لها أبعاد حالية. هذا الأمر يجعل حضارتنا نتيجة لحضارات متوسطية قديمة. ان أبعاد حضارتنا هي أكثر شمولية وأوسع. هناك بعد عربي وبعد إسلامي وبعد مسيحي وبعد فينيقي. ولدينا سهولة تكلم اللغات ولم يحدث ان اكتفى اللبنانيون بلغة واحدة. والقصة بدأت منذ فجر التاريخ. كنا نتكلم الارامية ثم تكلمنا اليونانية وعلمناها. والأمر نفسه بالنسبة الى الرومانية والعربية. تعدد اللغات والأعراق والترسبات الحضارية في لبنان ليس جديداً. ومحاولة اعطاء لبنان بعداً واحداً هي في الحقيقة إفقار له بمقدار ما هي وليدة فقر في التفكير. أجمل شيء في المشرق بأسره هو أن يكون لبنان وكما هو واجهة عربية، لأن دول المنطقة تفتقر الى الأبعاد الموجودة فيه. لا بد من الصراحة في هذا المجال ولا داعي للخجل. لا مبرر أبداً لنظريات توفيقية تقودنا الى التنكر لمميزاتنا وأصولنا. نحن في نهاية القرن العشرين ولا مكان لمنطق الاخضاع بالقوة. نحن لا نعرف اليوم غير قيمة واحدة تدير العالم، ومن يتخلف عنها يكن متخلفاً عن الحضارة الانسانية وكل الأديان السماوية، القيمة الواحدة هي الحرية. الحرية التي تنبثق منها كل القيم الأخرى وكل المبادئ. فكرة لبنان ما هي فكرة لبنان بالنسبة اليك؟ وما هي الأشياء التي لا يجوز التنازل عنها لكي يحتفظ لبنان بجوهره؟ - تميز لبنان بمسألتين: الأولى انه مكون من مجموعات عدة لها خصائصها. وضحت هذه المجموعات للمحافظة على خصائصها، ولذلك لجأت الى الجبل ودافعت ودفعت الثمن غالياً. انها كلها اجتمعت على قيمة واحدة هي الحرية. ومن جهة ثانية هناك حرية للجميع وهناك احترام لخصائص الجميع. وهكذا يمكن القول ان لبنان نموذج التعددية الحضارية في الشرق الأوسط الذي تصعب قراءته من دون العرب واليهود وغيرهم. كل هذه الشعوب موجودة ومتجذرة ومتأثرة، ولا بد ان يعترف بعضها بوجود بعض. لبنان هو النموذج. هل يكون هذا النموذج ثمرة خليط أم في صوره كيانات مختلفة متجاورة هذا موضوع آخر. ربما كان هذا الموضوع هو المطروح للبحث. هل تكون هذه المجموعات متجانسة ويتعامل بعضها مع بعض في اجواء تناغم وتكامل بعيداً عن السعي الى السيطرة والحذف وهذا يوفر لها غنى وإيجابيات كثيرة؟ إذا بقيت هذه المجموعات أسيرة نزعات السيطرة والغاء الآخر تكون عندئذ مصدر فقر لكل المجموعات، فلا أحد يستقر ولا أحد يعرف الرفاهية أو الطمأنينة. الركيزة الأساسية هي ان التعددية موجودة في الشرق الأوسط. لا بد أولاً من الاعتراف بوجودها، وثانياً تحديد طبيعة العلاقات ليس بمعناها المادي أولاً بل بمعناها الفكري، أي ان تكون سعياً الى التكامل والتبادل ومصدر غنى بعيداً عن الهيمنة ورغبة الحذف اللتين تجعلانها مصدر نزاع دائم. من هنا إذا كان هناك فكر بهذا المستوى يمكن بثه في الشرق الأوسط. وأعتقد بأن المرحلة المقبلة ستكون بالغة الأهمية وجيدة والا فما سيحدث هو خلاف ذلك تماماً. لن تكون هناك حالة وسط لأن المنطقة ستشهد أصولية سياسية، وأنا أسميها أصولية سياسية وليست دينية لأن الأصولية الدينية حرام ان نلصقها بالأصولية السياسية التي نراها اليوم. في استطاعة الانسان العودة الى مصادر دينه وعبادة ربه، وهذا طبيعي. أما الأصولية السياسية التي تستغل الدين لإثارة التعصب أو مضاعفته فهي بالغة الخطورة. انها خطرة على حاملها أولاً لأنها تتضمن قدراً من التهديم الذاتي، لأن الأصولية السياسية - الدينية هي محاولة بحث عن حلول في الماضي السحيق وليست نظرة مستقبلية. وبهذا المعنى هي تسير حكماً نحو الخطأ، وبعد أن تخرب وتهدم يضطر المجتمع الى اعادة النظر. لكن ذلك يحصل بعد خراب كبير. ماذا كان شعورك حين شاهدت ياسر عرفات واسحق رابين يتصافحان في البيت الأبيض؟ - عادي وطبيعي تماماً. السبب هو انني رجل عسكري وأعرف شرعة القتال. أعرف ان كل حرب تنتهي اما باستسلام واما بتفاوض واتفاق. هذه انتهت بتفاوض واتفاق بغض النظر عن شروط الاتفاق. ففي الاتفاق يتصافح الأعداء ويفتحون صفحة جديدة. أنا فكرياً جاهز لموضوع من هذا النوع. أما الشعور العادي لدى أناس فقدوا أولادهم أو اخوتهم أو احترقت بيوتهم وشردوا فأنا ليس لدي هذا الشعور، هذا لا يعني انني لم أخسر أناساً أحبهم. لكنني من موقعي أنظر الى الأمر من زاوية أخرى ونظرة أكثر شمولية، أي نظرة رجل الدولة. لا يستطيع المسؤول التوقف عند شعوره الشخصي حيال ما خسره من أصدقاء أو أي خسائر أخرى. هل شعرت بشيء من الغيرة لأن ياسر عرفات نجا من عاصفة كانت تراهن على إزاحته من طريق الحل ثم صار في قلب الحل، في حين خسرت أنت على الأقل معركة أساسية قبل أن تصل المنطقة الى الحل؟ - لا، بالعكس. كانوا يعتبرون عرفات منذ 28 سنة إرهابياً ولا أحد يريد الاعتراف به. وبما أنه يمثل شعباً أدركوا الحقيقة ولو متأخرين وكان هو الحل. وفي المناسبة سأروي قصة شهودها أحياء: كانت إحدى الصحافيات تزورني في 1983 في حضور ضابط اسمه فؤاد الأشقر - وهو من الذين تركوا الجيش أيضاً - يومها كان ياسر عرفات محاصراً في طرابلس وكانت فرنسا تسعى الى اخراجه. قلت لهم يومها ان المهم أن يخرج عرفات حياً لأنه سيتمكن لاحقاً من محاصرة من يحاصروه اليوم. ضحكوا وقالوا الناس تمشي في اتجاه وأنت في اتجاه. يومها كنت ألقب عرفات ب "الكاكتوس" أي الصبير الكثير الأشواك للتدليل على صعوبة ان يبتلعه أحد بهدف القضاء عليه. والمسألة بسيطة عرفات يمثل شعباً والمحاصرون يمثلون نظاماً، ودروس التاريخ تقول ان الشعب هو الذي يستمر. وفي الأيام الأخيرة ذكرني بالحادثة من كانوا شهوداً عليها. هل كانت المرة الوحيدة التي التقيت فيها عرفات في تونس؟ - نعم انها المرة الوحيدة واقتصر الأمر على مكالمات هاتفية لاحقاً. ما هو الانطباع الذي تركه عرفات لديك؟ - كان اللقاء ممتازاً. والانطباع كان بخلاف الصورة الاعلامية لدى بعضهم، خصوصاً لدى لبنانيين كانوا يتهمونه بعدم الصدق وعدم الالتزام. لقد مر التيار بيننا بسرعة وبشكل غريب. أنا حدثته بصراحة كلية. قلت له في حينه: نحن كشعب، إذا احببناك نريد أن تنجح قضيتك، وإذا كرهناك نريد أن نتخلص منك... وفي النتيجة يجب أن تنجح قضيتك لتغادر من عندنا وبالتالي يجب ألا تخاف منا فنحن شعب عاقل. وكان متجاوباً. وأعتقد بأن الرسالة وصلت بلا حواجز واطمأن الى أننا لا مصلحة لنا في أن نشكل خطراً على قضيته. وهذا الشيء أوجد ثقة كبيرة فالرجل عاقل ولا خطر حين يتحكم العقل بالمواقف، ولكن حين يشرد العقل وتحضر المصالح الخفية وتطل العمالة هناك يظهر الخطر. لقد تعاملنا بشفافية ومن ذلك الوقت لم يحصل أي حادث بين اللبنانيين والفلسطينيين، اللهم إلا التحرشات التي كانت تستهدف الفلسطينيين بناء على توجيهات خارجية. في النهاية سيصل الشعب اللبناني الى نتيجة مشابهة لما حدث مع الفلسطينيين. لا يستطيع أي حكم في العالم أن يقول أنه صنع السلام في لبنان بالتفاوض مع النظام القائم حالياً والذي لا يمثل الشعب اللبناني. كلنا نعرف قصة 13 تشرين الأولاكتوبر وقصة الانتخابات النيابية: مسلسل تزوير استهدف انشاء حالة لا وجود للبنان. وغير الموجود لا يستطيع توقيع سلام فعلي. الوضع المفروض ولكن هناك اعتراف دولي بالحكم القائم في لبنان؟ - أنت تسميه اعترافاً، أما أنا فاسميه فرضاً دولياً. أنا أتحدث عن شيء يمثل الشعب اللبناني. هذا الشعب شعب صغير وتستطيع أن تفرض عليه دولياً ما تريد. نحن قلنا صراحة ان العالم يستطيع أن يسحقنا لكنه لن يأخذ توقيعنا. لم نقل إننا نستطيع أن نغلب العالم لكننا قلنا له انك لا تستطيع أن تحصل على توقيعنا. في استطاعتهم فرض السلام لكنهم لن يحصلوا على توقيع الشعب اللبناني. ومن يوقع حالياً يبقى توقيعه قابلاً للنقض. فبأي صفة يمثل الحكم الحالي الشعب اللبناني عندما يشارك 13 في المئة فقط في الانتخابات. ولنقل ان الفائزين يمثلون نصفهم أو أكثر بقليل أي 7 في المئة. لنتذكر ان العالم يحكم ب 51 في المئة على الأقل. هل يعقل ان نحكم ب 7 في المئة ونحن من نمثل تسعين في المئة لا حقّ لنا في الوجود في لبنان خصوصاً في هذه المرحلة الأساسية. تغييبنا ليس إذاً لمصلحة لبنان. هل تعتقد بأن الاجتياح العراقي للكويت كان السبب الأهم الذي سهل اخراجك من قصر الرئاسة في بعبدا؟ - لا، قرار اخراجي من قصر بعبدا اتخذ قبل دخولي اليه. لقد تم ذلك في اوائل ايلول سبتمبر 1988 في محادثات مورفي - الأسد. لم يكن الاتفاق موجهاً ضدي شخصياً بل تقرر اخراج لبنان من اللعبة. ما هو جوهر هذا الاتفاق في رأيك؟ - نحن نراه من نتائجه. انها استنتاجات وليست معلومات. لا ندعي الوصول الى الأسرار. انني أعتقد بأن الحرب على العراق تقررت في 1988 وما تبقى كان مجرد خطط. أعتقد بأن قرار الحرب اتخذ بعد خروج العراق من حربه مع ايران. انه مجرد اعتقاد. بين الكويتولبنان حين حصل الاجتياح العراقي للكويت ألم يكن لديك خيار آخر لتفادي الاخراج بالقوة؟ - بالعكس. اجتياح العراق للكويت إذا نظرت اليه حدثاً وإذا وصفته في اطار القانون الدولي والسياق في الشرق الأوسط كان يجب أن يساعد لبنان على التحرير، اذ لا يعقل في الوضع الدولي والاقليمي نفسه ان تقرر الشيء وعكسه. لقد قرروا ضرب العراق لأنه اجتاح الكويت وقرروا في الوقت نفسه اعطاء لبنان لسورية! بأي منطق يحدث ذلك من قبل القيمين على القانون الدولي وإدارة جورج بوش خصوصاً؟ الى ماذا استندوا في قرار التضحية بلبنان؟ كان يفترض ان يؤدي الاجتياح الى فرض احترام حقوقنا أيضاً. ولكن حين ترسم السياسات ضد القانون الدولي والمنطق والأخلاق فالأمر فظيع. كان وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر ينتقد سورية في موضوع الارهاب ثم يضيف "لكننا ندعم عملها في لبنان"! ما حدث للبنان يشكل سقوطاً للعالم الحر واهانة للمثل التي يرفعها. منذ أيام سقراط وأرسطو تعلمنا عن اليونان المنطق ومن يستحق المكافأة ومن يستحق العقاب. السيد مورفي ضرب أسس المنطق السليم. وما يقال عن الادارة الأميركية آنذاك يقال في صورة أشد عن حكومة مارغريت ثاتشر التي قطعت علاقاتها الديبلوماسية مع سورية ووجهت اليها اتهامات برعاية الارهاب لكنها استمرت في دعم عملها في لبنان. سيقول التاريخ كلمته في هؤلاء، فهم أهانوا العالم بهذا المنطق. المعركة الوحيدة التي فرضتها ماذا حصل في معركة بعبدا؟ - ليس هناك شيء اسمه معركة بعبدا. صرنا موجودين في نقطة تتعرض لقصف الدبابات والطائرات، أي 360 درجة. كانت المعركة قاسية جداً. وأنا كنت أتوقعها وعرفت أنها ستحدث، وكان يجب أن تبدأ وان تتوقف بعد ذلك في أسرع وقت ممكن. كنت في حاجة الى توقيع العالم على سقوط لبنان بعملية عسكرية وليس تحت ضغط الصراعات الداخلية. انها الشيء الوحيد القانوني الذي يبقى قائماً ونحتفظ فيه بحقنا ولو على المستوى النظري. كل الحروب فرضت علي باستثناء 13 تشرين، أنا فرضتها عليهم. هذا الشيء ربما بدا مفاجئاً على أساس ان في 14 شباط فبراير حرضوا "القوات اللبنانية" على التحرش بالجيش فضربناهم ضربة محدودة. يومها روجوا شائعة ان الجنرال عون جاء ومعه وعد بتولي رئاسة الجمهورية اذا أزال "القوات". راجت الشائعة لأن القوة الاعلامية لم تكن معي، لم يكن لدي لا اذاعة ولا صحيفة فأوضاع الدولة كانت معروفة. أطلقوا الشائعات كأن محادثات تونس دارت في الكواليس. محادثات تونس مسجلة على كاسيتات. لم أذهب الى هناك للتفاوض على رئاسة الجمهورية. المفاوضات كانت على توفير شروط سليمة لانتخاب رئيس للجمهورية وكان طلبي الوحيد ضمان حرية الانتخابات الرئاسية ترشيحاً وانتخاباً، أي اعطاء مهلة للترشيح وضمان وصول النواب للانتخاب. تطور الحديث في تونس مع اللجنة السداسية وشمل الاصلاح. سألني وزير الخارجية الأردني آنذاك مروان القاسم عن الاصلاح والمشاركة، وظنوا أنهم يفاوضون ممثل طرف أو طائفة فتبين لهم