ظلت النمسا، طوال 40 عاماً الماضية، تحتل مكانة استراتيجية كدولة محايدة في قلب القارة الأوروبية، وكبوابة تفصل بين الستار الحديدي وقوات حلف وارسو وبين قوات حلف شمال الأطلسي. وفي عهد برونو كرايسكي 1970 - 1983 أول مستشار نمساوي يهودي، لعبت النمسا دوراً مركزياً جديداً. ففي الوقت الذي لم تقم فيه الدول الأوروبية الغربية، بشكل عام، علاقات مع منظمة التحرير، أقام كرايسكي علاقات قوية مع المنظمة، فيما كانت النمسا المكان الذي وصل اليه المهاجرون اليهود القادمون من الاتحاد السوفياتي سابقاً، في طريقهم الى اسرائيل والغرب. ومع ان الكثيرين اعتبروا ذلك عملاً غير ودي تجاه الفلسطينيين فانه فتح الباب أمام اليهود الروس للتوجه الى الولاياتالمتحدة بدلاً من الهجرة الى اسرائيل. "الوسط" التقت في نيويورك وزير الخارجية النمساوي المخضرم الدكتور ألويس موك وحادثته عن موقف بلاده حيال القضية الفلسطينية والنزاع في البوسنة والهرسك. لماذا اختلف موقف النمسا حيال القضية الفلسطينية عن موقف جاراتها في أوروبا الغربية؟ - أعتقد أنه كان موقف الدكتور كرايسكي. وهو موقف أعرب عنه في سياساته حين قال انه ليس في وسعنا أن نتجاهل منظمة التحرير الفلسطينية إذا كنا نريد العثور على المفتاح الأساسي لوقف اطلاق النار والهدنة، وبالتالي إحلال السلام في الشرق الأوسط. وهذا أمر لم تدركه دول كثيرة لفترة طويلة، لكنني أعتقد أنه كان موقفاً له ما يبرره. ومع اننا كنا نختلف مع زعيم المعارضة في النمسا على نقاط عدة فاننا كنا نشترك في رأي واحد وهو أنه ينبغي علينا أن نتحدث الى الفلسطينيين وممثلهم المعترف به، ولكن يجب ألا نعترف رسمياً بمؤسسة مثل المنظمة إذا لم تنأى بنفسها بشكل واضح عن الارهاب. وقد اختلفنا وتشاجرنا. ولكن النمسا مضت قدماً على رغم ذلك واعترفت بالمنظمة. وبحلول العام 1988 أصبحت وزيراً للخارجية، حيث كان من الواضح أن منظمة التحرير تخلت عن النشاط الارهابي. وقلت لرئيس الوزراء انني غير مرتاح الى نوعية الاعتراف وانه يجب أن يسير مع القانون الدولي، أي الى درجة لا تصل الى الاعتراف بالمنظمة كدولة لأنه لم يكن هناك أرض دائمة. هناك سلطة تنفيذية وهناك شعب ولكن ليس هناك أرض. كانت تلك المرحلة الأولى من مساهمتنا. أما الآن فهناك مرحلة ثانية، وبشكل خاص في مجالات عدة، كالمياه مثلا، وهي مسألة سياسية مهمة في تلك الأراضي. كما بدأنا البحث في مسألة توفير الكهرباء والطاقة وحل مشكلة اللاجئين. كذلك علينا أن نقدم مبلغاً من المال لم يتحدد نهائياً، ويراوح بين 150 مليون شلن أو 250 مليوناً لانعاش اقتصاد الأراضي المحتلة. يقول البعض ان حركة الاشتراكية الدولية هي التي ساعدت النروج على الوساطة لأنها مع منظمة التحرير وحزب العمل الاسرائيلي أعضاء في الحركة. والنمسا لها دور مهم في الحركة. فهل لها أية علاقة بذلك؟ - بالطبع أنا لا أعرف ما الذي قالوه. لكن الطريقة التي انتقد بها كرايسكي الموقف الاسرائيلي لمدة حوالي عشر سنوات لم تكن تلقى التأييد في الحركة الاشتراكية الدولية. ولهذا فأنا لا أظن أنها كانت نقطة التبلور. صحيح ان الناس كانوا يعرفون بعضهم بعضاً لأنهم كانوا أعضاء في الحركة. الآن وقد تحقق الاتفاق، كيف ترى سير المصالحة بين منظمة التحرير واسرائيل؟ - من الواضح ان الاتفاق يمثل دفعة حيوية الى الأمام لعملية السلام. لكن صلاحيات الحكم الذاتي للمناطق الفلسطينية المقسّمة ليست سوى البداية، إذ يجب أن تكون النهاية حصول الفلسطينيين على حقوقهم الكاملة في تقرير المصير كجزء من تسوية دائمة تقوم على قرارات مجلس الأمن الدولي. وهذا أمر لا يمكن أن يتحقق إلا إذا توصلت اسرائيل الى سلام دائم يقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام مع الدول العربية. هل ساعد تاريخ النمسا في الدور الذي تقوم به كجسر بين الشرق والغرب؟ - بالنسبة الى اوروبا الشرقية لدينا صلات قديمة كثيرة. والنمسا بالنسبة الى الكثير من الدول مكان التقاء، ولكن بأبعاد مختلفة. فمنظمة "اوبك" تلتقي هنا مثلاً. ولدينا ايضاً معهد اسمه "تأييد المشرق" يعقد ندوات واجتماعات مشتركة. وفي وقت سابق من هذا العام استضفنا مؤتمراً للحوار بين الاسلام والمسيحية. وعلى سبيل المثال حين كنت أدرس القانون كان بين المواضيع التي درستها قانون عام 1908 الذي نص على اعتراف النمسا بالمذهب الحنفي رسمياً إضافة الى المذاهب الاسلامية الاخرى والمذاهب المسيحية من بروتستانتية وكاثوليكية. ومما ساعد على إقرار ذلك القانون آنذاك وجود عدد كبير من المسلمين في النمسا، ثم ضم البوسنة والهرسك. هل لعلاقة النمسا التاريخية مع البلقان اثر عاطفي على ما يحدث في البوسنة الآن؟ - نعم، لكن علينا ان نلتزم الحذر الشديد تجاه العواطف، لأن العواطف ربما تؤثر احياناً اكثر مما ينبغي. وهذا امر لا بد ان كل الدول تختبره. إلا أنني أود أن أشير هنا الى الناحية الايجابية، مثل المساعدات الانسانية، اذ أن اكثر من نصف المساعدات الانسانية التي نقدمها الى البلقان من المصادر الخاصة والناس العاديين. يقول السياسي البريطاني دينس هيلي ان سبب التقاعس الاوروبي تجاه احداث البوسنة هو وجود اتفاق بين الالمان والبريطانيين، اذ ضمنت ألمانيا الاعتراف الاوروبي بكرواتيا وسلوفينيا في مقابل حصول رئيس الوزراء جون ميجور على موافقة الجماعة الاوروبية على ابقاء بريطانيا خارج اطار التزامات الميثاق الاجتماعي في معاهدة ماستريخت للاتحاد الاوروبي. فما هو رأيكم انتم؟ - من المؤكد ان دينس هيلي سياسي خبير جداً ويحظى باحترام كبير. لكنني ارى ان من الخطر الافراط في تفسير السياسات الداخلية في المانياوبريطانيا. إذ كان هناك وقت لم يظهر فيه الالمان أي اهتمام اطلاقاً بالمشكلة. لكن، كما نعرف، بدأت المشكلة تتسع الى ان اصبحت صراعاً عسكرياً وسياسياً. وكانت الدول المجاورة هي الاولى التي ابدت اهتماماً حقيقياً. اما البريطانيون فهم أبعد جغرافياً. ومن المؤكد ان موقفهم كان سيختلف لو ان شيئاً من هذا القبيل حدث مثلاً في سكوتلندا او ايرلندا. وهناك انكار معين للقومية في اوروبا بأسوأ اشكالها حين تحل في الفراغ الذي تركته الايديولوجية الشيوعية. ولكن أنماط التفكير القديمة تتداخل على السطح في الغرب كله. المهم انه يجب علينا ان نتطلع الى المستقبل لا الى الماضي. اذا قبلنا، ان الدول الاوروبية اخطأت التصرف، مهما كانت الاسباب، فما الذي كان ينبغي ان يحدث في رأيكم؟ - في كانون الاول ديسمبر 1991 بحثت لجنة فرعية في أول مؤتمر أوروبي للسلام في يوغوسلافيا السابقة اموراً من بينها طرق حماية الاقليات. ووافقت الجماعة الاوروبية على الاعتراف بأية جهة تفي بتلك الشروط. وقبلت سلوفينيا والكروات والمقدونيون والبوسنيون ذلك ولهذا تم الاعتراف بهم. لكن الصرب وجمهورية الجبل الاسود رفضوا وقالوا انهم لا يعترفون بالاقليات داخل حدودهم. وفي اللحظة التي بدأوا يصدرون افكارهم هذه بالقوة، في ربيع عام 1992 عندما هاجموا البوسنة كان ينبغي استخدام الطيران. فلو استخدمناه آنذاك لكان كافياً وبالتالي فان المشاكل كانت ستُحل. أما اليوم فان ذلك لم يعد كافياً. والسبب هو ان هناك اليوم الجانب الانساني من الحوافز والدوافع. ليست المسألة مسألة بوش او ميتران او ميجور فحسب، إذ أنهم جميعاً لم يأخذوا المسألة بالجدية اللازمة. فما الذي حدث؟ لقد اثبتنا اننا لن نكفل او نضمن حقوق الاقليات ولهذا فان الثمن سيكون اكبر بكثير. ان المجازفة اعلى كثيراً عسكرياً واقتصادياً اذا كنا نريد اعادة احلال السلام. يبدو انك غير راض عن خطة التقسيم التي يجري فرضها الآن على حكومة البوسنة؟ - طبعاً. اذن ما هو البديل؟ أو هل هناك بديل؟ - نعم، ولكنه بديل صعب جداً وينطوي على المجازفة. يجب ان نلتزم ما نقوله منذ أربعين عاماً في ميثاق الاممالمتحدة. وهناك وسيلتان: وسيلة اجراء الامن الجماعي كما حدث عندما غزا العراقالكويت، او اذا لم يكن هذا ممكناً، لأنه يستحيل اجبار دولة على خوض حرب اذا لم تشعر انها تستحق الخوض، فانه يجب علينا على الاقل ان نوافق طبقاً للمادة الحادية والخمسين من ميثاق الاممالمتحدة على حق الدفاع المشروع عن النفس. اذ ان البوسنة والهرسك حرمت من هذا الحق منذ البداية، ولذا يجب رفع حظر الاسلحة عنها.