أخذاً في الاعتبار التصريحات الأميركية بالتحرّك خارج المنظومة الأممية بالنسبة للملف السوري، سنتحدث عن ملابسات التدخّل العسكري في إقليم كوسوفو إنعاشاً للذاكرة واعتماداً على آلية القياس، فماذا حدث؟ جرائم التطهير العرقي في كوسوفو استدعت تدخّل حلف الأطلسي ضد دولة الاتحاد اليوغسلافي، إلا أنه تدخّل أثار إشكالية تحديد مشروعيته لأنه خارج الإطار الأممي، ولكنه تم، وهذا هو بيت القصيد والقصيدة كلها. ضمت جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية السابقة مزيجاً من قوميات اعتنقت مذاهب دينية مختلفة، مكونة من 6 جمهوريات: صربيا، الجبل الأسود، مقدونيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، ولكن الرئيس اليوغوسلافي السابق «تيتو» تمكّن من احتواء الصراعات التقليدية بين القوميات، بل وتوحيدها إيديولوجياً تحت مسار اشتراكي، ونظام حكم فيديرالي يسمح بلامركزية السلطة، وطبعاً ومن خلال هذا «البرواز» السياسي تمكّن إقليم كوسوفو من التمتع بالحكم الذاتي داخل جمهورية صربيا، فغيّب الموت تيتو عام 1980 عن المشهد، وعندها سعى الصرب إلى إعادة بناء دولة يوغوسلافيا باحتلال المواقع المهمة في المؤسسات الفيديرالية للدولة، فكيف تمكنوا؟ بسيطرتهم على الجيش الاتحادي الذي شكّل الصرب قرابة 80 في المئة من عناصره، إلاّ أنه مسعى صربي بلغ مداه في عام 1989، حيث انتهاء الحرب الباردة بحلول 1991 حين بدأت جمهورية يوغسلافيا الاتحادية في التفكّك بتأثير الدمينو بعد تحلّل الاتحاد السوفيتي، ما أجبر المجتمع الدولي، والأوروبي بخاصة في عامي 91-92 بالاعتراف باستقلال كل من جمهوريات كرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا والبوسنة والهرسك، ولكونها جمهوريات تضم أقليات صربية فقد شنّت جمهورية صربيا حروباً مدمرة ضد هذه الجمهوريات المستقلة حديثاً، لتمكين الأقلية الصربية من السيطرة على أكبر مساحة للبلاد، وضمها إلى جمهورية صربيا الأم تحقيقاً لحلم قديم بتكوين دولة صربيا الكبرى، حلم أحياه زعماء الصرب وعلى رأسهم سلوبيدان ميلوسيفيتش الذي تولى رئاسة جمهورية صربيا ثم رئاسة جمهورية يوغسلافيا الجديدة، فألغى في عام 1989 الحكم الذاتي لإقليم كوسوفو الذي يشكّل العنصر الألباني 90 في المئة من سكانه، فكيف استجاب ألبان كوسوفو؟ بإعلان رغبتهم في الاستقلال عن دولة يوغوسلافيا، ولكنهم انقسموا إلى فريقين، الأول وتزعمه إبراهيم روغوفا بمنهج المقاومة السلمية بالتفاوض مع الحكومة المركزية في بلغراد، والفريق الثاني باستراتيجية تحقيق الاستقلال بالقوة المسلحة، إلا أنه وفي عام 1992 جرى استفتاء أسفر عن إعلان جمهورية كوسوفو المستقلة، وانتخاب الشعب الألباني روجوفا رئيساً له، ولكن أنصار الفريق الثاني استمروا على موقفهم المسلح، حتى شكلّوا جيش تحرير كوسوفو، فقرر عندها ميلوسيفيتش أن يحكم الأقلية على أسس عرقية ودينية وبأسلوب الدولة البوليسية، فأرسل قواته لاقتلاع الألبان من ديارهم وإحلال العنصر الصربي تطبيقاً لسياسة التطهير العرقي، فبدأ جيش تحرير كوسوفو بنضاله المسلح، فتفجرت أزمة كوسوفو على نحو استدعى التدخل الدولي لاعتبارين: إنساني أولاً، ولما فيه من تحد أمني سياسي للدول الأوروبية ولاستقرار الوضع في منطقة البلقان لضمان أمن شرق البحر المتوسط، بوجود توجهات الاتحاد السوفيتي وتركيا واليونان. فكان للفقه القانوني قولان: أحدهما ويرى عدم شرعية تدخّل الحلف، والآخر ويعتقد بشرعيته على اعتبار مشروعية الهدف وقيام حالة الضرورة، فميثاق الأمم يمنع الاستخدام الفردي للقوة في العلاقات بين الدول لتحقيق مصالحها الذاتية، أمّا تدخل الحلف في كوسوفو فكان جماعياً من منظمة مسؤولة عن تحقيق مصالح أعضائها، وإن قيل إن الحلف الأطلسي ليس منظمة إقليمية بمفهوم الفصل الثامن من الميثاق، ولكنه رابطة دفاعية. فماذا نستنتج من هذا كله، التدخّل في كوسوفو بالإمكان تكراره في سورية - وبأي صيغة وشكل- لو قادته أميركا وكان خارج القانون الأممي، أمّا التحجّج بروسيا والفيتو وتسويف الأمور فلن يسفر إلا عن حولة أخرى، وخطاب أحول آخر. [email protected]