أنهم يفاوضون رئيساً لبنانياً مسؤولاً. كل أجوبتي كانت لبنانية ولا علاقة لها بطائفتي. أجبتهم عن الوضع في لبنان. وحين تطرقنا الى الاصلاح أبلغتهم ان المشاركة بين رئيسي الجمهورية والحكومة بلغت قمتها بتوقيع الاثنين على المرسوم نفسه. وقلت لهم أنكم تذهبون الآن أبعد من المشاركة وإذا كان هذا المطلوب هناك صيغة وحيدة هي علمنة الدولة. وهنا يجب وضع شرعة وقيم مشتركة يستوحي منها الحكم لأنه لا يجوز إخضاع السلطة لطائفة أو مذهب من دون وجود شرعة. حين كانوا يتحدثون عن الغاء الطائفية السياسية كنت أشعر بأنها زعبرة تشبه نقل أسهم الشركة من مكان الى آخر. أي تأخذ من الماروني وتعطي الشيعي أو السني أو غيره. هذه زعبرة تبقي النظام طائفياً. النظام الحقيقي المتكافئ لكل المواطنين يقوم على اعتماد العلمنة، ولكن بما اننا مجموعات فهل تخلينا عن خصائصنا؟ ان هذا التخلي لا بد منه للقبول بنظام علماني والا سيبقى الشكل الحالي قائماً. ولماذا يخجل اللبنانيون بالنظام الطائفي؟ ففي البلدان التي لا توجد فيها أكثريات ساحقة أو مطلقة يعتمدون التفاهم بين الأحزاب. وهذا الأمر يعتبر تفاهماً بين المجموعات السياسية والدينية التي يتألف منها الشعب اللبناني. لا شيء يدعو الى الخجل إذا كان النظام تفاهمياً. المسيحيون حين كانوا أكثرية أرسوا قواعد نظام تفاهم ولا بد من أن يستمر "تفاهمياً" الى موعد الوصول الى العلمنة الشاملة التي لا تتم الا بوجود شرعة ملائمة تحدد القيم التي يستوحي منها الحكم قراراته وتحدد الحقوق الأساسية للشعب، حينذاك يمكن الحديث عن تطوير. اما الآن فكل شيء ممنوع مسه. رجل دين يمارس السياسة ولا تستطيع ان تنتقده أو تتعرض له. لماذا الحصانة لرجل الدين إذا كان يتعاطى السياسة؟ كلها مسائل تحمل التباسات. محاولة الاغتيال والهجوم تقول ان 13 تشرين هي المعركة التي اخترتها فهل كان لديك كعسكري خطة لمواجهتها؟ - أعلنت خسارتي. طلبت وقف اطلاق نار. ودعوتهم الى تسلم كل شيء. ألم تكن هذه غاية الحرب. هم لم يقبلوا وتابعوا عمليات القتل، وأنا أحمل الجهات التي نفذت الهجوم مسؤولية كل ما حصل بعد الساعة الثامنة والنصف صباح 13 تشرين الأول 1990. لقد فعلت كل ما طلب مني بواسطة السفير الفرنسي، لكنهم امتنعوا عن وقف اطلاق النار. وما حصل بعد ذلك التاريخ كان يجب ألا يحصل لو لم تكن هناك رغبة في الدخول والاستيلاء على مستندات تخص المؤسسات اللبنانية. وانني أسأل عن موقف المسؤولين اللبنانيين. لم تكن الاهانة لي كانت لهم. حين دخل المهاجمون الى اليرزة كانت أصبحت في عهدة الحكم الحالي. لم نسمع منهم أي ردة فعل على ما حصل، خصوصاً الممارسات التي استهدفت عسكريين ومدنيين. لو عدنا بالذاكرة الى ما حدث؟ - كله تفصيل، المهم هو العبرة من 13 تشرين الأول. كان أمر العمليات السوري موجوداً عندي وأعطيت حجم القوى المهاجمة من كل الجهات وذلك بدءاً من الخميس أي اليوم الذي توافد فيه الناس الى قصر بعبدا. عرفت ان العملية ستتم وجاءتنا معلومات من المواطنين ومن مصادرنا ان المهاجمين وضعوا الشارات للتعارف. وشوهدت تحركات في الضاحية والجبل. لم افاجأ وكنت أعرف أنهم سيستخدمون الطيران، وهو ما فعلوه صباح السبت. يوم الجمعة حاولوا اغتيالي لاعتقادهم ربما بأن الاغتيال يحول دون المعركة فلا تظهر بصمات الجريمة الدولية. اعتقد بأنهم شربوا كأساً مرة حين قرروا، في إدارة بوش، مع سورية استخدام الوسائل العسكرية. ماذا قال الشاب الذي حاول اغتيالك خلال التحقيق معه؟ - كان مخدراً فقد تناول جرعة كبيرة. لم يقل شيئاً مهماً لكنه كشف هويته السياسية. وتبينت صحة ما قاله حين أخذه أحد الوزراء الحاليين واعتبره بطلاً قومياً. انه شاب من الحزب الشيوعي اللبناني مفصول للعمل مع المقاومة الوطنية في الجنوب. كاد العسكريون والناس ان يقتلوه بعد اطلاقه النار في اتجاهي فارسلت من أنقذه. في السابعة صباح السبت بدأ قصف الطيران والمدفعية. جهنم. بدأت أتلقى إفادات من العسكر على الجبهات. كان العسكر يقاوم ويرد. بدأت المعركة وأعطينا التوجيهات اللازمة. حوالي السابعة والنصف اتصلت بالسفير الفرنسي رينيه ألاّ. وكنت ارسلت اليه ليل السبت - الأحد شروط تسوية وقعتها وتحوي عكس ما يعتقد ريمون اده تماماً، ففيها اعترف بالهراوي رئيساً للجمهورية، على أساس ان الرئيس يذهب بعد ست سنوات وبغض النظر عن شخصيته وطبيعة خلفه، وان يفك الحصار وتحل الميليشيات. لكن الجوهري هو ألا يصبح اتفاق الوفاق ناجزاً الا بعد انتخابات برعاية الأممالمتحدة، والمجلس الجديد يؤكد الاتفاق أو يرفضه. كنت متمسكاً بشيء واحد وهو أن يعلن الشعب اللبناني رأيه في مصيره ومستقبله. حتى الآن يربطون لبنان ببلدان واتفاقات والشعب اللبناني مهمش تماماً ولا يؤخذ رأيه. من كان يفاوض في الليلة الأخيرة؟ - الدكتور بيار دكاش كان عندي وأعطى الورقة للسفير الفرنسي. الذهاب الى السفارة شرط الحكم ماذا بعد اتصالك بالسفير الفرنسي في السابعة والنصف إثر بدء القصف؟ - قلت له أنت سامع الوضع. بما ان هناك تغطية دولية والطيران يقصف لا داعي لانتظار خراب كل شيء. أنا لست في موقع تفاوضي أنا في وضع استسلام. الوضع التفاوضي فيه شيء من القبول أنا سقطت بالقوة. أنا اعتبرت نفسي ساقطاً بالقوة. من كان صاحب فكرة توجهك الى السفارة الفرنسية؟ - عندما اتصلت بالسفير الفرنسي لوقف العمليات العسكرية قال لي سأقوم بمسعى فردوا عليه بضرورة توجهي الى السفارة الفرنسية شرطاً لوقف اطلاق النار. الطلب جاء من الهراوي والبير منصور والسفير أقدر على تحديد الشخص. طالبوا السفير بأن أتوجه الى السفارة، وان أعلن منها وقف اطلاق النار. تجادلت مع السفير وقلت له ليس من المعقول أن أذهب وكان القصف كثيفاً الى درجة لم يكن في استطاعة المرء أن يضع اصبعه في الخارج. وفهمت ان اصرارهم على خروجي وسط كثافة القصف ربما رمى الى التخلص مني على الطريق. قلت له سأجيبك. فكرت في الموضوع. ولم أجد مخرجاً فالمزيد من المقاومة يعني المزيد من الضحايا. هناك قرار دولي واضح وما كنا نريده تحقق وهو اننا لم نوقّع بل غلبتنا قوة عسكرية. ووجود نوعين من الطيران في الأجواء لدولتين اقليميتين أحدهما يقصف والآخر يراقب عن ارتفاع شاهق كانت له دلالات. قررت التوجه الى السفارة وصعدت الى ملالة ورافقتني ملالة مواكبة. تعرضنا للقصف على الطريق لكننا وصلنا. وحين وصلنا قالوا ان ذلك ليس كافياً وان المطلوب هو ان أعلن بصوتي عبر الاذاعة وقف اطلاق النار وانتقال السلطة ايضاً ولم يضعوا صيغة. اتصلنا يومها بمدير الوكالة الوطنية للاعلام وأعطيته النص الذي بثته الاذاعة وفيه: نظراً الى الوضع الدولي وانقاذاً لما تبقى نطلب من الجيش الامتثال لأوامر لحود قائد الجيش العماد أميل لحود... فعلنا ذلك لكنهم لم يوقفوا اطلاق النار واستمر القصف ودخلوا اليرزة وحدث ما حدث في بسوس، وادعوا ان الأوامر لم تصل. أعتبر ما حصل جريمة تاريخية حاولوا عبثاً تغطيتها. هل نستطيع الجزم بأنه لم تكن هناك خطة مسبقة للجوء الى السفارة الفرنسية؟ - لا لم تكن هناك أي خطة. كانوا يتوقعون مقتلي أنت عسكري وتوقعت الهجوم فماذا أعددت؟ - هجوم هجوم. أنا أواجه مصيري. لست مجرم حرب، لست خائفاً. لم أكن خائفاً من الاغتيال فقد اغتالوا كثيرين. لم أكن أتوقع في أي لحظة من اللحظات أن أذهب الى السفارة الفرنسية. كان يمكن أن يغتالوني أو أن يقتادوني الى السجن. عملياً أنقذتك شروط الحكم؟ - لا. انقذتني الظروف التي نتجت منها: أولاً لأنني تمكنت من الوصول فقد كانوا يرغبون في التخلص مني على الطريق فالخروج في ظل كثافة القصف كان مخاطرة. اعتقدوا بأنني لن أصل وانهم سيستطيعون القول قُتل في القصف وانهم أبرياء من دمي، واعتبروا ذلك أفضل لهم من أن يصلوا الى القصر ويقتلوني فيه. هل تعتقد فعلاً بأن المطلوب كان ان تقتل على الطريق؟ - طبعاً لأنهم عادوا وقصفوا السفارة وأنا فيها. والغريب انني نجوت في السفارة نفسها فقد تكسر كل شيء حولي وبقيت حياً أنا والسفير ألاّ. ثلاثة صواريخ أصابت بيت السفير حيث كنا. لقد أكملوا القصف على بيت السفير في مار تقلا الحازمية، علماً أن لا عسكر في المحلة؟ كانت لديهم رغبة في القتل ولذلك تعقدت الأمور واستدعى رينيه الاّ طائرة بعد الظهر معتبراً أن مغادرتي للبلاد ضرورية. لكنهم أوقفوا الطائرة. وكانت الخطة بين السلطة والسفير ان طائرة هليكوبتر ستقلني بعد الظهر الى قبرص ومنها الى فرنسا قبل عائلتي وليس العكس. اللجوء وقطع الاتصالات كيف ترتبت قصة اللجوء؟ - بمجرد وجودي في السفارة وما حصل من تصفيات عندئذ أبلغتني فرنسا بموقفها. هل اتصل بك أحد المسؤولين بعد وصولك الى السفارة؟ - قطعت عني الاتصالات في السفارة. عندما دخلت السفارة وقبلت الشروط لم يعد في استطاعتي القيام باتصالات. أبلغت قيادة الجيش قبل اذاعة البيان بما سيحدث وأوقفت الاتصالات. ووفقاً للأصول لم يعد لي حق في اتصالات وانقطعت. ماذا كان شعورك في حينه؟ - طبعاً لم يكن لدي شعور بالاغتباط ولكن لم تكن لدي أي مرارة. وأذكر حديثاً مع عائلتي قلت لهم فيه: أنا سأرتاح الآن لكن الشعب اللبناني سيتعب كثيراً. عائلتك بقيت في القصر بعد مغادرتك؟ - نعم فأنا ذهبت الى السفارة على أساس انني سأرجع. لهذا السبب بقيت إذاً؟ - طبعاً لم نكن هربانين. وعائلتي لم تكن عائلتي المباشرة فقط بل كان هناك العشية والحراس وبنات يعملن في مكتب الاعلام. كانوا يعيشون معنا كعائلة. من أخرج عائلتك من القصر؟ - علي ديب ضابط سوري وايلي حبيقة. والأخير أوصلها الى السفارة حيث أقمت نحو 321 يوماً. بماذا كنت تفكر في السفارة وأنت تسمع أنصارك يطلقون منبهات سياراتهم "جنرال... جنرال"؟ - عدا عن ذلك، لقد وصلتني الرسائل بكميات وبالأكياس. شعرت بأن الشعب اللبناني لم يتغير وانه متمسك بموقفه وشعوره والتزامه وما زال. وفكرت في الوسيلة النافعة لنصون الشعب اللبناني فطلبت بالوسائل الممكنة وأوصلت خبراً الى من يفترض أن يبلّغ وخلاصته ارفضوا الأمر الواقع فقط ولكن من دون أي مقاومة عسكرية لأن القرار العسكري بسحقنا اتخذ وتاريخ المنفذين لا يحتاج الى دليل. ثم ان الظروف غير مواتية للعمل العسكري. وطلبت منهم التصرف كشعب محتل لا كشعب متعاون مع الحكم القائم. من هندس صيغة خروجك من لبنان؟ - فرنسا والحكومة اللبنانية. أنا لم أشارك فيها. فرنسا والحكومة ظاهرياً، ولكن هل هناك من هو خلفهما؟ لا أعرف. منفي الى الأبد إذا بقوا رسمياً أنت في المنفى لخمس سنوات؟ - هذا قرار تعسفي وغير وارد في أي قانون. هذه المسائل لا هُم ولا غيرهم يستطيعون تحديدها. إذا بقوا هم فأنا منفي الى الأبد، وغداً يذهبون وأعود الى لبنان. هذا ليس قرار نفي انه قرار اغتيال، "إذا جاء قبل خمس سنوات نقتله". وإذا بقوا في الحكم بعد خمس سنوات ورجعت يبقى قرار القتل قائماً. من يسلم نفسه الى هؤلاء؟ أعيدك الى ما تقوله الدول العظمى نفسها عن القوة المهيمنة. ومن يستطيع ان يطمئن حين يجلس في مقاعد الحكومة والمجلس واضعو السيارات المفخخة؟ لنقل على صعيد الحلم، هل تتصور نفسك عائداً الى لبنان؟ - لنترك الحلم. أنا مؤمن وفي الإيمان هناك الرجاء. والرجاء فضيلة تجعلك وأنت في الظلام واثقاً من وجود النور. لا حاجة الى رؤية النور لادراك وجوده. الرجاء يجعلك تتأكد ان الظلام حالة عابرة. ثم هناك الحقائق التاريخية. الشعب لا يموت. ممثلو الأنظمة يموتون. وما قلته لك عن ياسر عرفات صالح بالنسبة إلي. للقضاء على ميشال عون لا بد من القضاء على آخر جيل وعلى من كان في بطن أمه في عامي 1989 و1990، طالما أنا الحلم الذي حلم به اللبنانيون ولم يتحقق. الحلم لا يزول من ذهن الناس وتعلقهم به الا حين يتحقق. حلم بماذا؟ - أنا كنت بالنسبة الى اللبنانيين وبما وعدتهم به بمثابة حلم وهناك من سأل هل الأمر حلم أم وهم. والأمر راوح بين الحلم والوهم وبين الحلم والحقيقة. هناك قاسم مشترك بين كل ما كتب عني وهو حلم أم وهم وحلم أم حقيقة. الحلم لست أنا بل ما تكوّن عني في ذهن اللبنانيين. الحلم لا يفارق الانسان. أما ان يبقى حلماً ويعمل لتحقيقه وحين يتحقق يكتشف هل كان أجمل مما فكر فيه أم أبشع. وكيف حين يكون الحلم أمنيات شعب ويكون مستنداً الى واقع يحتاج الى اصلاح والى مجتمع يحتاج الى تغيير إذا كان الفساد مستمراً. وهذا الحلم بما يمثله هو حاجة ملحة ملتصقة بكل لبناني وحين تتغير الظروف القاهرة لا تبقى الا الثوابت. هل تشبه تجربتك تجربة شخص أبعد من بلده وعاد؟ وهل تشعر بأن وضعك قريب من وضع ذلك الشخص؟ أي هل يمكن أن يتكرر معك شيء حدث مع شخص آخر في ظروف مشابهة اذا لم تكن مطابقة؟ - إذا أردت: الحادثة التاريخية حين حاصروا فخر الدين ونفوه. هذا ما يقوله التاريخ. سقط فخر الدين في معركة عسكرية. الشعب اللبناني كله كان معه وكان هناك بالتأكيد عدد من المتآمرين لكن الشعب كان معه. نعرف من أحبوك ولكن من هم الذين تعتبر انهم خانوك؟ - "القوات اللبنانية". ومن العسكريين؟ - لا أحد، لا مسيحيين ولا مسلمين، لا في الشرقية ولا في الغربية. ماذا لو قلنا عنك انك أول جنرال انقلابي في لبنان؟ - لست انقلابياً بل العكس. لم يحصل لي هذا الشرف كان الوضع يستلزم انقلاباً لكن ذلك لم يحصل. أنا تسلمت السلطة دستورياً. لكنك كنت تحذر قبل 22 - 23 ايلول سبتمبر 1988 موعد خلو مركز الرئاسة في لبنان من انك لن تترك البلد ينزلق الى فراغ؟ - نعم. وقلتها قبل ذلك بأيام. كل أيلول كانت هناك مواقف. لم نكن في حال عادية. مجلس النواب مشلول. الدولة منقسمة. وهناك الوطن والهوية. كل المؤسسات كانت تذوب. ليس هناك رئيس جمهورية. ومجلس الوزراء موجود على الورق وزير في عكار وآخر في البقاع وثالث في الجنوب، ومجلس النواب لا يستطيع الاجتماع وأنت قائد القوات المسلحة فماذا تقول؟ من هي المؤسسة المؤتمنة على سلامة الأرض. ان قسمها يجبرها على تحمل مسؤولياتها ولا يعتبر ذلك تطاولاً. كنت أتحدث من منطلق مسؤوليتي ولو تكرر الظرف لكررت ما قلته آنذاك من دون أن تكون لدي فكرة انقلابية. إذا تخلت كل هذه السلطات فهل نترك البلد يضيع؟ في الماضي رددت على النائب المرحوم كاظم الخليل حين قال كلكم ترقصون حول نعش لبنان، فقلت له ان الوطن ليس رئاسة الجمهورية ولا مجلس النواب. الوطن شعب وأرض وإذا حفظت الشعب والأرض تستطيع اقامة نظام جديد برئيس ومجلس. أنا أخذت المبادرة ووعدت اللبنانيين بأنني لن أترك البلد ينهار. حين جئت الى بعبدا بتكليف دستوري حافظت على القسم وعلى ما وعدت به ولكن كان قيام الدولة ممنوعاً في لبنان ولذلك حوربت. حاولوا استدراجي هل كان التكليف الدستوري إحدى نقاط ضعفك، وهل كان أفضل لو جئت بعمل انقلابي يحررك من توازنات معينة؟ - لا أبداً. الوصول الدستوري كشف المؤامرة أكثر. لو جئت بغير وسيلة لقالوا عني انني انقلابي وبرروا قتلي في اليوم الثاني بحجة انني ضد المؤسسات الدستورية. وكل ما حاولوا ترويجه شعبياً كان مغرضاً. كانوا يقولون مثلاً على الجنرال أن يقتل سمير جعجع قائد القوات اللبنانية وكانوا يريدون ان أفعل ذلك ليحملوني مسؤولية تفكيك الصف. كانوا يريدون ان أمنع النواب من التوجه الى الطائف ليقولوا انني منعت مناسبة دولية لفرض السلام في لبنان، وهذا الرجل مجنون حرب. حاولوا استدراجي الى اخطاء مميتة ولم أفعل. وفي النهاية أبرموا التحالف بين القوات والبطريرك لتغطية الاتفاق. معوض والقصر هل تشعر بالندم لأنك لم تسلم القصر الى الرئيس الراحل رينيه معوض؟ ألم يكن ذلك أفضل من الاستسلام لاحقاً؟ - لا. الأمر نفسه: رينيه معوض لم يقتل لأنه لم يأت الى بعبدا، قتل لأنه لا يريد أن يكون كغيره. بين انتخاب رينيه معوض واغتياله ماذا حدث بينك وبينه؟ - ذهب أناس وجاؤوا. ماذا طرح عليك؟ - لم يطرح شيئاً. الذين جاؤوا وذهبوا هم الذين طرحوا. ماذا قالوا؟ - تحدثوا عن مشاركة في السلطة. قلت لهم ان المسألة ليست مسألة مشاركة في السلطة. كل الذين طرحوا وبينهم الأخضر الابراهيمي وكل الوسطاء طرحوا علي أشياء مغرية من مادية وسلطوية. هل طرح الابراهيمي أشياء مالية؟ - وسطاء آخرون طرحوا ذلك، أما الأخضر فطرح علي المشاركة في السلطة بحجم محترم فقلت له هذا كله لميشال عون ولكن ماذا أعطيتم للبنان. كلهم اعتقدوا بأنهم يستطيعون شرائي بدور شخصي، من الادارة الأميركية الى غيرها. أنا رفضت كل الأدوار الشخصية. وربما لم يصدقوا حتى الآن انه لو انتهت الأزمة اللبنانية لكنت فضلت نزهة في الطبيعة ولما أقمت في قصر بعبدا أو في مركز المسؤولية. البشر مطبوعون على أشياء تمنعهم من رؤية ما هو استثنائي. السلطة ورائي وليست أمامي. أنا مارست قيادة كان فيها حياة وموت ولم يرفض لي أحد أمراً على مدى حياتي. إذا كان الغرض اشباع الشغف بالسلطة في نفسي فأنا شبعت منها، ولن يحدث أن أمارسها أكثر مما مارست. اذا كانت مسؤولية ثانية فذلك أمر آخر. ليس لدي ذلك التوق. زمور زمّرولنا. دقولنا الموسيقى. جيش بأكمله استعرضناه. وقفنا مكان الرؤساء. وكمظهر، القيمة نفسها سواء كان مرة أم كررته كثيراً. الجنرالات والسلطة جنرال، أنت متهم بأنك تحب السلطة؟ - لا تستطيع اتهام شخص لمجرد ممارسة المسؤولية بمحبة. التجارب تقول ان الجنرالات يعشقون السلطة وينظرون الى المدني كعاجز. يوم كنت في قيادة الجيش في اليرزة ألم يخالجك الشعور مثلاً انك لو كنت في بعبدا لما كان حالها كما كان؟ - أبداً. أنا كنت أعرف أبعاد الأزمة، ولذلك امتنعت عن انتقاد أي رئيس سبقني مع انه مثل كل الناس يمكن انتقادهم. تقصد القول ان حلم الرئاسة لم يراودك حين كنت قائداً للجيش؟ - أنا أعرف الأزمة وعشتها. وربما كنت ويا للأسف في وضع فريد. أنا الوحيد المنفذ والشاهد والمقرر في الأزمة اللبنانية. منذ ان كنت برتبة ملازم أول بدأت أصطدم بالمنظمات الفلسطينية. وفي حرب 1967 كنت في القطاع الشرقي في الجنوب وشاهدت المعارك أمامي. أنا منفذ وشاهد ومقرر. ربما كان في استطاعتي ان أناور هنا وهناك. ولكن لم تسألني عن تصلبي؟ هناك شيء أساسي اغفلته: تقول ان العسكريين يعتبرون المدنيين غير صالحين في الأزمات، وأقول انني كعسكري لا أفهم أكثر أو أقل. لا علاقة للأمر بصفتي العسكرية. كشخص يحلل هنا يصبح هناك خلاف بيني وبين غيري في شأن الأزمة. كل اللبنانيين تعاملوا مع الأزمة كأنها ظرفية بينما هي أزمة وجودية تتعلق بوجود لبنان وكل طرف عالجها حسب تصوره. بدل ان يعالجوا السرطان حاولوا علاج وجع الرأس مثلاً. المشكلة في التشخيص الخاطئ فريق تعامل عن حسن نية من دون ادراك الجوهر، وفريق آخر كان مجرد أدوات لأطراف مختلفة وفقد قراره وموقعه الوطني. على مدى 15 سنة حرباً حدث ارتباط للقوى المسلحة الميليشيات بقوى خارجية وباتت مستعبدة لهذه القوى والقرار السياسي الكبير الذي يدير الأزمة يمسك بالاثنين، اذا لم تتحرك يحركون من هو في المقابل فيحصل رد فعل من جانبك. لم تعد اللعبة في أيدي اللبنانيين. أنا حاولت بكل امكاناتي المتواضعة تحرير اللعبة وارجاعها الى الساحة. ألم تخطئ في التوقيت؟ - ليس هناك توقيت. لبنان كان رايح. وإذا كان هناك الآن أمل باعادته فإن مرد ذلك الى موقفي أنا. لو جاء مخايل الضاهر في 18 ايلول 1988 بالشروط المعروفة ماذا كان بقي من فرص مقاومة قرار ضم لبنان؟ لماذا سميتها حرب تحرير ما دامت فرضت عليك؟ - ماذا تريد ان اسمي حرب الضعيف ضد القوي الذي يحتله؟ ألم تبدأ أنت باطلاق النار؟ - لا هم الذين بدأوا. هل نسيت قصف المرافئ؟ ألا تتذكر ان الرئيس سليم الحص طلب اثر قصف الاونيسكو تشكيل لجنة تحقيق عربية بعدما اتهموا الجيش بقصف المنطقة وكنت أنا من اثنى على طلبه ولماذا سكت وأنا ما زلت أطالب. هم قصفوا الاونيسكو.